ترجمة وتحرير: نون بوست
في تموز/ يوليو 1903، عُقد أول مؤتمر لتحالف الجامعات الاستعمارية في لندن تتويجا لإنتاج المعرفة والشبكات الجامعية التي كانت تهدف إلى تعزيز الحكم الاستعماري البريطاني. وكان آرثر بلفور، رئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك، مستشار جامعة إدنبرة وأحد المسؤولين الرئيسيين عن هذا التحول الإستعماري نحو الأوساط الأكاديمية.
عُقد المؤتمر في فندق “سيسيل” حيث ترأس بلفور مأدبة عشاء حضرها مندوبو الجامعات ورؤساء الكليات و”شخصيات بارزة في المجال التربوي والعلمي”، وذلك حسب الرواية الرسمية للحدث.
بعد إنهاء ولايته كرئيس للوزراء في سنة 1905، انسحب بلفور لمدة عقد من الزمان من مركز الصدارة في السياسة الخارجية الإمبراطورية قبل أن يعود في سنة 1916 ويشغل منصب وزير الخارجية
بعد تناول الخبز المحمص المعتاد، ألقى بلفور كلمة احتفل فيها بتأسيس التحالف الأكاديمي البريطاني الاستعماري الجديد: “إننا هنا نمثل ما سيصبح – حسب اعتقادي – تحالفا كبيرا لأعظم المؤسسات التعليمية في الإمبراطورية، تحالف جميع الجامعات التي تشعر بشكل متزايد بمسؤولياتها ليس فقط عن تدريب الشباب الذي يسعى إلى الحفاظ على تقاليد الإمبراطورية البريطانية، وإنما أيضا بمسؤوليتها عن تعزيز تلك الاهتمامات العظيمة للمعرفة والبحث العلمي والثقافة، التي لا يمكن لأي إمبراطورية من دونها، مهما كانت مواردها المادية عظيمة، أن تقول حقا إنها تسهم في تقدم العالم”.
في ذهن بلفور، كان التحالف الأكاديمي الجديد أداة حاسمة لترسيخ هيمنة بريطانيا العالمية. ولكنه كان أيضًا أداة رئيسية لتأكيد الإحساس بالوحدة الأنجلوساكسونية العنصرية، ولعل ذلك ما أكده بلفور بقوله “نحن نفتخر بمجتمع من الدم واللغة والقوانين والأدب”.
بعد إنهاء ولايته كرئيس للوزراء في سنة 1905، انسحب بلفور لمدة عقد من الزمان من مركز الصدارة في السياسة الخارجية الإمبراطورية قبل أن يعود في سنة 1916 ويشغل منصب وزير الخارجية. ولكن خلال تلك السنوات العشر، واصل بلفور بناء مساحة أكاديمية بريطانية لتكون مشروعا إمبراطوريا.
الشرق مقابل الغرب
ربما بسبب اهتمامه المتزايد بمنطقة “الشرق”، طُلب من بلفور في سنة 1912 ترأس جلسة المؤتمر الأول لجامعات الإمبراطورية حول “مشكلة الجامعات في الشرق فيما يتعلق بتأثيرها على الشخصية والمُثل الأخلاقية”. وفي كلمته الافتتاحية، شدد بلفور على وجود “تكيّف متبادل” في الجامعات الغربية بين المعرفة العلمية والتقاليد الاجتماعية والثقافية، بينما كان العلم والعادات في الجامعات الشرقية في مسار تصادمي.
وتقوم فكرة عدم التوافق المتأصل بين التقاليد الشرقية والعلم على مفهوم عدم المساواة العرقية الطبيعية، الذي أوضحه بلفور قبل عدة سنوات في كتابه “الانحطاط“. في هذا الكتاب، افترض بلفور أن التاريخ الشرقي كانت تهين عليه رتابة الاستبداد وغياب القدرة على الحكم الذاتي، مشيرا إلى أنه لا يعتقد “أن توفير بيئة تعليمية متشابهة لأعراق مختلفة قد يجعلهم متشابهين نظرًا لأنهم مختلفون وغير متكافئين منذ بداية التاريخ وسيظلون كذلك إلى الأبد”.
من خلال هذا الفكر العنصري ساهم بلفور في إعادة تشكيل العالم الإمبراطوري، وذلك باعتباره رجل دولة وعالمًا وأكاديميًا. وقد شكّل هذا الفهم العنصري للنظام العالمي ركيزة وعد بلفور في سنة 1917، الذي أنشأ إطارًا قانونيًا إمبراطوريًا جديدًا في الشرق الأوسط.
في سيرته الذاتية “التجربة والخطأ”، ذكر الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان، الذي لعب دورًا حاسمًا في إقناع بلفور بإصدار إعلانه في سنة 1917، أن الجامعة العبرية كانت أداة حاسمة لترسيخ الصهيونية في فلسطين.
صادق الإعلان الصادر في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر على إنشاء “وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين لينجر عنه حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية ومنحهم حقوقهم المدنية والدينية فقط. وبناء على كتابات بلفور، عومل الفلسطينيون على أنهم “شرقيون” غير قادرين على حكم أنفسهم أو تقرير مصيرهم.
كتب بلفور هذا الإعلان ووقّعه قبل زيارته فلسطين لأول مرة في سنة 1925 عندما شارك في افتتاح الجامعة العبرية في القدس بصفته ممثلا عن جامعتي إدنبرة وكامبريدج، حيث أصبح مستشارًا لها في سنة 1919. وباعتباره ضيف الحركة الصهيونية، قام بجولة في أولى المستعمرات اليهودية التي أقيمت في فلسطين بما في ذلك مستوطنة بلفوريا التي سُميت تيمنًا به.
وفي خطابه الافتتاحي على جبل المشارف، احتفى بلفور بالجامعة العبرية باعتبارها تجربة لتكييف “العلوم والنظريات اليهودية” بواسطة “الطرق الغربية” في موقع آسيوى ومؤسسةً قادرة على إعادة إحياء “فلسطين الراكدة”. وفي سيرته الذاتية “التجربة والخطأ”، ذكر الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان، الذي لعب دورًا حاسمًا في إقناع بلفور بإصدار إعلانه في سنة 1917، أن الجامعة العبرية كانت أداة حاسمة لترسيخ الصهيونية في فلسطين.
أسئلة أساسية
مُحيت الصلة بين إسهامات بلفور في الحكم الإمبراطوري وتطوير الأكاديميات الإمبراطورية البريطانية لسبب ما من الذاكرة الجماعية. كما يغيب بلفور عن كم هائل من الأعمال الأدبية والمناقشات المعاصرة حول مشاركته في الشؤون الإمبراطورية العالمية وإعلانه سيء السمعة بشأن فلسطين. لهذا السبب، قد نستغل هذه السنة الذكرى السنوية لوعد بلفور لإعادة اكتشاف هذه الصلة مع طرح بعض الأسئلة الأساسية.
بصفتنا جامعات بريطانية تتبنى رسميًا وعلنيًا أجندة إنهاء الاستعمار، وتحاول إنهاء استعمار المناهج والفضاءات الأكاديمية، كيف يمكننا إنهاء استعمار روايتنا التاريخية عندما يتعلق الأمر بالظلم الذي تعرض له الفلسطينيون نتيجة للإعلان الإمبراطوري الصادر عن أحد مستشارينا؟
لماذا لا نعترف علنًا بحقيقة أن الرجل الذي عُيّن لتعزيز السمعة الأكاديمية العالمية لبريطانيا طيلة أربعة عقود كان أيضًا فاعلًا رئيسيًا سياسيًا وفكريًا في إنتاج نظام إمبراطوري عنصري جرد العديد من الشعوب من هويتها؟ وما هي الآثار التي قد تترتب عن مثل هذا الاعتراف؟
وبما أن قضية فلسطين لا تزال قضية استعمارية حيّة تولد العنف والحرمان، كيف يمكننا من خلال إجراءات مؤسسية محددة وملموسة أن نسهم في إنهاء استعمار فلسطين وإصلاح تورط جامعة أدنبرة في مشروع استيطاني استعماري مستمر يحرم الفلسطينيين من حق تقرير المصير ويطردهم من أراضيهم؟ ففي النهاية وبعد كل شيء، صدر وعد بلفور بإعلان من رئيس جامعتنا.
المصدر: ميدل إيست آي