في ظل غياب الحوار بين المغرب والجزائر، وغلق كل سُبل الاتصال بينهما منذ أشهر، ما فتئت الأزمة بين البلدَين العربيَّين تتفاقم وتزداد حدة، ما ينذر بأزمة كبرى في المغرب العربي إن لم يتمَّ تدارك الأمر والرجوع لطاولة الحوار وحلّ المسائل العالقة بين الطرفَين.
الجزائر تتوعّد بالرد
آخر مظاهر التوترات بين البلدَين، اتهام الجزائر المغرب بقتل 3 من مواطنيها في قصف قالت إنه وقع في المنطقة الحدودية بين موريتانيا والصحراء الغربية المتنازع عليها، متوعّدة أن الأمر “لن يمرَّ دون عقاب”.
قالت الرئاسة الجزائرية في بيان لها إن الهجوم المزعوم وقع في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني، “في غمرة احتفال الشعب الجزائري بالذكرى الـ 67 لاندلاع ثورة التحرير”. وأضافت أنه استهدف شاحنات جزائرية تجارية أثناء تنقلها بين العاصمة الموريتانية نواكشوط ومدينة ورقلة جنوبي الجزائر، دون أن يحدِّد الموقع الدقيق الذي وقع فيه القصف.
وأشار البيان إلى ضلوع الجيش المغربي في العملية باستخدام “سلاح متطوِّر”، وجاء في البيان نفسه أن هذه العملية تعدّ “مظهرًا جديدًا لعدوان وحشي يمثّل ميزة لسياسة معروفة بالتوسُّع الإقليمي والترهيب”، وتابع أن السلطات الجزائرية قد “اتّخذت على الفور التدابير اللازمة للتحقيق حول هذا العمل المقيت وكشف ملابساته”.
وتفيد عدة تقارير إعلامية أن سائقي الشاحنات الجزائريين قُتلوا في منطقة بير لحلو بالصحراء الغربية، فيما أظهرت مقاطع مصوَّرة نشرتها مواقع إخبارية وصفحات على منصات التواصل الاجتماعي شاحنات محترقة في منطقة صحراوية، قيل إنها شاحنات جزائرية تعرضت لهجوم.
تقع بلدة بير لحلو شرق الجدار الرملي المغربي، الذي يفصل بين المناطق الصحراوية الواقعة تحت السيادة المغربية، وتلك الواقعة تحت سيطرة جبهة البوليساريو، وتعتبرها الجبهة عاصمة مؤقتة لما تسميه “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” التي أعلنت قيامها عام 1976، فيما يعتبرها المغرب مناطق منزوعة السلاح.
تأتي هذه التطورات في وقت تشهد فيه العلاقات بين البلدَين توترات حادة، آخرها قرار تبون وقف نقل الغاز الجزائري عبر الأراضي المغربية إلى إسبانيا.
إلى حدّ الآن لم يصدر أي بيان أو تصريح عن بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء بإقليم الصحراء “المينورسو”، يفيد وجود عمل عسكري أدّى إلى تفجير شاحنات الجزائرية، ويوجد موقع ثابت للمينورسو بين بير لحلو وعين بنتيلي الموريتانية، ويُذكر أن المنطقة المحتمَل وقوع العملية فيها هي منطقة إلى حدّ الآن غير منزوعة الألغام كليًّا.
يقول الصحفي الجزائري عثمان لحياني في تدوينة له على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، إن “ثمة دافعًا انتقاميًّا يجعل المغرب وراء العملية الغادرة، تعتقد الرباط أن الجزائر مسؤولة عن مهاجمة شاحنات البضائع المغربية في شمال مالي التي حدثت قبل فترة قصيرة”.
يضيف لحياني: “لا يغيب معطى الانزعاج المغربي من دخول الجزائر على خط المنافسة في الأسواق الموريتانية، والعملية الغادرة تحاول قطع الطريق على الاندفاع الجزائري إلى نواكشوط وأفريقيا، وردعها عن تسيير القوافل التجارية”.
المغرب لا ينوي الحرب
إلى حدّ هذه الساعة، لم يصدر أي تعليق رسمي من الجانب المغربي حول بيان الرئاسة الجزائرية والاتهامات الموجَّهة، لكن وكالة الصحافة الفرنسية نقلت عن مصدر مغربي قوله إنه “إذا كانت الجزائر تريد الحرب فإن المغرب لا يريدها، وإن المملكة لم ولن تستهدف أي مواطن جزائري مهما كانت الظروف والاستفزازات”.
المصدر نفسه عبّر عن إدانته لما وصفه بـ”الاتهامات المجانية” ضد المملكة، في إشارة لاتهام الجزائر لبلاده بقتل 3 جزائريين بـ”قصف همجي” على شاحناتهم بمنطقة الحدود بين ورقلة ونواكشوط الموريتانية، وتابع أن “المغرب لن ينجرّ إلى دوامة عنف تهزّ استقرار المنطقة”.
اعتبر المصدر المغربي أن “هذه المنطقة تتنقّل فيها حصريًّا الميليشيا المسلحة لجبهة البوليساريو”، وأضاف: “إنه لأمر مفاجئ إذًا أن تتحدث الرئاسة الجزائرية عن وجود شاحنة في هذه المنطقة، بالنظر إلى وضعيتها القانونية والعسكرية”.
يعتقد الناشط السياسي خالد البكاري أن “استمرار الجزائر في تصعيد الاستفزاز واتهام المغرب دون دلائل أو حتى قرائن مقبولة، يجعل مسؤوليتها عن جرّ المنطقة نحو التوتر والاضطراب والحرب لا قدّر الله ثابتة”.
وأضاف: “عادة، من يسارع للحرب ليس صاحب الحق، أو صاحب شجاعة، ومن يحاول تجنُّبها ليس جبانًا أو على باطل، الذي يسارع إلى الحرب ويبحث عن أي مبرر لدخولها هو من ليس له قدرة على ابتداع الحلول السلمية، أو من يهرب من الحلول التفاوضية لأن الحجّة تعوزه، أو من يستثمر في الحرب”.
مسار التوتُّر
تأتي هذه التطورات في وقت تشهد فيه العلاقات بين البلدَين توترات حادة، آخرها قرار الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، وقف نقل الغاز الجزائري عبر الأراضي المغربية إلى إسبانيا، ذلك بسبب “الممارسات ذات الطابع العدواني من المملكة المغربية”، رغم ارتفاع كلفة خيارات التصدير الأخرى التي لدى الجزائر، وتعتمد المملكة المغربية على جزء من هذه الصادرات في توليد الطاقة الكهربائية.
في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، اتّهمت الجزائر المغرب بمساعدة الحركة من أجل استقلال منطقة القبائل (الماك) في التخطيط لهجمات تستهدف المساس بأمن البلاد والوحدة الوطنية، وأوضحت أنها تمكّنت من تفكيك نشاط جماعة إجرامية تنتمي إلى الماك، تنشط على مستوى ولايات تيزي وزو وبجاية والبويرة، مع توقيف 17 مشتبهًا بهم.
ونهاية أغسطس/ آب الماضي، قطعت الجزائر العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، وقرّرت سحب سفيرها من العاصمة الرباط بسبب ما وصفته بـ”أعمال عدائية” من جانب المملكة، وهو قرار اعتبرته الرباط “غير مبرَّر على الإطلاق”.
لا يبدو أن التوتر بين البلدَين سيتوقف عند هذه النقاط، فمن المتوقع أن تزداد الأزمة حدّة في ظل تشبُّث كلا النظامَين بمواقفهما المتصلِّبة من الخلافات الثنائية بينهما.
قبل اتخاذ قرار قطع العلاقات، أعلنت الخارجية الجزائرية استدعاء سفيرها في الرباط للتشاور، بعد أن طلبت الجزائر توضيحات من المغرب بشأن موقفه من دعم “حركة انفصالية” في منطقة القبائل الجزائرية، في إشارة لحديث سفير المغرب بالأمم المتحدة عن حق سكان القبائل في تقرير مصيرهم.
كما اتّهمت الجزائر المغرب بالتآمُر عليها وعلى وحدتها الترابية، بعد حديث الرباط عمّا وصفته بـ”حق الشعب القبائلي في تقرير مصيره”، واتّهمت الجزائر الرباط بـ”دعم الجماعات الإرهابية التي تسبّبت في إراقة دماء الجزائريين خلال العشرية السوداء”.
اشتدّ التوتر بين البلدَين نهاية السنة الماضية، عقب تطبيع العلاقات بين المغرب والكيان الإسرائيلي مقابل اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وترى الجزائر في هذا الأمر استهدافًا مباشرًا لها.
دائمًا للاستعمار يد في خلق الأزمة
هذا التوتر ليس جديدًا ولا وقتيًّا وإنما مستمر، فالعلاقات الجزائرية المغربية تتّسم بالتوتر في معظم الأحيان، وتعود أسباب ذلك التوتر إلى اتهامات متبادلة من كلا الطرفَين. ويتهم المغرب الجزائر بدعم جبهة البوليساريو وباستضافة قادتها على أراضيها، فيما تتهم الجزائر الرباط بدعم حركات انفصالية جزائرية والتجسُّس على المسؤولين باستخدام تقنيات إسرائيلية.
لكن السبب الأبرز في هذا التوتر يعود إلى المشاكل الحدودية التي تركها المستعمر الفرنسي عند خروجه من البلدَين، إذ بخروج المحتل الفرنسي وُرِّثت الأنظمة القائمة في الجزائر والمغرب نزاعات حدودية وإقليمية.
يقول المغرب إن حدوده مع الجزائر التي تركها الفرنسيين غير صحيحة، ولا بدّ من العودة إلى الحدود القديمة قبل مجيء الاحتلال، والتي تمثّل معاهدة لالة مغنية 18 مارس/ آذار 1845 إطارًا مرجعيًّا لها، وهي المعاهدة التي وقّعها المغرب مع فرنسا بعد هزيمته بمعركة إيسلي في 14 أغسطس/ آب 1844 بسبب دعمه لثورة الأمير عبد القادر الجزائري.
في تلك المعاهدة تمَّ النص على استمرارية الحدود التي كانت بين المغرب والعثمانيين، لتصبح هي الحدود بين المغرب والجزائر، إلا أن الاتفاقية أبقَت منطقة الصحراء الشرقية في الجنوب (أي منطقة تيندوف) في وضعية غامضة، وبعد حصول الجزائر على استقلالها في يوليو/ تموز 1962 تجدّدَ طرح إشكال الحدود والمواجهات العسكرية بين البلدَين، عُرفت بحرب الرمال في أكتوبر/ تشرين الأول 1963، في ظلّ دفاع الجزائر عن حدودها كما تركها الاستعمار الفرنسي.
لا يبدو أن التوتر بين البلدَين سيتوقف عند هذه النقاط، فمن المتوقع أن تزداد الأزمة حدّة في ظل تشبُّث كلا النظامَين بمواقفهما المتصلِّبة من الخلافات الثنائية وغياب الحوار الجدّي بينهما، خلافات سيكون أثرها كبيرًا على شعبَي البلدَين.