تعدّ المشاهدة بشراهة أو نهم المشاهدة (Binge watching) ظاهرة سلوكية جديدة نسبيًّا، والتي تُعرّف بأنها مشاهدة ما بين حلقتَين إلى 6 حلقات من برنامج تلفزيوني في جلسة واحدة، وقد بدأ هذا السلوك يكتسب شعبية واسعة لدى فئة الشباب نتيجة تطوير العديد من منصات البث، مثل Netflix وHulu وHBO GO وAmazon Prime و+Disney وغيرها.
عصر نتفلكيس
في عام 2013، ابتكرت نتفليكس طرقًا جديدة لاستهلاك البرامج التلفزيونية، حيث يمكن للمشاهد الاختيار من بين محتوى شامل ومتنوِّع ومشاهدة العديد من حلقات المسلسلات التلفزيونية، كما يتوفّر موسم كامل لبرنامج تلفزيوني في وقت واحد، وبهذا تخلّصَ المُشاهد من اضطراره إلى الانتظار أسبوعًا لإصدار الحلقة القادمة كما يحصل في التلفزيون التقليدي، ما فتحَ المجال لظاهرة نهم المشاهدة للنموّ باضطراد منذ ذلك الحين.
يُذكر أن سلوك نهم المشاهدة كان موجودًا في وقت سابق، وتجلّى في مشاهدة حلقات متعدِّدة في ما كان يُطلق عليه اسم الماراثون التلفزيوني على VHS أو DVD أو DVR وغيرها؛ إلّا أن نهم المشاهدة ازداد شعبية بسبب نتفليكس والمنصّات المشابهة خلال السنوات الأخيرة بشكل يفوق الوصف، إلى أن أصبح في النهاية وفي كثير من الأحيان الطريقة الطبيعية لاستهلاك المسلسلات التلفزيونية بين الجماهير.
نهم المشاهدة مقابل الصحّة
تتباين مضارّ نهم المشاهدة بين مضارٍّ جسدية ونفسية نجدُ أولها وأكثرها وضوحًا الخمول البدني المصاحب لساعات المشاهدة الطويلة، حيث يرتبط الخمول البدني بالعديد من المخاطر والأمراض على المدى الطويل مثل السمنة وأمراض القلب والسكّري وارتفاع ضغط الدم وهشاشة العظام والسكتات الدماغية.
يحاول الباحثون إيجاد الفروق بين ما يُطلقون عليه اسم الجلوس النشط مثل العمل على الكمبيوتر في المكتب، والجلوس غير النشط مثل مشاهدة التلفزيون، وقد تمَّ إيجاد رابط بين الجلوس غير النشط وارتفاع مؤشر كتلة الجسم (BMI) بنسبة تصل إلى 25% لدى الشباب، إلى جانب ارتفاع نِسَب الدهون في الجسم لديهم، في حين لم تكن النسبة عالية في كتلة الجسم والدهون فيما يخصّ الجلوس النشط، وهذا وفقًا لدراسات منشورة العام الماضي.
نقمة تناول الطعام أثناء المشاهدة
يمكن أن يؤدي تناول الوجبات الخفيفة أثناء المشاهدة الطويلة إلى خلق نسبة غير متوازنة من السعرات الحرارية، و في الواقع توجد صلة قوية بين مشاهدة التلفزيون والأكل بغضّ النظر عن مستوى الجوع، وهو ما يُرجعه الباحثون جزئيًّا إلى ما يُطلقون عليه اسم Distraction eating، أي الأكل أثناء وجود مصدر تشتُّت وإلهاء، وعادةً ما تتضمن خيارات الأكل أطعمة ومشروبات غير صحّية مثل الوجبات السريعة والمشروبات السكرية والمشروبات الكحولية.
وفقًا لدراسة منشورة في مارس/ آذار العام الماضي، فإن الرابط بين نهم المشاهدة وتناول المزيد من الطعام وزيادة الوزن أمر واضح، وقد حاولت الدراسة شرح آلية حدوث ذلك عن طريق ربطها تسبُّب الإلهاء أثناء استهلاك الطعام بانخفاض القدرة العصبية على معالجة التذوق، ما ينجم عنه إفراط في تناول الطعام وفقًا للاختلافات والقابلية الفردية، وبالتالي إن الانتباه إلى مذاق الطعام أثناء الاستهلاك قد يكون جزءًا من الوقاية وعلاج زيادة الوزن والسمنة.
آلام الرقبة والظهر
نظرًا إلى أن نهم المشاهدة يتطلّب الجلوس لفترة طويلة، فإن هذا يضع الكثير من الضغط على عضلات الظهر والرقبة، ما يمكن له أن يسبّب ضعفها وبالتالي الكثير من الآلام في الرقبة والظهر.
النوم كذلك لا ينجو من نهم المشاهدة
كما هو معروف، فإنّ النوم ضروري للحفاظ على الصحة البدنية وعمل الدماغ بشكل سليم، وما يحدث عند المشاهدة بنهم هو عدم إعطاء الفرصة للدماغ للاستراحة، خصوصًا إن كانت المشاهدة في وقت متأخِّر، وكنتيجة لذلك يستغرق الشخص وقتًا أطول قبل النوم وهذا أحد أشكال الأرق، وإلى جانب ذلك فإن الضوء الأزرق الناتج عن الشاشات المختلفة يثبّط إفراز هرمون الميلاتونين المسؤول عن تنظيم النوم واليقظة، ما يساهم في جعل النوم أمرًا صعبًا.
أشارت إحدى الدراسات المنشورة عام 2017 إلى ارتباط نهم المشاهدة بجودة نوم أقلّ، وزيادة أعراض الأرق، في حين أن مشاهدة التلفزيون بانتظام لم تعطِ نتائج مشابهة، ورغم أن الضوء الصادر عن الشاشات قد يكون هو المشكلة الرئيسية، إلا أن هناك تأثيرًا للمحتوى على النوم أيضًا؛ فعلى سبيل المثال تسبّب مشاهد العنف أو الدماء أو التشويق الشعور بالقلق وينجم عنها في المحصلة صعوبة النوم.
مضارّ على الصحة العقلية
لا تقتصر مضارّ نهم المشاهدة على الصحة الجسدية فحسب، بل تلقي بظلالها على الصحة العقلية، فنجد الكثير من الدراسات التي تربط بين نهم المشاهدة وارتفاع خطر الإصابة ببعض الأمراض والاضطرابات النفسية.
في دراسة أجراها أحد الباحثين عام 2017 في جامعة أبوظبي على عيّنة من سكان دبي، وجد علاقةً مباشرة وقوية بين نهم المشاهدة والإصابة بالاكتئاب، وهذا ما تؤكّده دراسة أخرى بحثَت سلوكيات مشاهدة الشاشات لطلاب الجامعات، بما في ذلك المشاهدة بنهم ودوافع المشاهدة، وقيّمت العلاقات بين سلوكيات المشاهدة هذه والشعور بالاكتئاب والوحدة، وكانت النتائج قاطعة فيما يخصُّ الرابط بين نهم المشاهدة والإصابة بالاكتئاب.
وجد مجموعة من الباحثين في دراسة حديثة نُشرت في فبراير/ شباط 2021 أن أعراض القلق الاجتماعي كانت أعلى لدى الأشخاص الذين يشاهدون بنهم، وقد عزوا ذلك إلى أن الساعات الطويلة التي يقضيها الشخص متسمّرًا أمام الشاشات تفقده القدرة المعرفية على التعامُل مع المواقف الاجتماعية المختلفة، إذ يشعر الشخص بضيق نابع من قلقه بشأن ما يجب قوله أو فعله عند التفاعل مع أشخاص آخرين في بيئة اجتماعية.
أشارت الدراسة نفسها لاحتمالية وجود علاقة بين نهم المشاهدة وتعزيز الشعور بالوحدة، نظرًا إلى أن المشاهدين يميلون إلى مشاهدة عدد متزايد من الحلقات للتعامل مع شعورهم بالوحدة، ما يجعل الأمر أكثر سوءًا ويحدّ من المهارات الاجتماعية ويعزّز مخاطر العزلة الاجتماعية.
رغم تصاعد أعداد الدراسات حول تداعيات نهم المشاهدة على الصحة النفسية، إلا أن الحاجة ما زالت موجودة للمزيد من الأبحاث العلمية، إذ تشكّل كيفية تقييم وقياس نهم المشاهدة تحديًا للباحثين.
تشير دراسة نُشرت عام 2019 إلى أن المشاهدة بنهم قد تؤدي إلى تدهور معرفي في المستقبل، وقد كانت عيّنة الدراسة وعلى غير المعتاد لفئة عمرية أكبر، فقد تمَّ اختيار ما يزيد عن 3500 شخص أعمارهم تتجاوز الـ 50 عامًا، والذين كانوا يشاهدون أكثر من 3.5 ساعة يوميًّا، وقد خلصت الدراسة إلى أن المشاهدة بهذا القدر كانت مرتبطة بضعف الذاكرة اللفظية بعد 6 سنوات، وكان هذا التأثير أقوى بالنسبة إلى الأشخاص الذين كان أداؤهم أفضل في بداية الدراسة.
من الجدير بالذكر أنه خلال جائحة فيروس كورونا، لجأ الكثير من الناس إلى نهم المشاهدة كآلية للتكيُّف مع التداعيات المختلفة للجائحة، ومع الأسف إنه خيار غير صحّي لمحاولة استبدال التجارب الحية غير المقبولة بالخيال والمسلسلات والبرامج التلفزيونية، ووفقًا لدراسة نُشرت صيف العام الماضي فقد كان الدافع النفسي وراء نهم المشاهدة هو الهروب من الملل (52.6%)، وتخفيف التوتر (25%)، والتغلُّب على الشعور بالوحدة (15.7%).
رغم تصاعد أعداد الدراسات حول تداعيات نهم المشاهدة على الصحة النفسية، إلا أن الحاجة ما زالت موجودة للمزيد من الأبحاث العلمية، إذ تشكّل كيفية تقييم وقياس نهم المشاهدة تحديًا للباحثين، فقد اعتمدت معظم الدراسات على مجموعات مختلفة من مؤشرات وأدوات القياس مثل تكرار المشاهدة بنهم، ومدة جلسة المشاهدة الواحدة، وعدد الحلقات التي تمّت مشاهدتها، وحتى الآن لا يوجد سوى عدد قليل من الدراسات التي اقترحت أدوات تمَّ التحقق من صحتها من الناحية النفسية.
كيف أكسر عادة نهم المشاهدة؟
ينصح راندال رايت، طبيب أعصاب في مستشفى هيوستن ميثوديست في ولاية هيوستن الأمريكية، بتحديد موعد للنوم قبل البدء بالمشاهدة في سبيل التخلُّص من عادة المشاهدة بنهم، ويكون هذا بتحديد الوقت الذي تحتاجه للذهاب إلى الفراش للحصول على قسط كافٍ من النوم، وقد يكون من المفيد ضبط منبه لوقت النوم حتى لا يمرّ الوقت دون انتباه.
من المهم إعطاء الأولوية لبعض التمارين الرياضية، فعلى سبيل المثال من الممكن أن يساعد المشي في الحي الذي تسكن فيه قبل بدء المشاهدة، والوقوف لمدة 5 دقائق خلال كل حلقة للحفاظ على نشاط الجسم والعقل، ومن الجيد إيقاف المشاهدة بشكل مؤقت مع الوقوف والتحرك في المنزل بين الحين والآخر، أو مشاهدة البرامج أثناء استخدام جهاز الجري إن أمكن.
يوصي رايت أيضًا بملء وعاء الوجبات الخفيفة مرة واحدة فقط، لتجنُّب الوقوع في فخ تناول الطعام مع وجود مصدر إلهاء، حتى لا ينتهي بنا الأمر بتناول أكثر ممّا نأكله في العادة، هذا إلى جانب محاولة الابتعاد عن الأطعمة المالحة والدهنية واستبدالها بالفواكه الطازجة والخيارات الصحية الأخرى.
كما يوصي بدعوة الأصدقاء للمشاهدة معك أو قضاء بعض الوقت معهم قبل أو بعد المشاهدة، فمن شأن هذا الموازنة بين الوقت الذي تقضيه بمفردك مع الشاشات والوقت الذي تقضيه مع أحبائك، وهو مفتاح تجنُّب العزلة الاجتماعية وغيرها من الاضطرابات النفسية.