على وقع التلويح التركي بعملية عسكرية وشيكة، باتت مناطق شرقي الفرات الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية وذراعها العسكرية “قسد” في ارتباك إداري وأمني واضح، يعكس واقع التردد والخلاف الذي يشق التنظيم وسط مساع لبناء تحالفات جديدة بدأت تبحث عنها “قسد” مؤخرًا، في ظلّ جملة تغيُّرات قد تطرأ على المنطقة خلال المرحلة المقبلة.
هذا بالتزامن مع تمدُّد قوات نظام الأسد وحليفته روسيا، في عدة مدن وبلدات في مناطق غرب وشرق الفرات، واستغلال موسكو للتهديدات التركية تحقيقًا لمصالحها ومصالح حكومة نظام الأسد في توسيع الرقعة الجغرافية الغنية بالموارد الطبيعية، التي ستساهم في تحسين الواقع الاقتصادي والحل السياسي الذي تسعى إليه روسيا.
ارتباك إداري في مناطق “قسد”
بدأت تظهر معالم الارتباك الذي تعيشه “قسد”، عقب التوعد التركي بالعملية العسكرية المرتقبة التي ستشمل مواقع متعددة تقع تحت سيطرتها على جانبَي الفرات، إلى جانب ضغوط روسية وتمدُّد قوات تابعة لنظام الأسد.
وعلى الرغم من ذلك، لم تستطع “قسد” توحيد قراراتها في التحالف مع روسيا، حيث بدا أن هناك قسمَين يرغب أحدهما في دخول نظام الأسد وروسيا لإيقاف العملية العسكرية التركية، والثاني يرفضه باعتبارهما، أي نظام الأسد وروسيا، تسبّبا في مقتل آلاف السوريين.
يأتي تخبُّط المواقف السياسية لدى مسؤولي الإدارة الذاتية نتيجة لضبابية وغموض الموقف الأمريكي رغم دعمه الفعلي لها
وآخر مظاهر الرفض ما شهده ريف دير الزور من تظاهرات واحتجاجات بحماية عسكرية من “مجلس دير الزور” التابع لـ”قسد” ضد التواجد الروسي، أثناء مرور رتل للقوات الروسية في بلدة الصالحية.
وتشهد قيادة مجلس “قسد” العسكري انقسامات وتفكُّكًا، بحسب ما أوضح موقع “تلفزيون سوريا”، ووجود تيارَين الأول يرعى فكرة التفاهم مع نظام الأسد وروسيا بالملفات الاقتصادية، وضرورة توغلهما في المنطقة، وهو الأقرب إلى تنظيم الـ PKK؛ أما التيار الثاني فيريد البقاء تحت كنف واشنطن، المتمثّل بالقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، وهذا لا يعني بالضرورة رفضًا لنظام الأسد.
ونقلت قناة “كوردستان 24″، عن مصادر خاصة من داخل “قسد”، أن تنظيم الـ PKK بدأ بإجراء تغييرات جديدة في “قسد”، حيث لم يعد عبدي قائدًا لها بعد أن تمَّ تعيينه منسِّقًا مع قوات التحالف الدولي، مشيرة إلى أنه تمَّ تعيين محمود رش قائدًا جديدًا لـ”قسد”، وهو إحدى الشخصيات المقرَّبة من القيادي في تنظيم الـ PKK جميل بايك، وهذا ما يرجِّح تحقيق التحالف الروسي.
وأكدت مصادر خاصة لـ”نون بوست” وجود انقسامات واضحة ومواقف متعددة بين قياديي “قسد”، منهم من يرغب في التفاهم مع نظام الأسد وروسيا ومنهم من لا يريد التعامل معهما، وأرجعت المصادر أسباب الخلافات إلى مواضيع إدارية ومصالح شخصية بالدرجة الأولى، بذريعة أنها لا تخدم مشروع الإدارة الذاتية.
أسباب الارتباك الإداري والأمني الذي تعيشه مناطق الإدارة الذاتية تعود لعدة أمور، أولها عدم قدرة “قسد” على إدارة المنطقة وتوفير الأمن، ووجود قوى أخرى تفتقد للتنظيم، والرفض المجتمعي لوجود “قسد”
ويبدو الاختلاف واضحًا بين رغبة “قسد” في التعاون والتحالف مع روسيا ونظام الأسد على حدّ سواء، أو البقاء في كنف واشنطن والابتعاد عن المسمّيات الأخرى والارتباط بتنظيم الـ PKK، المصنَّف على قوائم الإرهاب لدى واشنطن.
ويأتي تخبُّط المواقف السياسية لدى مسؤولي الإدارة الذاتية نتيجة لضبابية وغموض الموقف الأمريكي، على الرغم من دعمه الفعلي لها، لكنّ انسحاب أمريكا من أفغانستان شكّل هاجسًا جديدًا لدى “قسد”، لذلك قد تطرأ على قيادة “قسد” عدة تغيُّرات داخلية.
تمدُّد النظام وروسيا.. ومخاوف للأهالي
تزداد بشكل يومي التعزيزات العسكرية لنظام الأسد نحو مناطق سيطرة “قسد” شرقي الفرات، تزامنًا مع توسُّع عدد النقاط العسكرية التي تمنحها “قسد” عبر روسيا لنظام الأسد، ما شكّل هاجسًا جديدًا لدى الأهالي المقيمين في المنطقة.
أكّد الناشط موسى الخلف من مدينة الرقة، خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن قوات نظام الأسد متغلغلة بمحافظة الرقة، منهم ضبّاط وعناصر، كما أن الأرتال تدخل بشكل يومي إلى المحافظة من ريفها الجنوبي متّجهة صوب مناطق متفرِّقة بريف الرقة الشمالي.
وأضاف: “يتخوّف الأهالي من سيطرة النظام الكاملة، لأن بعضهم مطلوبين ويمكن أن تعتقلهم قوات النظام في حال عودته، علمًا أن نظام الأسد يعتبر أن العمل مع “قسد” خيانة، وانتشار نظام الأسد وارد لكن لن يستطيع سدّ الفراغ لذلك سيعتمد على شيوخ العشائر، من خلال تجنيد أبنائهم للمرحلة القادمة”.
وأوضح: “هناك شخصيات بدأت تعمل على الترويج لإجراء مصالحات “مدفوعة الأجر” مع نظام الأسد في ظل انتشار قواته في المدينة، وتصل المبالغ مقابل المصالحة إلى مليون ليرة سورية، بينما يسعى آخرون إلى التلويح بعودة مؤسسات النظام لاحقًا”.
ويخشى الأهالي في مناطق شرق الفرات من ازدياد تمدُّد نظام الأسد وروسيا في مناطقهم لأسباب أمنية، لأن العديد من المنشقّين عن النظام ما زالوا يقيمون في مناطق تسيطر عليها الإدارة الذاتية، كما أن آلاف الشبّان المتخلفين عن الخدمة الإلزامية قد يتعرضون لتهديد أمني، ما سيجعل المنطقة تدخل في مرحلة جديدة لا تختلف كثيرًا عن المرحلة التي تعيشها درعا.
ويبدو أن أسباب الارتباك الإداري والأمني الذي تعيشه مناطق الإدارة الذاتية تعود لعدة أمور، أولها عدم قدرة “قسد” على إدارة المنطقة وتوفير الأمن، ووجود قوى أخرى تفتقد للتنظيم، والرفض المجتمعي لوجود “قسد”، لا سيما في استغلال المراكز القيادية فيها من قبل شخصيات كردية، وتهميش المكوِّن العربي.
تحالُفات “قسد”
عملت روسيا على استثمار التهديدات التركية والتوغُّل أكثر فأكثر في مناطق شرقي الفرات، أولها توسيع نشاطاتها في مطار القامشلي، والقيام بمناورات عسكرية في تل تمر بريف الحسكة بمشاركة “قسد” ونظام الأسد، بالإضافة إلى تعزيزات للأخير وصلت إلى عين عيسى ومطار الطبقة العسكري الذي منحته روسيا لنظام الأسد مؤخرًا.
هذا إلى جانب وصول شحنة من الذخائر العسكرية الأسبوع الفائت إلى قوات نظام الأسد الموجودة في قاعدة عين عيسى شمالي الرقة، تضمّنت رشاشات نوع إم-16 وقنابل يدوية أميركية الصنع و3 عربات عسكرية رباعية، حيث تظهر مدى تماشي “قسد” التي تسعى للحفاظ على وجودها مع التطورات الميدانية.
في سبيل تحقيق تحالفها مع روسيا؛ ستحاول “قسد” التقرُّب من الحاضنة الشعبية، وإدخالها في الإدارات العسكرية والمدنية في شرق الفرات، والسماح لقوى قريبة من موسكو أو متحالفة معها الانخراط في جسم “قسد”
دفعت التطورات العسكرية شرق الفرات “قسد” إلى مشاركة نظام الأسد وروسيا في غرفة علميات موحَّدة، بينما جرى الحديث مؤخرًا عن تفاهمات بين نظام الأسد وروسيا من جهة و”قسد” من جهة أخرى حول ملفات اقتصادية، وهذا ما لوّح به عضو الهيئة الرئاسية لحزب الاتحاد الديمقراطي آلدار خليل، عن إمكانية التفاهم بملف النفط.
ويرى الصحافي السوري فراس علاوي أن روسيا بحاجة “قسد” كما الأخيرة بحاجتها، حيث ستحصل “قسد” على اعتراف إداري وإدارة مستقلة ضمن شروط معيّنة، ومنها تطوير عمل المربعات الأمنية وليس وجود النظام بالكامل، كما تضمّنت الأخبار الواردة عن تفاهمات “قسد” وروسيا.
وأضاف علاوي الذي ينحدر من دير الزور، خلال حديثه لـ”نون بوست”، أن “قسد” أفضل من يبني تحالفات في المنطقة، ومن المرجّح أن تبني تحالفًا مع الروس، وستنجح بذلك في حال وافقت واشنطن، لأن روسيا بحاجة إلى السيطرة على كامل الجغرافيا السورية، فإذا أزاحت من طريقها “قسد” فإنها ستستطيع إحكام سيطرتها.
وأوضح: “ستحاول “قسد” التقرُّب من الحاضنة الشعبية، وإدخالها في الإدارات العسكرية والمدنية في شرق الفرات، والسماح لقوى قريبة من موسكو أو متحالفة معها الانخراط في جسم “قسد”، في سبيل تحقيق تحالفها مع روسيا”.
خيارات “قسد”
يبدو أن الخيارات المتاحة أمام “قسد” غير كافية في ظل التهديد التركي والغموض الأمريكي والاستثمار الروسي، لأنها فعليًّا أمام خيارات مفصلية قد لا تخدم مصالحها ومشروعها بالدرجة الأولى، لذلك ستبحث عن الخيار الذي سيحقّق مصالحها، أو يحافظ على وجودها على أقل تقدير.
– الأول: التحالف مع روسيا بموافقة أمريكية، في حال أصبح الانسحاب الأمريكي أمرًا واقعًا، للحصول على حليف جديد، ويبدو هذا الخيار غامضًا.
– الثاني: التراجع والابتعاد لعُمق معيّن وفق التوافقات التركية-الروسية، وتنفيذ اتفاق أضنة، الذي ينصّ على دخول القوات التركية إلى الأراضي السورية بعمق 35 كيلومترًا، وكسب الحليف الروسي، والحصول على موقع في شرق الفرات.
– الثالث: المواجهة، وهو خيار صعب لأنها فعليًّا ستهزم أمام العملية العسكرية التركية، والتي قد تستهدف مناطقها في الخطوط الخلفية، وخسارة الحليف الروسي.
وتعوِّل “قسد” على روسيا لعرقلة العملية العسكرية التركية، وذلك من خلال دمج “قسد” في تحالف عسكري يتبع لها، وهنا لن تستطيع تركيا الدخول في صدام مفتوح مع روسيا، ما يعيد التفاهمات التركية-الروسية، وربما نرى ما يشبه إدلب في شرق الفرات وتتحول “قسد” إلى قوى مدجّنة روسيًّا، وقد يعطي الوجود الأمريكي غير الكامل نوعًا ما أملًا لـ”قسد”، بحسب ما أوضح فراس علاوي خلال حديثه لـ”نون بوست”.
في النهاية، تبقى الخيارات المتاحة أمام “قسد” غير مرضية لها، في ظلّ بحثها المتواصل عن حليف يحفظ بقاءها لاستكمال مشروع الإدارة الذاتية الذي قامت من أجله، مستغلةً دعم واشنطن المقدَّم لها في حربها على “داعش”، لذلك يبدو أن المشهد يزداد تعقيدًا؛ فهل تتّخذ “قسد” خيارها في التحالف مع موسكو ونظام الأسد؟