منذ قيام دولة الاحتلال بعد نكبة فلسطين عام 1948، وفور تأسُّس القضاء والمحاكم الإسرائيلية، بدأت القوانين العنصرية المعدّة سلفًا في أروقة الصهيونية بالظهور إلى العلن، وتجلّت العنصرية خلال المحاكم التي كان الفلسطيني طرفًا فيها، حين انحاز القضاء للاحتلال وشارك بشكل “قانوني” في المجازر والاعتداءات الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين، ملطّخًا قواعد القضاء العالمية بالدم.
تعددت المواقف التي اضطلع القضاء في المشاركة بالجريمة، فعلى سبيل المثال تعكسُ واقعة الاعتداء والتعذيب التي تعرّض لها أسرى فلسطينيين في سجن النقب عام 2019 مدى عنصرية القضاء الإسرائيلي وعمله في إطار السياسة الرسمية، إذ ردّت محكمة إسرائيلية شكاوى منظمات حقوقية فلسطينية وأخرى تعمل في مجال قضايا الأسرى بحجّة عدم وضوح صور الضبّاط المشاركين في التعذيب، إلى جانب رفضها الكشف عن مواد التحقيق التي استندت إليها في قرارها.
ومؤخّرًا، كشف برنامج “ما خفي أعظم”، الذي يُبَثّ على قناة “الجزيرة”، النقاب عن أسماء وصور بعض هؤلاء الضبّاط التي التقطتها كاميرا السجن، وهم أمنون يهافي وأورون دروامور وشومئيل الكيام وأفي أبرها وينيف دفيكر، فيما حصل جميع هؤلاء على ترقيات وأغلقت المحكمة الملف بعد عام ونيف من تداوله تحت حجّة عدم تمييز وجوه المعتدين.
فيما يعكس ملف حي الشيخ جراح وتعامل القضاء الإسرائيلي معه عنصرية هذا الجهاز وتبعيته للسياسة العامة في التعامل مع حقوق الفلسطينيين، فرغم تقديم العوائل لجميع المستندات والأدلّة إلّا أن المحكمة ذهبت لطرح تسويات غير عادلة على الأُسر الفلسطينية التي رفضتها مؤخرًا.
أما على الصعيد الرسمي، فإن الجهاز القضائي كثيرًا ما استجاب لأحكام صادرة بحقّ أسرى فلسطينيين، أو حتى بحقّ السلطة الفلسطينية لدفع تعويضات مالية ضخمة جدًّا تحت مسمّى “تعويضات لعوائل الضحايا”، وهم الذين قُتلوا في عمليات استشهادية نفّذتها المقاومة.
الأسرى الفلسطينيون والقضاء الإسرائيلي
وبالتوازي مع ذلك، لا يمكن إغفال القوانين العنصرية التي تصدرها هذه المحاكم، والتي تسمح في بعض الأحيان بتعذيب الأسرى في سجون الاحتلال من أجل انتزاع اعترافات منهم تحت ذريعة الخشية على الحالة الأمنية، أو منع وقوع المزيد من العمليات.
في السياق، يقول المختص في الشأن الإسرائيلي جمعة التايه لـ”نون بوست”، إن القضاء الإسرائيلي بما يخصّ الفلسطينيين ليس عادلًا، وهناك الكثير من الملفات التي أثبتت أنه منحاز بشكل أو بآخر لصالح الساسة الإسرائيليين ويخدم الأجندات سواء الحزبية أو حتى الأجهزة الأمنية.
وبحسب المختص في الشأن الإسرائيلي، فإن الحكومة الإسرائيلية حاولت أن تظهر أمام الرأي العالمي والإعلام أنها رفعت هذا الملف للقضاء الإسرائيلي، لكن الأساس أن هذا القضاء مسيّس، فالحكومة هي التي دفعت المستوطنين إلى القدس والشيخ جراح والأقصى.
ويستدلّ التايه بقوانين شرّعت نزع الاعتراف بالقوة، بحيث أي سجين يريدون أخذ الاعترافات منه يتمّ الحصول على قرار قضائي لتعذيبه، يُسمّى “إذن التحقيق العسكري” أو “الإذن الميداني السريع”، ويتمّ ممارسة أبشع أنواع التعذيب لنزع الاعترافات من “القنبلة الموقوتة” أي الأسير حسب وصفهم.
الاعتقال الإداري هو أكثر أوجه العنصرية التي يطبّقها القضاء الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين حاليًّا، حيث إن أكثر من 500 معتقل فلسطيني، من بينهم نساء، محتجزون بداعي الاعتقال الإداري بلا محاكمة أو اعتبار للضمانات الإنسانية في إبداء أوجه الدفاع.
ويندرج الاعتقال الإداري تحت تصنيف الاحتجاز التعسفي، وهو إجراء محظور بموجب القانون الدولي، بما في ذلك القانون الإنساني الدولي، وهو إجراء يُتَّخذ بدافع عنصري بحت ضد الفلسطيني دون إبداء أسباب أو حتى دون الحاجة لأسباب كون أن الاعتقال إداري، وهو إجراء عسكري ضمنَ شكلًا وإمضاءً قضائيَّين بلا جلسات محاكمة أو ضمانات قانونية تسعف المعتقلين الإداريين الفلسطينيين.
انحياز القضاء للسياسة والأحزاب
ولا تتوقف القوانين العنصرية الصادرة عن قضاء الاحتلال على الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1967، بل تطال الفلسطينيين المحتلة أراضيهم عام 1948 والذين هم مواطنون بموجب القانون الإسرائيلي، إذ يصدر جهاز القضاء أوامر تمنع بدو النقب من البناء في الوقت الذي يسمح فيه للمستوطنين بذلك.
عندما يكون المعتدي إسرائيليًّا، فإن القضاء يبدع له بحلول إفراج سريعة إما بادّعاء الإصابة بالاضطراب النفسي وإما وجود تناقض في الأدلة.
من جانبه، يقول الباحث القانوني في المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان، يوسف سالم، إن القضاء الإسرائيلي هو سلطة من سلطات دولة احتلال تقوم على أساس التمييز العنصري بين سكان الأرض الأصليين وشعب الاحتلال المستجد، وكذلك تعتمد ممارسة الاضطهاد بحقّ الفلسطينيين.
ويضيف سالم لـ”نون بوست: “تتمّ مصادرة منازل الفلسطينيين في القدس الشرقية ومناطق أخرى دون أي مسوّغات قانونية، أو في الشق العسكري بإصدار أحكام قاسية ضد الأطفال والنساء والضحايا من الفلسطينيين، والنظر إليهم بعين المجرمين الذين يستحقون أقصى مدد العقاب”.
ويشير إلى أنهم ينظرون إلى القضاء الإسرائيلي في تعامله مع الفلسطينيين على أنه قضاء منحاز لصالح دولة الاحتلال، ويتجاوز التزاماته المنصوص عليها في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، ويتعمّد إيذاء واضطهاد الفلسطينيين، ما يجعله قضاء عنصريًّا وتمييزيًّا ضد الفلسطينيين.
ويستكمل قائلًا: “عندما يكون المعتدي إسرائيليًّا، فإن القضاء يبدع له بحلول إفراج سريعة إما بادّعاء الإصابة بالاضطراب النفسي وإما وجود تناقض في الأدلة المقدَّمة من النيابة الإسرائيلية إلى المحكمة، وقد رأينا ذلك عندما تمَّ إخلاء سبيل قاتل أطفال عائلة دوابشة”.
ترسيخ الفكر الاستعماري
ويلفت سالم إلى أن القضاء الإسرائيلي يهبُ ما لا يملك لمن لا يستحقّ، من خلال أحكام قضائية عنصرية تستهدف الوجود الفلسطيني المادي أو المعنوي، وقد كان ذلك واضحًا من خلال الأحكام القضائية بإخلاء حي الشيخ جراح وإخلاء وهدم بيوت في مناطق متعدِّدة في الضفة الغربية والقدس المحتلتَين، رغم توافُر جميع الأدلة التي تثبت الملكية.
ويبيّن الباحث القانوني سالم أنه حتى إن اضطر الفلسطيني في بعض الأحيان إلى التوجُّه للمحاكم الإسرائيلية في طلبات التماس، إلا أن الجميع يعلم أن القضاء الإسرائيلي لن ينصف الفلسطينيين، ومثال ذلك القرارات السابقة التي صدرت عن محكمة العدل الدولية بتاريخ 9 يوليو/ تموز 2004، حيث نشرت محكمة العدل الدولية رأيًا استشاريًّا حول مدى قانونية جدار الفصل، تلبيةً لطلب الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 3 ديسمبر/ كانون الأول 2003.
ويضيف: “جاء الرأي الاستشاري منصفًا للفلسطينيين واعتبار جدار الفصل العنصري يهدف إلى خدمة المشاريع الاستيطانية، التي تشكّل خرقًا للبند 49 من الوثيقة، كما أشارت المحكمة إلى أن القيود على السكان الذين تبقّوا ما بين الجدار الفاصل والخط الأخضر قد يؤدّي إلى رحيلهم، وهذا أيضًا مخالف لنفس البند من الوثيقة، كما قرّر الرأي الاستشاري أن السيطرة على الأراضي الخاصة والمرتبطة بإقامة الجدار الفاصل يشكّل مسًّا بالأملاك الشخصية، ما يعدّ خرقًا للبندَين 46 و52 من لوائح “هاج” للعام 1907، والبند 53 من وثيقة جنيف الرابعة”.
ويؤكد أنه في الاستنتاجات الخاصة بالرأي الاستشاري، يتوجّب على “إسرائيل” التوقف عن إقامة الجدار الفاصل، وتفكيك أجزائه التي تمّت إقامتها في الضفة الغربية المحتلة، وإلغاء الأوامر التي صدرت بخصوص إقامته وتعويض الفلسطينيين الذين تضرّروا جرّاء ذلك، إلا أنها تجاهلت ذلك ولم تقم له ميزانًا.
من جانبه، يقول المحامي والناشط الحقوقي صلاح عبد العاطي إنه منذ تاريخ الصراع والقضاء الإسرائيلي أحد أساسيات السلطة الاستعمارية، ورغم لجوء الفلسطينيين إليه في بعض القضايا إلا أن هذا القضاء لم ينتصر يومًا ما إلى معايير المحاكمات العادلة أو حقوق الإنسان.
كان قضاء الاحتلال أداةً في ترسيخ دعائم الدولة الاستعمارية المقامة على دماء الفلسطينيين.
ويوضِّح عبد العاطي لـ”نون بوست” أن هذا القضاء يفتقر إلى كل أُسُس المحاكمات العادلة، ويُستخدَم كقضاء صوري من أجل التغطية على انتهاكات حقوق الإنسان لدى دولة الاحتلال ومصادرة الأراضي، أو غيرها من القضايا التي يتمّ فيها اللجوء إلى القضاء الإسرائيلي المدني والعسكري.
وعن لجوء الفلسطينيين في بعض المرّات للقضاء الإسرائيلي، يتحدث قائلًا: “هناك وجهتا نظر منذ تاريخ الصراع، وجهة نظر ترى أن هذا القضاء غير منصف وغير عادل ولا يمكن اللجوء إليه، وتفضّل الذهاب مباشرة للقضاء الدولي لمواجهة الاحتلال؛ ووجهة نظر أخرى تقول إن هذا القضاء هو إحدى أدوات السيطرة الاستعمارية ولكن يمكن من خلاله على الأقل التخفيف من الأحكام أو تأجيل بعض الانتهاكات”.
وفي الوقت الذي يتوجب على القضاء في شتى أنحاء العالم الانعزال عن الواقع السياسي وتدخُّلاته، وأن يلتزم الحياد في قراراته بما يحفظ الحق الإنساني، كان قضاء الاحتلال أداةً في ترسيخ دعائم الدولة الاستعمارية المقامة على دماء الفلسطينيين، مدعومًا بقوانين شرّعها دستور الاحتلال نفسه تضطهدُ الحق الفلسطيني، وتحرمه حتى من محاكمة عادلة؛ وبينما لا يختلف اثنان على انحياز القضاء، فإن المنطق يقول: كيف لدولة تستعمرك أن تعدل في قضيتك؟