من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، استُخدم الأطفال عبر التاريخ بشكل مأساوي في الحروب؛ فقد خدموا كجنود يرتدون الزي الرسمي، وقاتلوا في الحروب الأهلية، وفي كلتا الحربَين العالميتَين، وأُجبروا على الانخراط في جرائم حرب، وتحمّلوا ظروفًا قاسية أثناء الخدمة في أشهر المعارك في التاريخ، كما قاتلوا كمتمرّدين وحتى انتحاريين.
أطفال أسبرطة: البداية من هنا
كانت مدينة أسبرطة اليونانية القديمة قوة عسكرية عظمى، وكان أطفالها مغمورين بروح القتال هذه منذ سنّ مبكّرة جدًّا. بعد الولادة بفترة وجيزة، يحكم مجلس المفتشين على السمات الجسدية للرضَّع الذكور؛ إذا اعتبر المجلس أحدهم غير لائق لواجبه المستقبلي كجندي، فمن المرجّح أن يُترك في العراء أو على منحدر أحد التلال القريبة ليواجه مصيره المجهول.
في سنّ السابعة يُجبر هؤلاء الأطفال على ترك منازل آبائهم، ويخضعون لبرنامج تدريب بدني صارم ترعاه الدولة، ويهدف إلى تحويلهم إلى محاربين أشداء ومواطنين ذوي أخلاق، ويطبَّق البرنامج على جميع المواطنين الذكور في إسبرطة ما عدا الابن البكر في الأُسر الحاكمة.
فرضت مدينة أسبرطة اليونانية على الأطفال تدريبًا وحشيًّا في سن السابعة.
رغم التعليم العسكري المبكّر، لم يكن الأطفال أقوياء بما يكفي للتعامل مع الأسلحة الثقيلة في ذلك الوقت. بدلًا من ذلك، شاركوا في بعض الأعمال الروتينية الوضيعة، مثل حمل الدروع للمحاربين الكبار، حيث فقط عندما يبلغ من العمر 20 عامًا، سيكون الرجل الإسبرطي مناسبًا للخدمة كجندي للدولة.
حملة الأطفال الصليبية
في عام 1212، تجمّع حوالي 30 ألف طفل من جميع أنحاء أوروبا، وساروا معًا نحو القدس. كانت حملة الأطفال الصليبية مختلفة، لم تحصل على موافقة الكنيسة، ولم يكن لدى المشاركين فيها أسلحة، بدلاً من ذلك تسلّحوا بالإنجيل وحملوا الصلبان والرايات. كان هؤلاء الأطفال -وإن لم تقتصر عليهم الحملة الصليبية- على قناعة أن بإمكانهم القيام بما لم يتمكّن منه الفرسان والنبلاء.
رغم أن السجلّات التاريخية تقدِّم معلومات متضاربة، تخبرنا بعض المصادر التاريخية عن العديد من الأطفال الذين ساروا إلى الأرض المقدسة.
يبدو أن هناك مجموعتَين رئيسيتَين شاركتا في الحملة الصليبية التي قادها الأطفال، إحداهما مجموعة الصليبيين الطموحين في ألمانيا، بقيادة فتى صليبي معروف باسم نيكولاس -من مدينة كولونيا في غرب ألمانيا- أثار عواطف الآلاف من الناس.
وفي فرنسا، كان أحدهم صبيًّا صغيرًا يُدعى ستيفن أوف كلويز (نسبةً إلى قرية صغيرة على نهر لوار وسط فرنسا)، اعتقد أنه اُختير لقيادة هذه “المهمة الإلهية”، وأعلن نفسه “رسول الرب”، وجمع أتباعه من خلال أداء المعجزات والنذور، وادّعى أن البحر الأبيض المتوسط سينشقّ لهم في رحلتهم. من مختلف أنحاء القارة، انضمّت مجموعات من الأطفال إلى القضية الصليبية، وتعهّدت بالدفاع عنها، لكن مهمتهم كادت أن تنتهي بكارثة.
في حالة حدوث حصار، كان على هؤلاء الأطفال أن يكونوا مستعديّن للقتال، وأن يعرفوا أساسيات الدفاع عن القلعة باستخدام القوس والسهم.
بمجرد وصول المشاركين إلى الساحل، مات العديد من الأطفال بسبب الجوع والمرض والظروف القاسية، ونُقل أولئك الذين اختاروا مواصلة رحلتهم على متن السفن، فوقعوا في أيدي القراصنة، وبيعوا كعبيد في أسواق النخاسة أو ماتوا في حطام السفن.
رغم فشلهم، إلا أنه يمكن اعتبار سعيهم أول حركة شبابية أوروبية جماهيرية مستوحاة من الرغبة في الدفاع عن المسيحية ونشرها في أوائل القرن الثالث عشر.
أطفال القوس والسهم النبلاء
في جميع أنحاء شمال أوروبا في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، كان الفتيان مشهدًا حاضرًا بانتظام في منازل الأرستقراطيين، فقد كان العديد منهم يحلمون بأن يصبحوا فرسانًا، لكن القليل منهم فقط كان بإمكانهم تحمُّل تكاليف ذلك.
كان الشرط الأول لنيل هذا الشرف تحمُّل تكلفة أسلحة الفارس ودرعه وحصانه الحربي، حيث لم تكن هذه العناصر رخيصة، وكان الأثرياء من الطبقات الأرستقراطية فقط هم من يستطيعون دفع ثمنها.
في القرن الرابع عشر، نصحَ التاجر الإيطالي باولو دي سيرتالدو: “إذا كان لديك ابن لا يفعل شيئًا جيدًا… فقُم بتسليمه على الفور إلى تاجر سيرسله إلى بلد آخر. أو أرسله بنفسك إلى أحد أصدقائك المقرّبين… لا يمكن عمل شيء آخر. طالما بقيَ معك فلن يصلح حاله”.
لذلك عندما يقرر الصبي -أو والداه على الأرجح- أن يصبح فارسًا، فإنه سيذهب ليعيش في منزل أحد الفرسان عندما يبلغ من العمر 7 سنوات، حيث يخدم “سيده” بإخلاص من خلال القيام بالأعمال المنزلية المتدنية والخدمة الشخصية، مثل تقديم وجبات الطعام وتنظيف ملابسه وحمل الرسائل.
ربما كانت أيضًا وسيلة للآباء للتخلُّص من المراهقين الجامحين. فوفقًا للمؤرِّخ الاجتماعي شولاميث شاحار، كان يُعتقد أنه من الأسهل على الغرباء تربية الأطفال، وهو اعتقاد كان له بعض الصدى حتى في أجزاء من إيطاليا.
صورة توضيحية لتدريب الأطفال في منازل الأرستقراطيين.
في المقابل، تلقّى هؤلاء الأطفال في بيوت الآخرين الضيافة والتعليم، وخضعوا لتدريب عسكري بأسلحة حقيقية، وتعلّموا ركوب الخيل، وشهدوا نصيبهم العادل من الصراع.
في سن الخامسة عشرة تقريبًا، سيكون لدى الصبي مجموعة جديدة من المهام، فقد كان يعتني بخيول الفارس وينظّف درعه وأسلحته ويرافقه إلى ساحة المعركة. وفي حالة حدوث حصار، كان على هؤلاء الأطفال أن يكونوا مستعدّين للقتال، وأن يعرفوا أساسيات الدفاع عن القلعة باستخدام القوس والسهم.
كانت هذه الأداة الحربية البدائية التي ظهرت لأول مرة في إيطاليا في القرن العاشر، واحدة من الأسلحة القليلة التي يمكن للطفل المحارب استخدامها للقتال عن بُعد دون الانخراط في قتال مباشر مع شخص بالغ، ورغم تدريبهم العسكري كان هؤلاء الأطفال هدفًا مباشرًا للعدو في بعض الأحيان.
ففي معركة أجينكور عام 1415، انتقمَ هنري الخامس من استهداف الفرنسيين لأطفال جيشه الذين حاربوا بالأسهم، وردَّ بقتل جميع الأسرى الفرنسيين العزّل، لدرجة أن عمليات القتل هذه وُصفت منذ ذلك الحين بأنها مثال مبكّر لجرائم الحرب، كونها تخالف كل قواعد الفروسية والشرف المتّبعة في ذلك العصر.
أخفى أطفال لا تتجاوز أعمارهم 12 عامًا، أعمارهم الحقيقية للقتال لصالح بريطانيا في الحرب العالمية الأولى.
وقود المدافع
في بعض المعارك البحرية الأكثر شهرة في التاريخ، تعرّض الأطفال لظروف قاسية أثناء الخدمة، ففي القرن السابع عشر بدأت البحرية الملكية البريطانية في استخدام مصطلح “صبي البارود” أو “قرد البارود”، الذي يشير إلى تجنيد الفتيان الصغار أو الضغط عليهم لخدمة أطقم المدفعية على السفن الحربية، وهي الوظيفة التي غالبًا ما يتمّ تنفيذها من قبل البحّارة الصبيان الذين يتراوح عمرهم بين 12 و14 عامًا.
كانت مهمة “صبي البارود” خطيرة للغاية.
كانت مهمتهم الأساسية هي نقل البارود من المخزن الموجود في عنبر السفينة إلى أطقم المدافع، وقد كانت تلك مهمة خطيرة للغاية، فالمدافع كانت تشوِّه أفراد الطاقم، وكانت الشظايا العملاقة تخترق الجسم.
بالعودة إلى البرّ مرة أخرى، كان استخدام قارعي الطبول في ساحات المعارك من التقاليد الغربية القديمة التي قدم بها العثمانيون إلى أوروبا، واستخدمتها الجيوش الصينية حتى قبل ذلك.
رغم تاريخهم الممتد، ارتبط الحديث عن “قارعي الطبول” بشكل خاص بالحرب الأمريكية في القرن التاسع عشر، وأصبحت شخصيتهم إلى جانب كونها عنصرًا أساسيًّا في معسكرات الحرب الأهلية، شخصية ثابتة في الثقافة الأمريكية.
واُعتبر قارعو الطبول الأطفال أبطالًا خلال الحرب، فقد قدّموا خدمة أكبر قيمة من مجرد العزف في المسيرات والمناسبات الاحتفالية، واُستخدمت الطبول كأجهزة اتصال لا تقدَّر بثمن في ساحات القتال.
الحروب العالمية: البراءة تحت النار
خلال الحرب العاليمة الأولى، قامت الحركات الشبابية البريطانية، مثل الجوالة والكشافة البحرية والمرشدات، بـ”عسكرة” الشباب البريطاني وتزويدهم بالمهارات العملية الطبية وسُبُل البقاء على قيد الحياة.
أخفى أطفال لا تتجاوز أعمارهم 12 عامًا، أعمارهم الحقيقية للقتال لصالح بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، وسارع هؤلاء الأطفال للتطوع بخدماتهم.
ناشد أحد هؤلاء الأطفال، ألفي نايت، البالغ من العمر 9 أعوام، وزير الخارجية آنذاك اللورد كيتشنر للسماح له بالانضمام إلى الحرب، وأخبره في خطاب أنه يريد أن يذهب إلى الجبهة، وكتب: “أودُّ أن أقتل الكثير من الألمان. أنا قوي جدًّا وكثيرًا ما أفوز في معركة مع فتيان يبلغ حجمهم الضعف”. ردَّ كيتشنر ليشكر الصبي، لكنه أشار إلى أنه كان أصغر من أن يقاتل.
اختراع البنادق الهجومية مثل الكلاشنكوف وإم 16 الأصغر حجمًا والأخف وزنًا والأقل ارتدادًا من البنادق السابقة، مكّن الأطفال من أن يكونوا جنودًا فتّاكين.
مع ذلك، وجد الكثير من الأطفال طريقهم إلى صفوف الجيش، وكان ما يقرب من 250 ألف جندي بريطاني تحت السن القانوني للتجنيد (19 عامًا). وكان أصغر جندي معترَف به هو سيدني لويس البالغ من العمر 12 عامًا، والذي هرب من المنزل للانضمام إلى الجيش، وشارك في معركة السوم عام 1916 بين القوات الألمانية وقوات الحلفاء.
كذب مجنّد آخر، هو جورج ماهر، البالغ من العمر 13 عامًا، بشأن عمره، وأُرسل إلى الخطوط الأمامية، ثم تمَّ الكشف عن عمره الحقيقي بعد العثور عليه وهو يبكي أثناء القصف العنيف.
سخرت مجلة “بانش” البريطانية مِن مَن هم على خط المواجهة عبر رسوم كرتونية، يشير خلالها ضابط إلى صبي صغير يرتدي زي جندي منزعج: “هل تعرف أين يذهب الأطفال الذين يكذبون؟”، يجيب الصبي: “إلى الجبهة يا سيدي”.
مجلة “بانش” البريطانية تسخر من تجنيد الأطفال في الجيش البريطاني.
على الجانب الآخر المقابل لدول الحلفاء، لم ينل الجنود الأطفال الذين تمَّ تجنيدهم لدعم الموقف الأخير للنازيين إلا القليل من التدريب شبه العسكري كجزء من برنامجهم السياسي، فقد تعلّموا كيفية السير والحفر وإلقاء القنابل اليدوية وحفر الخنادق والهرب عبر الأسلاك الشائكة.
كان هؤلاء الأطفال الأمل الأخير لهتلر ووقودًا للمدافع، فعندما أُمروا بالانضمام إلى القتال ضد قوات الحلفاء في الأشهر الأخيرة من الحرب، كانوا يفتقرون إلى الخبرة والاستعداد للقتال.
أطفال يقاتلون الأطفال!
في حين كان استخدام الأطفال محدودًا في الأدوار القتالية، فإن اختراع البنادق الهجومية مثل الكلاشنكوف وإم 16 الأصغر حجمًا والأخف وزنًا والأقل ارتدادًا من البنادق السابقة، مكّن الأطفال من أن يكونوا جنودًا فتّاكين.
كانت الحرب الباردة بمثابة الظهور الأول لهذا الاتجاه، وكانت جمهورية السلفادور في فترة الثمانينيات مثالًا بارزًا على ذلك، فقد أسفر القتال بين القوات الحكومية وجبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني عن اختطاف الأطفال واغتصابهم، وكذلك ارتباطهم بالجيش من كلا الجانبَين.
يُنظر في أغلب الأحيان إلى هؤلاء الأطفال على أنهم أمثلة واضحة لاستغلال أمراء الحرب والمرتزقة والعصابات وتجّار الأسلحة والميليشيات وحتى الحكومات الضعيفة.
جعلت الجرائم السلفادور الدولة الثانية في أمريكا اللاتينية التي ثَبَتَ تورُّطها في عمليات اختطاف الأطفال خلال النزاعات الداخلية في حقبة الحرب الباردة.
تشير التقديرات إلى أن أكثر من واحد من كل 5 جنود تابعين لجبهة فارابوندو مارتي المتمردة من الأطفال، بينما كان 80% من القوات الحكومية تحت سن الـ 18 عامًا.
وفي حين أرسلت جبهة فارابوندو مارتي وحدات عسكرية من الأطفال إلى القرى لتجنيد الأطفال الأصغر سنًّا، أرسلت القوات الحكومية الأطفال لقتل أفراد من عائلاتهم لإثبات ولائهم، بالإضافة إلى استخدامهم في أدوار قتالية عنيفة.
جيل جديد من الأطفال المحاربين
مع مرور الوقت، تصاعد تأثير الجنود الأطفال إلى مستويات وحشية جديدة خلال الحروب الأهلية التي شهدتها قارة أفريقيا في السنوات الأخيرة.
في ليبيريا، على سبيل المثال، كثيرًا ما استخدم الرئيس تشارلز تايلور، أحد أمراء الحرب الأكثر رعبًا في أفريقيا، وحدات مقاتلة مكوَّنة من الأطفال الصغار. بعد تسليحهم ببنادق من طراز UZI وAK-47، اُستخدم هؤلاء للقتال ضد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، ونهب وارتكاب جرائم وحشية جماعية.
كما استخدمت القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR) الأطفال للمشاركة في الإبادة الجماعية المدمِّرة في البلاد عام 1994. كثير من الأطفال الذين تقلُّ أعمارهم عن الـ 14 عامًا، اُخطتفوا وبيعوا ثم أجبروا على العمل كمقاتلين يشاركون في الاغتصاب والتخريب وقتل المدنيين.
هل هذا يعني أن الجنود الأطفال معتدون أم أنهم ضحايا؟ إنه سؤال يفتقر إلى إجابة واضحة، ولكن في السنوات الأخيرة كانت الإجابة المقبولة بين المنظمات الإنسانية والباحثين المعاصرين هي الخيار الثاني، إذ يُنظَر في أغلب الأحيان إلى هؤلاء الأطفال على أنهم أمثلة واضحة لاستغلال أمراء الحرب والمرتزقة والعصابات وتجّار الأسلحة والميليشيات وحتى الحكومات الضعيفة.