بصراحة مباشرة، تكتب وكالة المخابرات الإسرائيلية “الموساد” على موقعها الإلكتروني وباللغة العبرية: “فجأة، أجدُ نفسي أفعل أشياء ربما لا تراها إلا في الأفلام”، وربما في عبارتها هذه تختصر الكثير من الحكاية حول سعي الاحتلال الإسرائيلي إلى التغلغُل في كل المجالات للترويج لروايته، واستقطاب “متعاطفين معه”، ومحاربة الرواية الفلسطينية، بما في ذلك السينما.
تحت عنوان “الموساد الإسرائيلي شديد السرّية يتطلع إلى التجنيد عبر نتفليكس وهولو وآبل تي في” نشرت صحيفة “واشنطن بوست”، أواخر العام الماضي، تقريرًا أشارت فيه إلى أنه ومع التطور السريع للتكنولوجيا العسكرية، تتنافس وكالة المخابرات الإسرائيلية مع قطاع التكنولوجيا المزدهر في كيان الاحتلال، إذ إن قدامى الجنود الإسرائيليين الذين كرّسوا حياتهم في السابق في جيش الاحتلال، باتوا الآن يعملون في الشركات الناشئة المربحة، أو توجّهوا لتأسيس شركاتهم الخاصة مثل Waze وWix وViber.
الموساد: استثمار السينما
بحسب مركز الجزيرة للدراسات، أسَّست المنظمات الصهيونية، في الولايات المتحدة و”إسرائيل”، عام 2003 “مشروع إسرائيل” (The Israel Project – TIP) للدعاية والعلاقات العامة، سعيًا منها إلى تحسين صورة الاحتلال الإسرائيلي والدفاع عنه في العالم عبر مختلف المنصات الدعائية والإعلامية، مثل إتش بي أو ونتفليكس، بوصفها منصات أميركية واسعة الانتشار عالميًّا، وقد عرضت منصات “تليفزيون الاشتراك والطلب” الأميركية ما يزيد عن 20 عملًا من الإنتاجات الإسرائيلية (أفلام، مسلسلات، وثائقيات) خلال السنوات الخمس المنصرمة.
وشهد عام 2018 نقلةً في الحضور الإسرائيلي على نتفليكس، إذ أُطلقت في العام ذاته 4 أعمال بارزة، منها المسلسل الوثائقي Inside The Mossad الذي يقابل عددًا من قيادات الموساد والعاملين فيه، ثم مسلسل When Heroes Fly عن مجموعة من الجنود الإسرائيليين قاتلوا في حرب 2006، ويعاني أحدهم من أزمات نفسية بعد الحرب.
وكذلك فيلم The Angel الذي يتناول قصة العميل المصري أشرف مروان المثيرة للجدل، متبنيًّا الرواية الإسرائيلية حولها، كما عرضت نتفليكس الفيلم الكوميدي Maktub، حول شابَّين نجيا من عملية فلسطينية في القدس المحتلة، وعلى إثر ذلك يقومان بمراجعة كل أفعالهما في الحياة والبحث عن نمط متديّن.
ومسلسل The Spy على سبيل المثال، يحكي سيرة الجاسوس الإسرائيلي في سوريا إيلي كوهين الذي أعدمته القوات السورية عام 1965، ويصوِّر المسلسل حياة كوهين كأحد الأبطال الذين ضحّوا من أجل بلدهم “إسرائيل”، وكان الاحتلال يهدف من خلال المسلسل إحياء روح القتال لأجل البلد لدى شعبه المهزوم نفسيًّا، وإلى جانب ذلك إن كنت من المُشاهدين ضعيفي اليقين بعدالة القضية الفلسطينية، فستجد نفسك تهلِّل لذكاء كوهين، وترى في إعدامه ظلمًا لأحد أبطال الاحتلال.
ما خلف المشهد: سمُّ الأفعى
يسعى الاحتلال من خلال عرض المسلسلات على منصة نتفليكس، المنصة الأكثر حضورًا في الوسط العربي، إلى نوع من “المحاربة الناعمة” التي يوجّهها الاحتلال من خلال عدسات الكاميرا السينمائية، ويحاول من خلال الألوان واللقطات والنص دحض الرواية الفلسطينية، وتفنيد جوهر الصراع العربي-الإسرائيلي من خلال تأكيد صريح على “إسرائيل” كدولة شرعية، في مواجهة الكثير من “الإرهاب” الفلسطيني والعربي.
من ناحية أخرى، يرى الاحتلال في المسلسلات والأفلام سبيلًا إلى بثّ حكايته حول السلام وإمكانية قيامه مع الفلسطينيين بشكل خاص والعرب بشكل عام، مغيّبًا الدماء الفلسطينية التي سفكها خلال المجازر، ومتغاضيًا عن حقّ اللاجئين والعودة لبيوتهم التي هجّرهم منها عام 1948، ولربما منحّيًا بصره عمّا يمارسه حتى اللحظة من إجراءات عنصرية، وانتهاكات واعتداءات بحقّ الفلسطينيين في مختلف الأراضي الفلسطينية، في محاولته لفرض معادلة “السلام ممكن وبمعزل عن اعتداءات الاحتلال”.
وفي محاولة أخرى لإضفاء شرعيتها، تحاول “إسرائيل” استقطاب مشاهير المسلسلات والإنتاجات الفنية على منصة نتفلكيس، وكأنها تريد بدورها أن تكسب تأييد معجبيهم، ولعلّ أقرب مثال على ذلك ما حدث مؤخّرًا من ظهور أبطال المسلسل الإسباني الشهير “لا كاسا دي بابيل” على شاشة التلفزيون الإسرائيلي، وهم يشيدون بالاحتلال ويمتدحون أعماله الدرامية، الأمر الذي أحدث موجة غضب واسعة ودعوات لمقاطعة المسلسل.
تحت الضغط: نتفليكس تستجيب
شهدت الأشهر الأخيرة ضغطًا كبيرًا على منصة نتفلكيس حول دعمها الرواية الإسرائيلية على حساب الدماء الفلسطينية، لا سيما بعد أحداث مايو/ أيار 2021 من الاعتداء الإسرائيلي على القدس وحي الشيخ جراح والعدوان على قطاع غزة، وما شهدته تلك الفترة من حراكات ومظاهرات دولية احتجاجًا على الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية.
وتحت هذا الضغط، والدعوات لمقاطعة نتفليكس، شرعت المنصة إلى احتواء الغضب عليها من خلال عرضها لـ“قصص فلسطينية” في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، التي تعرض 32 فيلمًا لبعض أفضل صانعي الأفلام في العالم العربي.
وقد علّقت نهى الطيب، مديرة الاستحواذ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا لنتفليكس، فيما يخصّ هذا: “أنا شغوفة جدًّا بتنويع محتوى منصتنا، حيث تسعى نتفليكس لتصبح موطنًا للسينما العربية، يستطيع أي شخص في العالم الوصول إليه للاستمتاع بأفلام ومسلسلات عربية متميزة… نحن نؤمن بأن القصص الرائعة تسافر أبعد من حدود موطنها الأصلي، ويُعاد سردها بلغات مختلفة، ليستمتع بها أشخاص من مختلف مشارب الحياة”.
وقد لاقى هذا الأمر احتفاءً بنجاح حملات الضغط على المنصة، واستجابتها لدعوات الرفض والاحتجاج، بينما رآه البعض محاولة من نتفليكس لاستدراك الخسائر التي ستتكبّدها من مقاطعتها، وأن عرضها للرواية الفلسطينية ليس من باب إنسانيتها وموضوعية قرارها، بل من باب الحفاظ على مكانتها ومالها.
الأمر لم ينتهِ بعد
في المقابل، فإن “قصص فلسطينية” لم تحمل في مجملها المعنى الحقيقي لاسمها، فقد وردت بعض الأفلام ضمن المجموعة تحاول تمرير أفكار وقيم مناهضة لقيم المجتمع الفلسطيني مثل فيلم “المرّ والرمان” الذي يحكي قصة “زوجة أسير” خانت زوجها الأسير في السجون الإسرائيلية مع مدرب دبكة، وقد أثار هذا الفيلم حين عرضها في إحدى مسارح مدينة رام الله المحتلة ضجة كبيرًا على محاولته الإساءة لصورة زوجة الأسير الثابتة والصامدة.
في الوقت ذاته، حاولت بعض الأفلام الترويج لفكرة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، ولكن السم الكامن كان في ترويج هذه الرسالة من خلال الانتهاكات الإسرائيلية، مثل “فيلم جيرافادا” الذي يحكي وفاة ذكر زرافة في حديقة الحيوانات الوطنية بقلقيلية خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 2002، وأن زوجته لن تبقى على قيد الحياة إلا بإيجاد رفيق جديد لها، وهو بحسب الفيلم موجود حصرًا في حديثة الحيوانات الإسرائيلية بمدينة تل أبيب المحتلة، ثم بدأت محاولات إحضاره من هناك!
في المحصلة، وإن نجحنا بعض الشيء في دفع منصة عالمية إلى تبنّي روايتنا، فإنه وبينما يغرق العالم في متابعة إنتاج هوليوود ونتفليكس ومنصات إنتاج المشاهِد السينمائية، والذهاب بعيدًا في “بساطة المشهد”، كانت هذه “البساطة” في كثير من الأحيان رسائل خفية، لا تستهدف اندفاعك المباشر لقضاياك، بل تلعب رويدًا رويدًا على وتر المبادئ والمعتقدات، وتراكم شيئًا فشيئًا في ذاكرتك أساليب الانسلاخ من الهوية والقضية والثوابت.