ما زالت اللجنة الدستورية، منذ حينٍ، مستمرةً في عقد جلساتها، التي بلغت ست جلسات، للاتفاق على وضع دستور مشترك لسوريا، بين لجنتي النظام والمعارضة، مصحوبةً بمماطلة عقيمة من النظام وأمل ممل من المعارضة وحالة من الإحباط من مبعوث الأمم المتحدة، فبعد كل الجلسات الماضية والجهود المستنزفة يصر النظام على مناقشة البديهيات، هادفًا لعدم الوصول إلى نتائج ملموسة تلزمه بشيء من التغيير، بل إنه أعلن ذلك صراحةً عندما وصف ما يجري من أعمال الدستور بـ”الخزعبلات السياسية”.
لكن المطلع على تاريخ هذا النظام وتعامله مع الدستور لا يرى فيما يحدث شذوذًا عن القاعدة، فمنذ استيلاء الأسد الأب على السلطة شرع في تفصيل دستور يناسب الخطة التي رسمها لإحكام القبضة على سوريا، وكذلك فعل ابنه من بعده عندما احتاج لتعديل الدستور ليناسب سنه لتوليه الحكم، في حين كانت أول الدساتير السورية مثالًا يحتذى به.
فيما يلي سنقف عند أبرز محطات الدستور السوري، منذ نشأته، النشأة التي اعتبرت نموذجًا لأولى الديمقراطيات العربية، وصولًا لصيرورته أداةً لترسيخ سيطرة عائلة الأسد.
الدستور السوري الأول
مع نهاية الحرب العالمية الأولى وخروج القوات العثمانية من سوريا عام 1918، أعلن الأمير فيصل بن الحسين، الذي قاد الجيوش العربية إلى جانب قوات الحلفاء لإخراج العثمانيين، في دمشق تشكيل “حكومة دستورية عربية مستقلةً استقلالًا مطلقًا لا شائبة فيه باسم مولانا السلطان حسين، شاملةً جميع البلاد السورية – أي ما يعرف بسوريا الطبيعية أو بلاد الشام -“، وقد صاحب ذلك تشكيل حكومة مسؤولة أمام الملك فيصل، وكانت هذه الحكومة قائمةً على تبني الفكر القومي على النمط الغربي، فقد قامت على مقولة حسين الشهيرة: “الدين لله والوطن للجميع”.
الدستور كان الأكثر ديمقراطيةً حتى الآن في العالم العربي
وفي عام 1920 شرع المؤتمر السوري، الذي دعا إليه فيصل، بأعماله التي سيعني من خلالها بإعلان الاستقلال واختيار الملك ووضع دستور جديد للبلاد، وكان وضع الدستور من خلال تأليف المؤتمر لجنة القانون الأساسي-الدستور، يترأسها هاشم الأتاسي، مع مجموعة من خريجي كليات الحقوق السوريين من إسطنبول.
وقد جاء الدستور مؤلفًا من 148 مادةً على أساس النموذج القومي اللامركزي للدولة، وتناول المواد الأساسية التي ستشكل الدستور السوري فيما بعد، فقد عرف مشروع الدستور (حكومة المملكة العربية السورية) بأنها: “حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق، ودين ملكها الإسلام”، كما نصت على “ألا يترك للعوامل الدينية البحتة مجال في السياسة والأحكام العمومية، مع احترام حرية الأديان والمذاهب التي في البلاد بالتفريق بين طائفة وأخرى، والاحتفاظ بما يتعلق بالاعتقادات المذهبية والمعاملات الشخصية حيث تبقى حرة تبعًا للطقوس والتعاليم الدينية بلا أدنى تقييدٍ أو معارضة”.
إلى جانب بحثه – أي الدستور – العديد من المواضيع الشائكة، التي سيستمر النقاش حولها في الدساتير القادمة، كعلاقة الدين والدولة، والمواطنة والهوية، ومشاركة المرأة بالسياسية، التي علق الحديث عنها، وغيرها.
وقد نتفق أو نختلف على ما وصلت إليه اللجنة، إلا أنه لا يسعنا إلا الاتفاق على مدى ديمقراطية الدستور ومصداقية النقاشات التي حدثت في المؤتمر وقدرة اللجنة على تشكيل الدستور، فقد وصف الشيخ محمد رشيد رضا، أحد أعضاء المؤتمر، في مذكراته المعنونة بـ”رحلتان إلى سورية” اللجنة التي وضعت الدستور بقوله: “وكان فيه – أي المؤتمر – العدد الكافي من دارسي علم الحقوق وأصول القوانين ومن ذوي الإلمام بالشريعة الإسلامية ومن الأذكياء المتعلمين في مدارس الدول العثمانية أو بعض المدارس الأجنبية فكان بذلك كفؤًا لوضع القانون الأساسي للبلاد”.
أما عن أعضاء المؤتمر، فيقول: “وكان فيه طائفةً من المحافظين على القديم من أمور الأمة وتقاليدها، وطائفة من المولعين بالجديد الأوروبي، وطائفة من المعتدلين بين جمود أولئك وخفة هؤلاء”، وترى إليزابيث تومسون، المؤرخة وأستاذة تاريخ الشرق الأوسط الحديث في الجامعة الأمريكية، في كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب: المؤتمر العربي السوري لعام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي-الإسلامي”، أن هذا الدستور كان الأكثر ديمقراطيةً حتى الآن في العالم العربي، ويعد مماثلًا لما وصلت إليه دول أوروبا الديمقراطية.
دستور الانتداب
تعقب الكاتبة إليزابيث تومسون بأن فرنسا لم تكن لترضى بتفعيل هذا الدستور خشية امتداد روح الديمقراطية والتحرر إلى باقي أرجاء الوطن العربي في شمال إفريقيا، الذي كان تحت القبضة الفرنسية، وبالفعل، فما هي إلا أيام معدودات حتى دخلت القوات الفرنسية سوريا بعد مقاومة متواضعة في معركة ميسلون كان مكتوبًا لها عدم النجاح بسبب الفارق الكمي والنوعي في التسلح، فدخل الجيش الفرنسي دمشق، وعطل الدستور، وعملت بعد ذلك الحكومة الفرنسية بدمشق على تقسيم سوريا إلى عدة كيانات انتقامًا من حركة المقاومة التي أبداها الشعب السوري، لكن حالة المقاومة وعدم الاستقرار استمرت إلى حين انطلاق الثورة السورية الكبرى، فاضطرت حكومة الانتداب لتقديم التنازلات، فأعادت توحيد البلاد وأعلنت تشكيل الحكومة.
وفي عام 1928 بدأت الانتخابات لجمعية تأسيسية تسن الدستور، فتشكلت الجمعية برئاسة هاشم الأتاسي، أما اللجنة فكان على رأسها إبراهيم هنانو، ووضع الدستور الذي قبلته الجمعية التأسيسية، وكان من أهم التغييرات التي جاءت فيه اعتبار سوريا جمهورية نيابية وتحديد مدة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات غير قابلةٍ للتجديد، بالإضافة إلى الحديث عن استقلال سوريا ووحدتها، وقد تميز هذا الدستور بالتأثر العام بالدستور الفرنسي.
أما فرنسا فلم تقبل به إلا عام 1930 بعد إضافة المادة 116 التي تنص على أنه: “ما من حكم من أحكام الدستور يعارض، ولا يجوز أن يعارض، التعهدات التي قطعتها فرنسا على نفسها فيما يختص بسورية”، لكن المجلس النيابي رفض هذه المادة، وبعد شدٍ وجذب قرر المندوب السامي حل المجلس وتعطيل الدستور، وبقي كذلك إلى حين بداية مرحلة الاستقلال حين أعيد العمل به عام 1943 مع إلغاء المادة 116 منه.
دستور الاستقلال
استمرت الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الحين برئاسة شكري القوتلي حتى قيام أول انقلاب عسكري في سوريا والمنطقة، وهو انقلاب حسني الزعيم 1949، وعلى خلاف العادة، لقي هذا الانقلاب قبول الشعب بسبب أخطاء الحكومة السابقة وفشلها في حرب 1948 ضد “إسرائيل”.
وفي حين شرع الزعيم بشرعنة وجوده في السلطة، من خلال انتخابات جعل فيها نفسه رئيسًا للبلاد، وتعليق الدستور القديم والأمر بإصدار آخر جديد، كانت سوريا على موعد مع بداية مسلسل الانقلابات العسكرية الذي لم ينته إلا بعهد الديكتاتورية الأسدية، فقد استيقظت دمشق على خبر انقلاب سامي الحناوي على الزعيم نفسه، مستفيدًا من أخطاء سابقه، لم يستأثر الحناوي بالسلطة وسلم رئاسة الحكومة لهاشم الأتاسي للعمل على تشكيل الحكومة وإصدار دستورٍ جديد للبلاد، وكان من أهم قرارات هذه الحكومة إصدار قانون جديد لتشريع المشاركة النسائية في الحياة السياسية، في سابقة لم تعرفها سوريا من قبل.
لكن، مجددًا، وبعد خمسة أيام فقط حصل الانقلاب الثالث في العام نفسه على يد أديب الشيشكلي، إلا أن الأخير لم يعطل عمل الدستور، لتكون نهاية عمل الجمعية إصدار دستور 1950 الذي عرف بدستور الاستقلال، وقد قامت لجنة إعداده بتضمين الدستور الجديد أفضل ما وصلت إليه دساتير خمس عشرة دولة أوروبية وآسيوية، وكان من الأمور التي كثر بشأنها النقاش هو مادة تنص على جعل الإسلام الدين الرسمي للدولة، إلا أن المحادثات انتهت بالاكتفاء بجعل دين رئيس الدولة الإسلام، مع جعل الفقه الإسلامي مصدر التشريع.
جاء دستور 1973 الذي وضعه حافظ الأسد، بعد انقلابه 1970 على زميله في الحزب والطائفة صلاح جديد، بمثابة إعلان الحكم الشمولي لحزب البعث
دساتير البعث
بقي العمل بدستور 1950 إلى حين استيلاء البعث على السلطة 1963، لكنه شهد تعليقًا للعمل به إبان انقلاب أديب الشيشكلي الثاني (1952-1954) وفترة الوحدة مع مصر (1958-1961)، ففي عام 1963 انقلب ضباط حزب البعث (اللجنة العسكرية) على حكومة ناظم القدسي، الانقلاب الذي يعرف بـ”ثورة الثامن من آذار”، فأصبحت السلطة بيد المجلس الوطني لقيادة الثورة وعلق العمل بالدستور القديم وفرضت حالة الطوارئ، التي لم تُلغ إلا عام 2011، ومنذ ذلك الحين بدأت مرحلةٌ جديدة للحكم في سورية تتجه فيها نحو الاشتراكية على حساب الليبرالية الغربية.
ففي العام التالي، أي عام 1964، تم وضع دستورٍ مؤقتٍ للبلاد، بسبب احتجاجات الإخوان المسلمين في حماة على انقلاب البعث، التي لم تنته إلا بقمع عسكري دموي، وكان من أهم ما نص عليه هذا الدستور مبدأ قيادة الحزب الواحد وتثبيت مبدأ القيادة الجماعية في الحكم، وقد تتابعت في العشر سنوات التالية التعديلات الدستورية في ظل الانقلابات العسكرية داخل البيت البعثي، إلى أن وصلت لأربعة تعديلات في السنوات: 1966 و1969 و1971، وأخيرًا 1973.
دستور عائلة الأسد
جاء دستور 1973 الذي وضعه حافظ الأسد، بعد انقلابه 1970 على زميله في الحزب والطائفة صلاح جديد، بمثابة إعلان الحكم الشمولي لحزب البعث، فقد نصت المادة الثامنة من الدستور على أن: “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهةً وطنيةً تقدميةً تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في أهداف الأمة”.
وعليه فقد توغل حزب البعث بعصب الدولة إلى أن سيطر على أغلبية مقاعد مجلس الشعب، واستحوذ على مجلس الوزراء، كما سيطر على حق تنظيم القوات المسلحة، وأصبحت جميع الصحف الرسمية تابعةً له، بالإضافة إلى هذا كله، كانت المادة الحادية عشر الأشد فقد نصت على أن: “القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى مسؤولة عن سلامة أرض الوطن وحماية أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية” وبذلك أصبحت أهداف البعث هي أهداف سوريا، وأي معارضة لأهداف الحزب تكون عدوانًا على سوريا وسببًا لتحرك الجيش.
كانت المواد الأخرى كالمادة الثانية، التي تنص على أن: “السيادة للشعب ويمارسها على الوجه المبين في الدستور”، والمادة الثالثة: “دين رئيس الجمهورية الإسلام”، والمادة العاشرة: “مجالس الشعب مؤسسات منتخبة انتخابًا ديمقراطيًا يمارس المواطنون من خلالها حقوقهم في إدارة الدولة وقيادة المجتمع”، كانت هذه المواد مجرد حبر على ورق ليس لها على أرض الواقع أي وجود، فقد جاءت سيطرة الأسد من خلال إحكامه القبضة الأمنية والعسكرية على جميع مجالات الدولة والجيش والقوات المسلحة، مع قمعه لأي صوتٍ منافس، كما تشهد على ذلك مجازره في حماة وتدمر وجسر الشغور وغيرها، بل وأبناء طائفته ورفاقه الحزبيين قبل أي أحد آخر.
ورغم أن دستور 1973 اعتبر أسوأ دستور مر على البلاد، فقد استمر العمل به منذ ذلك الحين حتى عام 2012، مع بعض التعديلات الصغيرة بين الحين والآخر، ومن ذلك أنه مع وفاة حافظ الأسد، كانت المادة الأولى من الدستور بما يتعلق برئيس الجمهورية تنص على أنه يجب على المرشح لرئاسة الجمهورية أن يتجاوز عمره الأربعين، وكان هذا الشرط لا يتوافق مع الرئيس الجديد المقرر بشار الأسد، فصدر قرارٌ بتعديل الدستور لتصبح المادة: “يشترط فيمن يرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربيًا سوريًا متمتعًا بحقوقه المدنية والسياسية متمًا الرابعة والثلاثين عامًا من عمره”، وبذلك يتناسب الشرط مع الرئيس الجديد.
دستور 2012
لم تأت التعديلات الدستورية إلا عام 2012 مع انطلاق الثورة السورية، رغم جهود المعارضة في إجبار بشار على التعديلات منذ توليه الحكم كأحداث ربيع دمشق، وقد كان دستور 2012 الذي وضعه النظام السوري كمحاولة لإيقاف الثورة السورية التي انطلقت آنئذ، مظهرًا أنه يريد الإصلاح وتغيير الوضع القائم، في حين كانت زبانيته تقتل المتظاهرين السلميين.
وقد ادعى النظام، كما هي عادته دائمًا، أن الاستفتاء الشعبي جاء بالموافقة على الدستور الجديد، الذي استغرقت اللجنة الوطنية السورية أربعة أشهر لكتابته، لكن كان موقف المعارضة الطبيعي رفض عملية تعديل الدستور هذه، لعدم جدوى ذلك، فإنه لا يعالج المشكلة الأساسية التي تكمن ببقاء النظام في السلطة، عدا عن أنه لم يأت بجديد، فرغم أنه للوهلة الأولى يظن أن هناك تغييرات جذرية في الدستور، كإلغاء المادة الثامنة التي تنص على أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، مدعيًا بذلك فتح المجال أمام التعدية السياسية، فإن وضع الرئيس الذي يتحكم بمفاصل الدولة جميعها دون استثناء لم يتغير بالنظر إلى باقي المواد.
فالمادة 97 تنص على قيام رئيس الجمهورية بتسمية الحكومة وتشكيلها، والمادة 112 تؤكد حق الرئيس في إصدار التشريعات وتعديل القوانين، والمادة 100 تفيد بحق الرئيس في الاعتراض على بعض التشريعات الخاصة بمجلس الشعب وتعديلها، والمادة 101 تنص على حقه بإصدار المراسيم والقوانين والأوامر، والمادة 102 تؤكد حق إعلانه الحرب والتعبئة العامة وعقد الصلح، بعد موافقة مجلس الشعب، والمادة 105 تؤكد قيادته العامة للجيش والقوات المسلحة، وإصداره جميع القرارات والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة.
علاوةً على ذلك، فإن النظر في الممارسات التي تلت هذه التعديلات كفيلة بإثبات عبثية حمل النظام تعديل الدستور أو تغييره على محمل الجد، فجميع من فاز بالانتخابات التشريعية، بعد الدستور الجديد، من أصحاب العلاقات الأمنية مع النظام، وكذلك لم يظهر أي حزب معارض أو ناقد للنظام، رغم نص الدستور على ذلك، مع احتفاظ حزب البعث بتمرير جميع مرشحيه للفوز بمقاعد مجلس الشعب، في الناحية العملية.
وملخص القول، أن النظام أراد من هذا كله مجرد تبديد الجهود وخداع الناس بصدق نيته في الإصلاح والتجديد، وقد صدق البعض هذه الدعاية ذلك الحين، لبقائه على كرسيه وجعل الدستور ورقةً يستخدمها للمحافظة على شرعيته وخلق حالة اليأس من تغيير النظام القائم على المدى الطويل.
وبعد، فها نحن اليوم نرى ما يفعله من مماطلةٍ ولعب في أعمال اللجنة الدستورية التي لم تتقدم بشيء يذكر منذ أن أعلن الاتفاق على تأسيس لجنة إعادة كتابة الدستور في مؤتمر الحوار بمدينة سوتشي الروسية منذ 2018 إلى اليوم، مناورات النظام هذه التي اختصرها وزير الخارجية السابق وليد المعلم بقوله: “سنغرقهم في التفاصيل”.