أصبحت تونس في حاجة إلى عملية إصلاح شاملة، وسط الأزمة المستفحلة على كافة المستويات، لعلّ أشدها الأزمة الاقتصادية التي قد تأخذ البلاد نحو منزلقات خطيرة، فضلًا عن انسداد الأفق السياسي، فبهذا المشهد الغارق في الضبابية باتَ الوضع في أمسّ الحاجة إلى طمأنة الحائرين عن حاضرهم قبل مستقبلهم، عبر حوار شامل ومتوازن، لا يكون فيه الطرف الحاكم هو الخصم والحكم في آن، وإلا فلن يكون إلا مجرد استفتاء افتراضي، انتقائي، إقصائي غير معلوم المآلات، أو المضي في نفق مسدود مع محاولات إغراق الناس في التفاصيل كسياسة إلهاء لا أكثر، في ظل عدم استجابة رئاسة الجمهورية لضغوط المنظمات الوطنية، فلربما حراكها لا يزال غير مؤثِّر دون تحرك الشارع، الذي من عادته التحرُّك رأس كل سنة، ما ينذر بشتاء ساخن مع بداية ظهور بوادر الاعتصامات والمطلبية.
علّة قديمة ورؤية غير واضحة
لا يمكن إصلاح القديم دون كشف العلل ومعرفة ما يجب إصلاحه، برؤية واضحة وخارطة محدَّدة، وهو ما لم يكشف عنهما قيس سعيّد بغضّ النظر عن مدى قبولهما أو رفضهما.
فأصل الخلافات كانت موجودة بين كل الفرقاء السياسيين والمنظمات، بل ربما بطئها في إيجاد حلول شجّعت انقلاب الرئيس على الدستور والحكومة الحائزة على الثقة بالأغلبية، أو مسايرة لحظات الأزمة دون محاولة إيقافها.
فحتى قبل 25 يوليو/ تموز الماضي، كان الوضع السياسي في تونس على صفيح ساخن بعد أن انقطعت كل سُبل التواصل والحوار بين مؤسسات الدولة السيادية الكبرى، فالدعوات إلى الحوار بدأت مبكّرة وهي ليست وليدة الانقلاب الدستوري.
وفي أوج القطيعة بين كل الأطراف الداخلية، وجدت نفسها تطالب بضرورة إطلاق حوار وطني، ولا تعرف مع من سيتمّ الحوار، حتى ظهرت وساطات غير معهودة في تاريخ البلاد، من قيادات عسكرية متقاعدة تحت عنوان مبادرة “الأمل الأخير”، بهدف استعادة الاتصالات الطبيعية بين الرئاسات الثلاث وتدارُس رهانات المرحلة وحاجياتها.
ويبدو أنها كانت كذلك أملًا أخيرًا فعلًا، رغم رفض اتحاد الشغل وحتى المقرّبين من الرئيس الجمهورية حينها، مثل التيار الديمقراطي، من تدخُّل العسكريين في الحياة السياسية أو حتى كل ما يمهّد لذلك، حيث اتحاد الشغل والتيار الديمقراطي نفسهما كانا قد قدّما نهاية العام الماضي مبادرة للحلّ رفضها رئيس الجمهورية.
كل هذا لم يجدِ نفعًا، وانتهى الأمر إلى تفعيل قيس سعيّد لقناعاته الشخصية التي ذهب فيها إلى أبعد حدٍّ، فبمجرد إعلان الانقلاب لم يعد الرئيس قيس سعيّد يعترف بالبرلمان ولا رئيسه راشد الغنوشي الذي ينافسه الصلاحيات والعلاقات الدولية، ولا بالحكومة التي “غدرَ” بها رئيسها هشام المشيشي وانقلبَ عليها مستعملًا في ذلك صلاحياته الدستورية التي تمنحه سلطة أوسع من سلطة رئيس الجمهورية، ودعم البرلمان وحزب النهضة فيه صاحبة الكتلة الأكبر، ضاربًا عرض الحائط كل دعوات الاجتماع بين رؤساء كل من البرلمان والحكومة والمنظمات الوطنية، للتشاور حول تراتيب إطلاق حوار حول أهم أولويات البلاد لإنقاذها من الوباء والانهيار الاقتصادي، حيث باءت جميعها بالفشل حتى وقع الفأس في الرأس.
ورغم محاولة بعض القوى النقابية والاجتماعية على رأسها اتحاد الشغل، عبر النداء إلى حوار وطني واجتماعي واقتصادي يؤدّي إلى خارطة طريق وجملة من التفاهمات، تقلِّص هوة الخلاف بين الرؤساء الثلاث وتنقذ البلاد من السقوط، إلا أن مؤسسة الرئاسة كانت دائمًا تصرُّ على أنه لا حوار إلا مع “من تريد” ولا حوار مع “الفاسدين” بكل تعميم وإجمال ودون تخصيص وتفصيل.
ما أدّى في النهاية إلى فشل أو إفشال دعوات الحوار من هنا وهناك، ووصول البلاد إلى الحافة وإعلان الرئيس الإجراءات الاستثنائية وتجميد البرلمان، ثم تعليق العمل بجزء كبير وهامّ من الدستور والعمل بتنظيم مؤقت للسلط العمومية، يحوز به قيس سعيّد على كافة السلطات والصلاحيات.
سياسة إلهاء وإغراق في التفاصيل
لم تهدأ التجاذبات بين مختلف الفاعلين وفي معظم وسائل الإعلام وعلى وسائل التواصل، رغم الضغوط الهائلة لتكميم الأفواه سواء بإغلاق بعض القنوات الإعلامية الخاصة، وإجبار أخرى على الإقرار الطوعي، أو حتى عبر التضييق على المتظاهرين ضد الانقلاب والداعين للعودة إلى المسار الدستوري.
بموازاة ذلك، زادت الشائعات في إشاعة مناخات التفرقة والانقسامات، ومن ذلك الحديث مؤخّرًا عن نفق تمَّ اكتشافه في منزل بجهة المرسى في الضاحية الشمالية للعاصمة بالقرب من مقرّ إقامة السفير الفرنسي، وما صاحب ذلك من لغط وجدل واسع حول ما إذا كان النفق بسبب حفريات للبحث عن كنوز، أو لأجل القيام بأعمال تتعلق بالأمن العام، ويكفي الإشارة إلى أن السفير الفرنسي أندريه باران رفض التعليق على الموضوع، قائلًا إن ما يروج مجرد إشاعات ولم يرَ نفقًا وأن الأمور غير مؤكدة.
هذا التأكيد ذهبت إليه مراسلة صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية بتونس، التي أكّدت أنه لا وجود لنفق بل حفرة لا يتعدّى عمقها المتر ونصف المتر، وقد نقلت ذلك عن السفارة الفرنسية.
وبالتالي إن النفق الحقيقي هو النفق المسدود الذي تعيشه البلاد، بعد الإجراءات الاستثنائية التي لا تزال غير مسقوفة بزمن رغم تنامي الدعوات من جميع الأطياف السياسية بتسقيفها زمنيًّا.
وعمومًا، ليست المرة الأولى التي تُثار فيها هكذا مسائل، من قبيل أحداث سابقة عن محاولات لاغتيال الرئيس من قبيل الرسالة المسمومة التي دخلت إلى القصر الرئاسي، أو دسّ مواد سامة في الخبز، كلها أخبار ماتت بنفي النيابة العمومية.
إغراق البلاد في هذه التفاصيل والجدل بعيدًا عن القضايا الحياتية والمعيشية، لن يجدي نفعًا في المستقبل الذي يتفاقم وضعه يومًا بعد يوم، نتيجة التأزُّم المتواصل للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية رغم قرارات 25 يوليو/ تموز الماضي، التي لم تقاوم فسادًا ولم تصلح اعوجاجًا، بل واصل الرئيس مهاجمة خصومه ومعارضيه ونعتهم بشتى النعوت من الفساد إلى الحشرات إلى الشياطين واللصوص أخيرًا، وغيرها من مصطلحات التحقير والتصغير، مؤكدًا في الوقت ذاته أنه لا رجوع إلى الوراء ولا حوار معهم.
ورغم رفض رئيس الجمهورية النزول من الشجرة، اعترفت الطبقة الحاكمة بأخطائها وأعربت عن القيام بمراجعات شاملة وتقييم 10 سنوات من تجربة الحكم الجديدة وتحميل المسؤوليات، بل اعتبرت إجراءات الرئيس الاستثنائية مرحلة إصلاحية ضمن مسار انتقالي ديمقراطي، أو يمكن اعتبارها تأسيسًا للجمهورية الثالثة على حدّ تعبير أنصار الرئيس، شرط محاكمة الفاسدين والبناء على تغييرات في النظام الانتخابي، والتوافق على خريطة طريق واضحة.
غياب تلك الخارطة جعلَ للعامل الخارجي دورًا أساسيًّا منذ البداية، في تحجيم انقلاب الرئيس على خصومه وعدم انسيابه وتجاوز الخطوط الحمر التي قد تُخرِج تونس من دائرة الأمن والاستقرار، ما سيؤثر دون شكٍّ على علاقات تونس بجوارها ثم بأصدقائها الدوليين وخاصة أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، التي تؤكّد في كل مرة على ضرورة عودة تونس إلى مسارها الديمقراطي ونظامها الدستوري وفتح قنوات الحوار مع الجميع دون استثناء.
في الوقت ذاته، بدأ على الصعيد الداخلي بعض مقرّبيه، من أمثال قادة حزب حركة الشعب وبعض نشطاء حملته التفسيرية الانتخابية، الحديث عن حوار داخلي قريب سيشملُ فئات من المجتمع المدني والنشطاء وبعض الأحزاب التي لا يعترف بها قيس سعيّد كجزء من الحل، وطالما رآها ضمن المنظومة الفاسدة والمتسبّبة في كل الأزمات.
كذلك يبدو أن الأوساط النقابية قد استفرغت طاقة انتظارها بعد تفاؤلها بلقاء الرئيس قيس سعيّد وقيادة اتحاد الشغل، إثر قطيعة جاوزت الشهرَين ونصف، ما يشير إلى أن عودة المفاوضات حول شكل الحوار المزمع القيام به لم تعد أملًا، بعد تصريحات الطبوبي المستاءة جدًّا من عدم إشراك الأحزاب في الحلول من أجل إيجاد مخرج للأزمة أو مخرج للانقلاب.
لا إصلاح من دون أحزاب ومنظمات
تعمّقت الفجوة تقريبًا بين الجميع، بما في ذلك أولئك الذين يناصرون الرئيس بعد أن انفضَّ التيار الديمقراطي عن حاشية القصر، وبقيت حركة الشعب وحيدةً تشاطر الرئيس ولا يقيم لها وزنًا، فلا يسمع سوى رجع صداه.
ومع التحاق اتحاد الشغل بركب المستبعَدين من حوار الرئيس، باتت الأمور بين خيارَين: إما المضي قدمًا وتحمُّل أخطار العزلة الداخلية والخارجية وآثارها الاقتصادية المدمرة مع “حوار” على طريقة الرئيس، وعلينا تصور كيف سيكون حوارًا بأوامر رئاسية، أو “حوارًا” مع “شعبه وتنسيقيات شبابه” بعد كل تلك التصنيفات بين جمهور المنافقين والوطنيين وفاءً لهم.
وإما العودة إلى الحوار مع الفرقاء وعلى رأسهم حركة النهضة ورئيسها وخصمه ومنافسه راشد الغنوشي، وبالتالي العودة بشكل أو بآخر إلى دائرة الدستور وإيجاد حل وسطي يرضي الجميع داخليًّا وخارجيًّا، ويقطع مع الضغوطات الدولية ومحاولة إنقاذ البلاد من شبح الإفلاس الذي بات يخيّم على كل الأرجاء، في جوٍّ من الانقسام والاحتقان الاجتماعي المحفوف بالمخاطر والألغام.
إلا أن ذلك لم يتمَّ فعليًّا، فقد جرت الرياح بما لا تشتهى الأحزاب والمنظمات، بعد أن منّت النفس بلقاء قريب في حوار مزعوم، ليخرج الرئيس للإعلان عن شكل حوار غير مسبوق، أقصى كل الأطراف أحزابًا ومنظمات، فحوار الرئيس لن يختلف عن لقاءاته المصوَّرة مع ضيوفه، حيث سيتمّ عبر استمارات إلكترونية يمكن استغلالها فيما بعد لاستمالة جزء كبير من الشباب وجعلهم أبطال الشرعية والمشروعية الجديدة لحكم غريب الأطوار والأفكار.
وعليه لن يكون حوارًا بالمعنى المعروف للحوارات الوطنية، التي عادةً ما تكون بين المتخاصمين والفرقاء، بل سيكون أقرب إلى استفتاء صغير لمناصريه ومؤيّديه على طريقة التصعيد الشعبي في النظام الجماهيري البديع (كما يسمّيه معمر القذافي)، لا غير.
ورغم استنكار المستنكرين واستهجان المستهجنين، إلا أنه من غير المنتظَر -على الأقل حاليًّا- أن يتراجع قيس سعيّد، أو يسمع في النهاية غير صوته ويرى غير صورته في مرآة الزعيم الجديد والإمام المؤيَّد الذي يمتلك حصريًّا إرادة الشعب، لذلك يجب أن تكون منظومة الرئيس جزءًا من الحوار وليست كله.
كما لا بدّ من إقرار تمشٍّ واضح يمثّل إنقاذًا للعملية الديمقراطية من حيث النظام السياسي والانتخابي، بعيدًا عن مرسوم 22 سبتمبر/ أيلول الذي منح كل الصلاحيات للرئيس، وقبل أي تصعيد من الشارع الذي ألفنا تحركه كل رأس عام جديد مع بداية الاعتصامات حاليًّا للمعطلين خرّيجي الجامعات، المطالبين بحقهم في الشغل والحياة الكريمة.
وعليه، إن الأبواب تبدو مشرعة على كل احتمال، كما أن آمال المتابعين بحلٍّ سياسي قريب للأزمة قد تكون أكلها الحمار هي الأخرى، كما أكل الدستور على حد قول سعيّد نفسه، وأن هذا الحوار المشروط وغير المسبوق وفق الرئيس أيضًا، والأحادي والفريد من نوعه، سيكون في حُكم المأكول حتمًا، ما لم يكن حوارًا وطنيًّا شاملًا حتى يتّصف بطابع المشروع الجامع، ومشروعية 25 يوليو/ تموز.