26 سنة مضت على انتهاء الحرب البوسنية التي ذهب ضحيتها آلاف الضحايا بعمليات التطهير العرقي التي ارتكبها جزارو الصرب، واليوم تعيش البوسنة والهرسك توترًا كبيرًا يُخشى أن يتحول إلى حرب لا تحمد عقباها بعد تهديدات صربية بالاستقلال عن البلاد وتأسيس جيش صربي.
وبدأت دول العالم تستشعر خطر ما آلت إليه الأمور في البوسنة والهرسك، بعدما حذر الممثل السامي للمجتمع الدولي في البوسنة كريستيان شميت، من أن “اتفاقية السلام التي وقعت في نهاية الحرب، سنة 1995، معرضة لخطر الانهيار ما لم يتم اتخاذ إجراء لمنع الانفصاليين الصرب من الدفع نحو الانفصال مجددًا”.
تهديدات صربية
وفي التفاصيل، هدد ميلوراد دوديك، زعيم الصرب في البوسنة والهرسك، بالانفصال عن البوسنة إذا لم تتم العودة إلى “أصل اتفاقية دايتون”، وكان دوديك ومسؤولون آخرون من صرب البوسنة قد قاطعوا قانونًا يجرّم إنكار المجازر التي شهدتها البلاد، أصدره مكتب الممثل السامي في البلاد.
بعد ذلك هدد دوديك باتخاذ “خطوات متطرفة” تتعلق بنظم الجيش والقضاء في البوسنة والهرسك، ويُعتبر دوديك عضوًا في مجلس رئاسة البوسنة والهرسك المكون من ثلاثة أشخاص، ولطالما أعطى وعودًا بتشكيل جيش صربي، كما أنه يريد طرد المؤسسات الفيدرالية، خارج جمهورية صرب البوسنة المعروفة باسم “صربسكا”.
يذكر أنه خلال مفاوضات السلام التي عقدت في دايتون الأمريكية وُضع حل للصراع الدامي، وحصل الصرب على كيان مستقل يحتل نصف البلاد إلى حد ما، كما حصل المسلمون والكروات “اتحاد البوسنة والهرسك” على النصف الآخر، ويرتبط الطرفان بمؤسسات مركزية تُدار بآليات موضوعة من الأمم المتحدة، لكن دوديك يندد بهذه المؤسسات ويريد إزالتها، كما أنه لا يرضى عن هذا النظام الذي يعتبره “صنيعةً غربيةً”، ويؤكد قائلًا: “سنعيد النظر ونعود عن موافقة الجمهورية الصربية على تشكيلها ولا سلطة في العالم تستطيع إيقافنا”.
تصريحات دوديك التي غالبًا ما هددت السلم الأهلي في المنطقة، تأتي ارتكازًا على دعم روسي واضح، والتصريحات الأخيرة حصلت بعد اللقاء الذي جمعه بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في بلغراد.
ليس بعيدًا عن تصريحات دوديك، أجرت شرطة صرب البوسنة تدريبات على مكافحة الإرهاب خارج العاصمة سراييفو مباشرة، في خطوة اعتبرت استفزاز جديد من القيادة الانفصالية في البلاد، المثير في هذه التدريبات أنها جرت في منتجع للتزلج في الجبال التي قصف منها الجيش الصربي مدينة سراييفو وقتل بذلك الآلاف وجرح مثلهم.
انهيار محتمل للسلام
كريستيان شميت مبعوث السلام في البوسنة حذر من جانبه “من مخاطر دفع هذا البلد الأوروبي متعدد الأعراق إلى التفكك”، وقال شميت وهو الممثل الدولي الأعلى في البوسنة: “حدوث هذا الأمر سيؤثر على الصراعات التي ما زالت باقية بغير حل في غرب البلقان مثل الصراع بين صربيا وكوسوفو”، واعتبر أن “اتفاق السلام الذي أنهى الحرب في البلاد في تسعينيات القرن الماضي معرض لخطر الانهيار ما لم يتخذ المجتمع الدولي إجراءات للتصدي للانفصاليين الصرب”.
وأشار شميت إلى أن القيادة الصربية بصدد اتخاذ خطوات في البوسنة من شأنها أن تحل مؤسسات مثل القوات المسلحة المشتركة وهيئة الضرائب والهيئة القضائية، موضحًا أن الاضطراب بالمنطقة يؤثر أيضًا على العلاقة المضطربة بين صربيا وكوسوفو بنفس الطريقة أو بطريقة مماثلة، مشددًا على أهمية أن تهتم صربيا ببقاء البوسنة والهرسك معًا.
تحرك تركي
أبرز ردود الفعل الإقليمية والدولية، كان الحراك التركي، فقد أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده “تعد الحائل الأكبر أمام وقوع أحداث مؤسفة في البوسنة والهرسك مجددًا كتلك التي شهدتها البلاد قبل اتفاقية دايتون المبرمة عام 1995″، وأشار أردوغان إلى أن “تركيا لطالما قدمت الدعم من أجل استقرار البوسنة والهرسك عبر الحفاظ على البنية الثقافية والإثنية المتعددة لهذا البلد، ودون تمييز بين مكوناته”، مضيفًا “لا نريد أبدًا أن تتحول البوسنة والهرسك إلى ساحة نفوذ وتنافس للأطراف التي لديها حسابات بشأن هذه المنطقة”.
ولفت الرئيس أردوغان إلى أنه ناقش مع الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش في إسطنبول التطورات في المنطقة، مشيرًا إلى أنه التقى رئيس مجلس الشعوب البوسني بكر عزت بيغوفيتش، وبحث معه سبل احتواء التوتر القائم في البلاد، كما كشف الرئيس التركي أنه يخطط لدعوة المسؤولين من البوسنة والهرسك، للقاء في أنقرة، بمن فيهم ميلوراد دوديك (العضو الصربي في المجلس الرئاسي الثلاثي الذي أدلى بتصريحات فاقمت التوتر في البلاد) إلى جانب شفيق جعفروفيتش ممثل البوشناق وزليكو كومسيك ممثل الكروات في المجلس.
موقف الغرب
دوليًا، جدد الاتحاد الأوروبي التأكيد على “منظوره حيال البوسنة والهرسك كدولة واحدة موحدة وذات سيادة”، معربًا عن “بالغ أسفه تجاه الأزمة السياسية التي تتعرض لها البلاد حاليًّا بما عرقل جميع مؤسساتها”، وحث المجلس الأوروبي في بيان صحفي، القادة السياسيين على “نبذ خطاب الكراهية والعمل الاستفزازي والمثير للانقسام، بما في ذلك التشكيك في وحدة أراضي البلاد”.
من جهتها وجهت واشنطن في سبتمبر/أيلول الماضي، تحذيرًا إلى ميلوراد دوديك، مؤكدةً “تمسكها الراسخ بوحدة البوسنة والهرسك”، وذكرت السفارة الأمريكية في سراييفو في تغريدة أن مساعد وزير الخارجية الأمريكي قال لدوديك: “التهديد بالانفصال والتراجع عن إصلاح مؤسسات الدولة يتعارضان مع اتفاقية دايتون للسلام”.
إلى ذلك، نقلت “سي إن إن” عن أرمينكا هيليش عضو مجلس اللوردات البريطاني والمستشارة الخاصة السابقة لوزير الخارجية البريطاني قولها: “المواطنون في جميع أنحاء البوسنة والهرسك، بما في ذلك كيان جمهورية صربسكا يخشون العنف”، ورجحت السياسية – بوسنية الأصل – أن يؤدي تحرك آخر نحو الانفصال إلى ردة فعل قوية، وقالت: “لا توجد طريقة يمكن بها تفكيك البوسنة والهرسك بشكل سلمي”.
أنا مع السلام
يبدو أن هذه التوترات الحاصلة تثير مخاوف السكان الذين قالت صحيفة “لوبس” الفرنسية “إنهم قلقون” ويتساءلون: هل ستندلع الحرب مرة أخرى؟ تنقل الصحيفة الفرنسية أنه على جدران العاصمة البوسنية، تجد أيادي مجهولة كتبت “أنا مع السلام”، كما وضع آخرون ملصقات تحث على الدفاع عن الأراضي البوسنية وتشجع على التجنيد بعبارات مثل “أنت أيضًا مطلوب للدفاع عن البوسنة”.
كما نقلت الصحيفة أنه يتم تداول الكثير من الأسلحة في الخفاء، ويمكن شراء كلاشينكوف مقابل 200 يورو، ويذكر مراسل الصحيفة أن “الجميع في هذا البلد يتذكر تلك الحرب التي أودت خلال 3 سنوات بحياة أكثر من 100 ألف شخص ونزوح مليوني لاجئ”.
تشير الصحيفة إلى أن الرد الرسمي على تهديدات الزعيم الصربي دوديك كان “ضعيفًا”، مشيرةً إلى أنه اقتصر على “بدء النيابة العامة في سراييفو، العاجزة تمامًا أمام جمهورية صربسكا، تحقيقًا قضائيًا في قضية دوديك المتهم بتقويض النظام الدستوري”، وتوضح “بينما تدعم موسكو وبلغراد سرًا المحاولات الخطيرة لزعزعة استقرار البوسنة المتذبذبة، يبدو أن الاتحاد الأوروبي – وعلى نطاق أوسع ما يسمى “المجتمع الدولي” – يتعامل مع هذا الأمر الخطير باستخفاف”.
إذن، الموقف في البوسنة والهرسك يبدو على شفير حرب، تأججها روسيا وتنفخ في نارها التي قدح فتيلها الصرب، مجددًا، فيما يخاف البوسنيون والعالم من جراح “سربرنيتسا” وما يشببها من المذابح التي ارتكبها الصرب على مرأى من العالم، فيما لا يزال ضمير البشرية يضج من وجع عارها.