عملت روسيا بُعيد تدخُّلها العسكري المباشر في سوريا على توسيع نفوذها وتثبيت وجودها الاستراتيجي بما ينسجم مع مصالحها ومخططاتها المستقبلية في المنطقة.
وحيث إن سوريا تمثّل جزءًا من السياسة الروسية الساعية إلى استعادة دور موسكو ونفوذها في الساحة الدولية، والاضطلاع بدور عالمي جديد كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية؛ كان لا بدَّ لها من تعزيز تموضعها وتوطيد نفوذ متداخلٍ طويل الأمد، يشمل كافة الجوانب الحيوية السورية، السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية.
وبعد أن تطرّقنا بشيء من التفصيل في تقريرين سابقين إلى مساعي روسيا للسيطرة على المؤسسة العسكرية والأمنية في سوريا، وجهودها أيضًا في النفاذ داخل النسيج المجتمعي السوري عبر أدوات شملت النواحي الثقافية والتعليمية؛ نشرع في هذا التقرير بالحديث عن النفوذ الروسي الممتد إلى أغلب مفاصل القطاعات الاقتصادية والطاقوية والتجارية السورية.
تمهيد
أسهمت روسيا عبر تدخُّلها العسكري بمنع سقوط نظام الأسد، واستطاعت تثبيت أركان حليفها ومكّنته من استعادة السيطرة على مساحات واسعة من سوريا، وقد تكبّدت روسيا نفقات مالية ضخمة نتيجة عملياتها العسكرية المستمرة، الأمر الذي قد أثّر سلبًا على الاقتصاد الروسي الذي يعاني أصلًا من ضغوطات اقتصادية متراكمة بسبب تفشّي وباء كورونا، وتراجُع أسعار النفط العالمي، فضلًا عن العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأمريكية المستمرة على القطاعات الاقتصادية والطاقوية والمالية والتجارية الروسية.
تنبّهت روسيا مبكّرًا لتحركات بعض القوى الإقليمية للشروع في مشاريع نقل الطاقة، النفط والغاز، من منطقة الشرق الأوسط باتجاه أوروبا.
ونظرًا إلى أن التموضع الروسي في سوريا يدخل ضمن حسابات موسكو الاستراتيجية العليا الإقليمية والدولية، متجاوزًا الساحة السورية من زاوية التطلُّعات المستقبلية؛ حرصت روسيا على الاستحواذ على مواقع اقتصادية سورية هامة، انطلاقًا من أن ذلك يدعّم وجودها العسكري، ورغبة منها فيما يبدو لتحصيل بعض الديون التي قدّمتها لنظام الأسد.
كما حرصت روسيا على أن تقلِّل من خسائرها وتعوِّض بعضًا منها، من خلال إبرام عقود واتفاقيات ومشاريع اقتصادية وقّعتها مع نظام الأسد، وذلك وفق أجندة روسية قوامها الإمساك بمستقبل سوريا والتحكم بزمام اتخاذ القرار فيها، وتحويل سوريا إلى نقطة ارتكاز لتعزيز مكتسباتها الاقتصادية وتحقيق مصالح روسيا وأهدافها الاستراتيجية في المنطقة.
استحواذ على القطاع الاقتصادي السوري
من المرجح أن روسيا تنبّهت مبكّرًا لتحركات بعض القوى الإقليمية للشروع في مشاريع نقل الطاقة، النفط والغاز، من منطقة الشرق الأوسط باتجاه أوروبا عبر سوريا، الأمر الذي قد يؤدّي إلى إضعاف موقفها التفاوضي مع أوروبا في حال تمامه، باعتبار أن تصدير الغاز الروسي هو ورقة ضغط سياسية روسية على أوروبا، الأمر الذي لعب دورًا مهمًّا وفاعلًا في التأثير على تحركات وتوجُّهات روسيا للهيمنة على الاقتصاد السوري.
ويتمّ هذا في ظل تصاعد التنافس مع قوى إقليمية متنفّذة في الملف السوري كإيران، للسيطرة على مصادر الطاقة والموارد الطبيعية كحقول النفط والفوسفات، والولوج إلى القطاعات الاقتصادية السورية عبر الاستثمارات في مشاريع اقتصادية متنوِّعة في مجالات مختلفة، كالطاقة والبنية التحتية ومشاريع تتعلق بإعادة الإعمار، بحيث تضمن هذه القوى موطئ قدم لها في الاقتصاد السوري مستقبلًا.
وتعمل روسيا على ترسيخ نفوذها وهيمنتها على الأصول الاقتصادية السورية، عبر توسيع نشاط شركاتها الصغيرة والعملاقة التي زادت من حجم انخراطها في الأسواق الاقتصادية السورية، عن طريق تحصيل عقود واتفاقيات طويلة الأمد مع نظام الأسد تضمن لها وجودًا متجذّرًا ويمنحها قدرة كبيرة على التحكم بمستقبل وقرارات سوريا.
وقد ازدادت وتيرة زيارات لرجال الأعمال والمال الروس إلى سوريا عقب التدخل العسكري الروسي عام 2015، حيث بلغ عدد الشركات الروسية 80 شركة استثمارية دخلت سوريا مطلع عام 2018، ووقّعت العديد من الاتفاقيات المتعلقة بمشاريع استثمارية في قطاع الطاقة السورية مع نظام الأسد، لا سيما فيما يتعلق بمجال إعادة بناء وتشغيل البنية التحتية للنفط والغاز واستخراج الفوسفات، وأخرى متعلقة باستئجار وتشغيل بعض الموانئ السورية.
فعلى سبيل المثال، صادقَ مجلس الشعب التابع لنظام الأسد عام 2018 على العقد الذي وقّعته روسيا عبر شركة “ستروي ترانس غاز”، ذراع روسيا النفطية في سوريا، مع “المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية” لاستثمار واستخراج الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر لمدة 50 عامًا.
ووقّعت الشركة نفسها اتفاقية لاستئجار مرفأ طرطوس لمدة 49 عامًا، في خطوة متقدِّمة فيما يبدو لتعزيز السيطرة الروسية، وضمان حرية التنقيب عن الغاز على السواحل السورية.
كما مُنحت شركات نفطية روسية أخرى حقّ التنقيب عن النفط والغاز قبالة السواحل السورية لمدة 25 عامًا، لتعلن وزارة الطاقة الروسية في وقت سابق أن “عدة شركات روسية باشرت بأعمال التنقيب الجيولوجي في حقول ومكامن الطاقة، مع أعمال إعادة تأهيل حقول ومصافي النفط والغاز، فضلًا عن صيانة وتحديث المحطات الكهروحرارية”، والسيطرة على طرق دولية خاصة الطريقَين الدوليَّين M4 وM5 للاستفادة من عوائد الترانزيت.
تستغلّ روسيا فعليًّا الوضع الاقتصادي المتردّي لنظام الأسد من جهة، وتعتمد على تغلغلها متعدِّد الجوانب داخل أروقة مؤسسات النظام من جهة أخرى.
إلى جانب ذلك، تضع روسيا يدها على كثير من المنشآت الحيوية والاقتصادية في سوريا، وينتشر توغُّلها في مناطق متفرقة تسيطر عليها عسكريًّا، لا سيما في مناطق الساحل والبادية السورية وريف دمشق، مرورًا بدير الزور والرقة في شمال وشرق البلاد، كما وسّعت نشاطها ليشمل سيطرة مباشرة على بعض من حقول النفط والغاز في شمال وشرق سوريا بعد طرد ميليشيات موالية لإيران من تلك المناطق، وأبرزها “حقل الثورة” و”حقل توينان” النفطيَّين الواقعَين في محافظة الرقة، وحقلَي “التيم” و”الورد” في دير الزور.
ولم تقتصر التحركات الروسية على قطاعَي النفط والغاز، بل تعدّت ذلك إلى محاولة التمدُّد إلى قطاعات أخرى كقطاع السياحة والإسكان والتجارة، حيث أكّد تقرير نشره موقع Intelligence Online أن “روسيا أبرمت عام 2019 عبر شركة STG Logistic الروسية اتفاقية بقيمة 90 مليون دولار لإقامة مجمّع سياحي في محافظة طرطوس، يضمّ فعاليات سياحية وتجارية وترفيهية متنوِّعة”، وذلك بعد تقديم النظام ميزات اقتصادية طويلة الأمد لهذه الشركات.
هذا بالإضافة إلى استثمار شركات روسية في عقود متنوِّعة، للقيام بمشاريع لتوليد الطاقة وتشغيل سكك حديد وتشييد مجموعة من المعامل الصناعية والزراعية والكيميائية وغيرها.
ويبدو أن روسيا تستغلّ فعليًّا الوضع الاقتصادي المتردّي لنظام الأسد من جهة، وتعتمد على تغلغلها متعدِّد الجوانب داخل أروقة مؤسسات النظام من جهة أخرى؛ لترسيخ حضورها الاقتصادي وتعزيز فرصها بالاستثمار في ثروات سوريا وأهم مصادرها الاقتصادية، مستعينة بتواطئ نظام الأسد واستخدامه الثروات السورية كوسيلة لتسديد ديونه لروسيا، وكضمان لبقاء حكمه عبر تصديقه على عقود استثمار طويلة الأمد بشروط مجحفة.
تحديات
رغم تحقيق روسيا خطوات مهمة في إطار مساعيها الرامية للإمساك بأطراف الملف الاقتصادي السوري، إلا أنه يمكن القول إن هناك العديد من المنغصات التي تقف حائلًا أمام إتمام روسيا سيطرتها الشاملة على الملف السوري ككل وعلى المسار الاقتصادي بشكل خاص، والتي يمكن إيجازها كالآتي:
– عجز موسكو عن إقناع المجتمع الدولي للبدء بضخّ الأموال وتحريك ملف إعادة الإعمار، الذي تشترط دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبعض الدول العربية الوصول إلى حلّ سياسي شامل في سوريا قبل الخوض في تفاصيله، والواضح أن روسيا تولي هذا الملف أهمية قصوى لما قد ينعكس إيجابًا على نظام الأسد المتهالك بما قد يجنيه من مكتسبات ومصالح تنعش اقتصاده المنهار، إلى جانب ما قد تحصّله من عوائد مالية تعوِّض بها بعضًا من خسائرها الاقتصادية.
– يشكّل التنافس الإيراني الروسي للهيمنة على الفرص الاقتصادية والاستثمارات والحصول على مشاريع متعلقة بإعادة الإعمار، وتضارب المصالح بين الجانبَين، عقبةً كبيرة أمام التطلُّعات الروسية لإحكام قبضتها على القطاع الاقتصادي السوري؛ فرغم أنّ مستوى التنسيق والتعاون بين البلدَين ما زال هو المميّز لطبيعة العلاقة وتفاعلها في سوريا، إلا أن نقاط الخلاف ومكامن التبايُن تزداد مع بلوغ الصراع فيها “مرحلة الجمود الهشّ”، ليعلن نائب رئيس غرفة التجارة الإيرانية السورية، علي أصغر زبردست، في وقت سابق أن “الروس ينتفعون من الاقتصاد السوري أكثر من غيرهم ويشاركون ببعض المشاريع في إعادة بناء البلد”.
– الضغوطات الاقتصادية التي تعاني منها روسيا تقيّد إلى حدٍّ ما النشاط الاقتصادي الروسي.
– العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام الأسد، والتي قد تحدّ من نشاط بعض الشركات الروسية والأجنبية في الاستثمار بالقطاعات الاقتصادية السورية.
– الوضع الأمني المتدهور والذي يؤثّر بطبيعة الحال على قرار الشركات والمستثمرين الأجانب في الدخول إلى السوق السورية.
في المحصلة، يبدو واضحًا أن روسيا استطاعت خلال سنيّ الصراع تحصيل بعض المكتسبات على الأصعدة السياسية والاقتصادية، وتحقيق جزء من الأهداف المرجوّة من تدخُّلها العسكري المباشر، في ظلّ تراخٍ أمريكي وغربي وتماهٍ نسبي مع تقديرات روسيا ونشاطاتها التسلطية في سوريا، وهو ما تستثمره روسيا جيدًا للتغلغل داخل المؤسسات السورية المختلفة، وعلى رأسها القطاعات الاقتصادية.
ولكن تبقى الجهود الروسية مقيّدة إلى حدٍّ ما بموقف الولايات المتحدة حيال ملف إعادة الإعمار، وربطها المشاركة في عملية إعادة الإعمار لحين الوصول إلى حل سياسي شامل للملف السوري وفق القرارات الدولية، وهو ما فشلت به روسيا -إلى الآن- ليبقى الباب مواربًا أمام حدوث أي توافق روسي أمريكي محتمَل يعترف بمصالح روسيا ونفوذها على سوريا.