عرفت القارة الإفريقية خلال عامي 2020 و2021 تنامي ظاهرة الانقلابات بعد فترة من الاستقرار النسبي عرفتها القارة السمراء، انقلابات عجز المجتمع الدولي عن وضع حد لها، نتيجة الانقسامات الجيوسياسية داخله، ففي كل مرة تقف دولة كبرى كحاجز صد أمام إدانة الانقلاب الواقع كما حصل مؤخرًا في السودان، الأمر الذي من شأنه أن يشجع العسكر على القيام بانقلابات جديدة وأن يجعل الاستقرار بعيد المنال عن الأفارقة.
تنامي ظاهرة الانقلابات
لم يكن الانقلاب الأخير في السودان حدثًا غريبًا في القارة السمراء، ففي إفريقيا لا تكاد تهدأ دولة إلا وتسارع جارتها لتحكي قصة انقلاب جديد، فهذه القارة تشهد انقلابات أكثر من أي قارة أخرى، حتى إن البعض أطلق عليها قارة الانقلابات.
كما قلنا فإن آخر انقلاب في القارة السمراء حدث يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، إذ اهتز السودان على وقع انقلاب عسكري قاده الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي يرأس المرحلة الانتقالية، وحل مجلس السيادة والحكومة برئاسة عبد الله حمدوك.
قبلها بنحو شهر ونصف، تحديدًا في 5 سبتمبر/أيلول الماضي، أطاح انقلاب عسكري يقوده الكولونيل مامادي دومبويا برئيس غينيا ألفا كوندي بعدما تمت إعادة انتخابه في أكتوبر/تشرين الأول 2020 لولاية ثالثة، في هذا الانقلاب وعد الانقلابيون بإجراء مشاورات وطنية بهدف تحقيق انتقال سياسي يوكل إلى “حكومة وحدة وطنية”، لكن هذا لم يحدث بعد.
ليلة 25 يوليو، شهدت تونس بدورها انقلابا على الدستور، قاده الرئيس قيس سعيد، إذ علق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب، وحل الحكومة وجمع بين السلطة التشريعية والتنفيذية، وبدأ العمل بالمراسيم، رغم رفض معظم الأحزاب السياسية لذلك.
في 24 مايو/أيار 2021، كانت مالي مسرحًا لانقلاب عسكري أيضًا، إذ اعتقل العسكريون الرئيس ورئيس الوزراء بعد تشكيل حكومة انتقالية جديدة أثارت استياءهم، وتم تنصيب الكولونيل أسيمي غويتا في يونيو/حزيران رئيسًا انتقاليًا، وتعهد العسكريون بتسليم السلطة إلى مدنيين منتخبين مطلع 2022.
في 20 أبريل/نيسان 2021، كان الدور على تشاد، إثر مقتل الرئيس إدريس ديبي على يد قوات من المعارضة المسلحة شمال البلاد، قام مجلس عسكري انتقالي برئاسة محمد إدريس ديبي الذي كان آنذاك قائدًا للحرس الرئاسي، بحل الحكومة والجمعية الوطنية، ووعد نجل الزعيم المتوفى بمؤسسات جديدة بعد انتخابات “حرة وديمقراطية” في غضون سنة ونصف.
في 18 أغسطس/آب 2020، أطاح الجيش المالي بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا بعد أشهر من أزمة سياسية، وفرضت عقوبات دولية على المجموعة العسكرية قبل أن ترفع إثر تشكيل حكومة انتقالية في 5 أكتوبر/تشرين الأول، على أن يتم تسليم السلطة للمدنيين خلال 18 شهرًا.
انقسامات جيوسياسية
انطلاقًا من هذه المعطيات، يبدو أن الانقلابات العسكرية أصبحت أمرًا واقعًا في القارة الإفريقية خلال السنتين الأخيرتين، فالتحركات العسكرية المتمردة في القارة السمراء لا تتوقف، ويعود ذلك إلى أسباب عديدة أبرزها الانقسامات الجيوسياسية.
يتذرّع القادة العسكريون الأفارقة بثلاثية “الفساد وسوء الإدارة والفقر” للقيام بالانقلابات العسكرية، وهو ما حصل في غينيا ومالي والسودان، فقادة الانقلاب في هذه الدول أعطوا نفس التبريرات وهي الفقر والفساد المستشري لتبرير استيلائهم على السلطة.
لكن هذه ليست الأسباب الرئيسية لعودة الانقلابات بقوة في القارة الإفريقية، ذلك أن الانقسامات داخل المجتمع الدولي حول تحركات العسكريين في البلدان الإفريقية شجعت العسكر على القيام بتحركات متواترة للسيطرة على السلطة.
يظهر هذا الانقسام في فشل المجتمع الدولي في إدانة الانقلابات، من ذلك ما حصل مع حالة السودان، إذ فشل مجلس الأمن الدولي، نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، للمرة الثانية في التوافق على اعتماد بيان بشأن انقلاب السودان بسبب تباين الآراء.
وأخفق مجلس الأمن الدولي في الخروج ببيان مشترك لمناقشة الوضع في السودان، وأحجمت الصين وروسيا عن وصف الأحداث في السودان بـ”الانقلاب”، كما ورد في الصياغة التي اتفق عليها أعضاء المجلس الآخرون.
تقول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إن ما حصل في السودان انقلاب، فيما ترفض روسيا وصف الأمر بالانقلاب، إذ قال نائب المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة دميتري بوليانسكي، في وقت سابق إن على الشعب السوداني، أن يحدد بنفسه إذا كانت الأحداث التي تشهدها بلاده انقلابًا أم لا، داعيًا جميع الأطراف إلى وقف العنف.
نتذكّر أيضًا انقلاب تشاد، ففي الوقت الذي رفضته أغلب القوى العالمية، رحبت به فرنسا وشارك رئيسها إيمانويل ماكرون حفل تنصيب الرئيس الجديد المنقلب على دستور بلاده، نفس الأمر حصل في مالي وقبلها في بوركينافاسو، إذ لا نجد إجماعًا في توصيف ما يحصل من تحركات عسكرية في الدول الإفريقية.
توالي الانقلابات العسكرية في القارة السمراء من شأنه أيضًا أن يؤثر في استقرار القارة ومسار انتقالها نحو الديمقراطية
يتبين من هنا أن الانقسامات الجيوسياسية ومصالح الدول الإقليمية تفرض نفسها، فكل دولة تنظر لما يحصل في الدول الإفريقية وفق مصالحها، فإن كان المنقلب يخدم مصالحها فستدعمه وإن كان ضد توجهاتها ستقف ضده وتفرض عليه عقوبات.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة قد أكد حدة هذا الصراع وتحدث عن “الانقسامات الجيوسياسية الكبيرة” التي تمنع مجلس الأمن من اتخاذ تدابير قوية، وتجعل القادة العسكريين يعتبرون أن لديهم حصانة كاملة، وأن بإمكانهم فعل ما يريدون لأنه لن يمسهم شيء.
ودعا غوتيريش في كلمة له بافتتاح أعمال المناقشة العامة للدورة الـ76 للجمعية العامة بحضور أكثر من 100 من قادة ورؤساء دول العالم، “القوى العظمى إلى التكاتف من أجل وحدة مجلس الأمن لضمان وجود ردع فعال لوباء الانقلابات”، الذي يشهده العالم ليس في إفريقيا وحسب بل حتى في آسيا.
استقرار مؤجل
هذا الأمر من شأنه أن يشجع العسكر في الدول الإفريقية على القيام بانقلابات جديدة هناك، كما من شأنه أن يشجع الأنظمة المستبدة على فرض القمع والاستبداد في دولها، ما دامت تتلقى دعمًا قويًا من دول كبرى مقابل تحقيق مصالحها هناك.
توالي الانقلابات العسكرية في القارة السمراء من شأنه أيضًا أن يؤثر على استقرار القارة ومسار انتقالها نحو الديمقراطية وبناء مؤسسات مستدامة، ويفتح الطريق للعودة إلى حقبة الاضطرابات بعدما عاشت القارة عهودًا من الديمقراطية بشكل نسبي في العقدين الأخيرين.
وشهدت إفريقيا جنوب الصحراء 80 انقلابًا ناجحًا و108 محاولات انقلاب فاشلة بين عامي 1956 و2001، بمتوسط أربع محاولات في السنة، لكن ذلك المعدل انخفض إلى النصف من ذلك الحين وحتى عام 2019 إذ اتجهت معظم الدول الإفريقية إلى التحول الديمقراطي.
تشكل هذه الانقلابات تهديدًا خطيرًا ومباشرًا للمكاسب الديمقراطية التي حققتها الدول الإفريقية في العقود الأخيرة، خاصة أن دراسات عديدة تؤكد أن القارة مقبلة على المزيد من الانقلابات في ظل سعي بعض الدول الإقليمية للسيطرة على موارد القارة.