عام 1967 جلس الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف والرئيس المصري جمال عبد الناصر معًا يتحدثان حول عملية قطع النفط التي لم تكتمل خلال النكسة، لكن عارف قال أمرًا مثيرًا للاهتمام: “سيادة الرئيس، العراق والجزائر وحدهما من قطع النفط، وكان في ذلك ضرر كبير علينا، فالنفط يشكّل 89% من واردات العراق”. الآن، وبعد 54 عامًا، لا يزال النفط يشكّل أكثر من 90% من واردات العراق في موازنته العامة، وهو أمر كفيل برسم صورة عن أي اقتصاد يملكه العراق اليوم.
نظرة على الواقع السياسي وتأثيره على الاقتصاد
ما بعد 2003: عصر الفرص الضائعة
منذ عام 2003 يعيش العراق في دوامة إضاعة الفرص وإهدار الموارد، التي كانت كفيلة بنقله من الاعتماد الكلّي على النفط والارتهان بأسعاره، إلى صناعة اقتصاد رأسمالي قوي يعتمد على الإنتاجية، ويقلِّل الاعتماد على الدولة من قبل القطاعات المختلفة.
بدأت هذه الفرص بالظهور بعد رفع الحصار الاقتصادي على العراق عام 2003، حيث لم تستغلّ الحكومة الجديدة الناشئة الوضع لصناعة جوّ آمن يسمح بالاستثمار ورفع العبء عن القطاع العام، بل بدلًا من ذلك كانت الحكومات المتعاقبة (حكومة إبراهيم الجعفري (2005-2006) وحكومة المالكي الأولى (2006-2010)) شبه منخرطة بالعنف الطائفي، متسبِّبة بتأجيج الأوضاع التي مالت نحو الاستقرار عام 2010، ما يعني أن مصدر الإخفاقات في الحكم يكمن في ضعف وهشاشة النظام السياسي الناجم عن هذه المحاصصة الطائفية والعرقية التي تمَّ تبنيها بعد عام 2003، إضافة إلى قلة الخبرة والإدارة، ويُستثنى من ذلك ربما الحزبَين الكرديَّين اللذين تمتّعا بحكم ذاتي منذ ما بعد حرب الخليج الثانية عام 1992.
تمكّنت الأحزاب الحاكمة من السيطرة على المشهد السياسي عام 2005، وظلت في السلطة حتى يومنا هذا، مع بعض الاختلاف في التأثير على مرّ السنين. على سبيل المثال، كان المجلس الإسلامي الأعلى في المقدمة في انتخابات عام 2006، بعد ذلك سيطرَ ائتلاف دولة القانون على المشهد حتى عام 2014، وفي غضون ذلك سيطرَ التيار الصدري وتحالف فتح بعد انتخابات 2018، بينما في إقليم كردستان يتزعّم الحزبان الحاكمان الرئيسيان منذ عام 1992.
أما الساحة السنّية فقد كانت مسرحًا لتغييرات سياسية دراماتيكية، من مقاطعة الانتخابات الأولى إلى تقسيم التمثيل ثم دخول تنظيم “داعش” إلى المحافظات السنّية وظهور قيادة جديدة. لم يسيطر أي طرف بشكل مستمر على المشهد، ولم يستقر الوضع السنّي في صورة تشبه صورة المجموعتَين الأخريين، الشيعة والأكراد، ووفقًا لتقرير معهد واشنطن للدراسات، تسبّبت هذه الأحزاب في هدر 1.4 تريليون دولار منذ عام 2005.
فترة الاستقرار: 2010-2014
شهدت ولاية نوري المالكي الثانية (2010 -2014) إحدى أضخم الفرص الاقتصادية المتمثلة بصعود أسعار النفط، وتخطّيها حاجز الـ 120 دولار للبرميل الواحد، ولمدة 4 سنوات تجاوزت الموازنات السنوية في العراق حاجز الـ 100 مليار دولار في العراق، وهو ما كان كفيلًا بالتحوُّل الاقتصادي الشامل والتنمية.
بحسب دراسة معهد الشرق الأوسط، فإن اتفاقية وضع القوات (SOFA) التي وقّعتها الحكومتان الأمريكية والعراقية عام 2008، ونصت على انسحاب القوات القتالية الأمريكية من المدن العراقية بحلول 30 يونيو/ حزيران 2009 ومن العراق تمامًا بحلول 31 ديسمبر/ كانون الأول 2011، وهذا عنى أن النفوذ الأمريكي أصبح أقل على الحكومة في بغداد، ما أدى بطريقة أو بأخرى إلى تعزيز النزعة الاستبدادية للمالكي، إذ منح انسحاب القوات الأمريكية المالكي الحرية في اتّباع سياسة المركزية في المجال المحلي، ما زاد من سيطرته على النظام السياسي. على سبيل المثال، بالإضافة إلى وظيفته في مجلس الوزراء، شغلَ المالكي أيضًا مناصب وزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الدولة للأمن القومي، كما كان يسيطر على جهاز المخابرات الوطني والبنك المركزي العراقي ومفوضية الانتخابات.
كما أصدرَ مذكرة توقيف بحقّ نائب الرئيس السنّي طارق الهاشمي، ورئيس الأركان الكردستاني بابكر زيباري، ونائب الوزير السنّي صالح المطلك، ونتيجة لذلك اتهمت الجماعات السنّية والكردية وحتى بعض الجماعات الشيعية المالكي بأنه سلطوي، ما انعكس مباشرة على الأداء الاقتصادي للبلاد، فبدلًا من أن يستخدم المالكي السيولة المالية الكبيرة في تطوير القطاع الإنتاجي وإطلاق المصانع والشركات في القطاع الخاص، استغلَّ هذه الوفرة لتوظيف أعداد كبيرة من العاملين في قطاع الأمن، وهي أسهل طريقة لتوفير وظائف للناخبين الذكور غير المؤهّلين.
وبحسب حميد عبيد المطلك، نائب برلماني عراقي من محافظة الأنبار وعضو لجنة الأمن والدفاع، هناك ما يقارب الـ 1.5 مليون عنصر أمني في العراق، وهذا يعني أن ما يقارب الـ 23% من جميع الموظفين العراقيين يعملون تحت إدارة إحدى الدوائر الأمنية، ونتيجة لذلك تخصِّص الحكومة الأموال لضمان ولاء نسبة كبيرة من مواطنيها، ما يعزّز بدوره شعبية المالكي الانتخابية.
رافقَ هذا التحشيد عملية تسليح شابها الكثير من ملفات الفساد، وكان أقل ما يمكن القول عنها إنها غير احترافية وعشوائية، حيث كانت عمليات الفساد حاضرة ليس في تسليح القوات وإنما أعدادها أيضًا، ونتيجة لهذه السياسية الاقتصادية تراكمت الديون على الموازنة العراقية، وهو ما بدا واضحًا في كل الموازنات التي صادقَ عليها البرلمان في تلك الفترة:
– 2010: قرضان بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياطي العراق النقدي في البنك الدولي (SDR).
– 2011: قرضان بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياطي العراق النقدي في البنك الدولي (SDR).
– 2012: قرضان بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياطي العراق النقدي في البنك الدولي (SDR).
– 2013: قرضان بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياطي العراق النقدي في البنك الدولي (SDR).
– 2014: لم يتمَّ الإعلان عنها.
تزامن هذا الوضع مع حملات قمع واعتقال على أساس طائفي، واحتقان ترافقَ مع إقصاء سياسي لمسؤولين منتخَبين في الحكومة العراقية، ما تسبب في النهاية إلى حدوث احتجاجات شعبية في الأنبار غرب العراق، أعقبها تصاعُد في الأحداث أدّى إلى دخول “داعش” الموصل، لتبدأ مرحلة جديدة في التاريخ العراقي الحديث، لا تزال تبعاته تؤثر على البلد حتى اليوم.
2014 – حتى الآن : مرحلة “داعش” وما بعدها
خلال فترة دخول “داعش” عام 2014، تشكلت حكومة حيدر العبادي، ولم تُقر موازنة في ذلك العام من الأساس، وانصرفت الحكومة لشراء الأسلحة وتجنيد المقاتلين، ورغم نجاحها في طرد التنظيم، كان الثمن باهظًا اقتصاديًّا، إذ بلغت خسائر العراق 100 مليار دولار ما بين بنى تحتية وديون، فضلًا عن حاجة لـ 50 مليار أخرى لأجل الإعمار.
بحسب رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، كان هناك 50 ألف جندي فضائي -يشكّلون 4 فرق عسكرية- يستلمون رواتب من الحكومة دون أن يكون لهم وجود حقيقي في القوات الأمنية، وهكذا عند سقوط الموصل كان هناك سلاح تمَّ شراؤه بأضعاف سعره الحقيقي، دون أن يكون هناك جنود ليستعملوه، وذهب كله إلى يد “داعش” بالنهاية. وبذلك شكّلت مرحلة دخول “داعش” استنزافًا كبيرًا للموارد العراقية، إذا زادَ الضغط على الموازنة العراقية من عدة جهات:
– عملية توظيف سريعة لمتطوعين أغلبهم من الميليشيات، شابتها نفس مشكلة الفضائيين.
– عملية شراء أسلحة شهدت شبهات فساد كبيرة.
– استمرت عملية دفع رواتب الفضائيين السابقين دون حلّ خلال الحرب.
بعد تحرير العراق من داعش، أعقبَت فترة العبادة حكومة عادل عبد المهدي، التي لم تدُم سوى عامين بسبب المظاهرات الشعبية التي اندلعت في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، والتي تسبّبت في إقالة عبد المهدي وتشكيل حكومة برئاسة مصطفى الكاظمي، التي طرحت وثيقة بيضاء للإصلاح الاقتصادي.
يقرُّ وزير المالية في حكومة الكاظمي، علي علاوي، في لقاء مع “الراديو الواطني الأمريكي” بأن العديد من هذه الأفكار ليست جديدة، ففي الماضي، كما يقول، “تعثرت معظم هذه الخطط لأنه لم تكن هناك إرادة لدعمها”، كانت أموال النفط تتدفق، والحكومة “اختارت الخط الأقل مقاومة”، أما الآن، كما يقول، “هناك اعتراف سياسي وشعبي بضرورة الإصلاح. يحتوي الكتاب الأبيض على مئات الخطوات الملموسة التي سيتمُّ تفعيلها على مدى 3 إلى 5 سنوات – أولها تخفيض قيمة العملة”.
كما يقول علاوي عن الاضطراب: “سيكون هناك عدد من الأشخاص سيخسرون وسيستفيد عدد أكبر بكثير، لكن الفوائد ستستغرق وقتًا حتى تتحقق. في غضون ذلك، يسعى العراق للحصول على قروض بمليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي لتخفيف الآلام الحالية، وتجنُّب التحديات السياسية”. كنتيجة لهذا، استمرَّت السياسة الاقتصادية للعراق بالضغط على الجهاز البيروقراطي بضمِّ عناصر جديدة وتهدئة الشارع، وهو ما شكّل عبئًا إضافيًّا على الموازنة.
إن حاجة الحكومة إلى نفقات تشغيلية يعود لطبيعة العلاقة بين الحكومة والشعب، حيث تحاول الحكومة امتصاص الغضب الشعبي والتقصير الواضح في التنمية وإنشاء البنى التحتية، عن طريق توظيف أكبر عدد ممكن
في موازنة عام 2021 على سبيل المثال، شكلت النفقات التشغيلية 73% من قيمة الموازنة الافتراضية، وبمعرفة أن الواردات بلغت 101 تريليون دولار عراقي -حوالي 69 مليار دولار-، ما يعني أن 90% من واردات العراق يتمُّ توزيعها على الرواتب ونفقات الوزارات لتشغيل المؤسسات والشركات التابعة لها.
إن حاجة الحكومة إلى نفقات تشغيلية يعود لطبيعة العلاقة بين الحكومة والشعب، حيث تحاول الحكومة امتصاص الغضب الشعبي والتقصير الواضح في التنمية وإنشاء البنى التحتية، عن طريق توظيف أكبر عدد ممكن، وحتى عام 2020 بلغَ عدد الموظفين 6.5 مليون موظف، عدا الموظفين الفضائيين بالطبع.
يتوقع البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي الزراعي يمكن أن ينمو إلى 30 مليار دولار على مدى السنوات الـ 20 القادمة، وهذا من شأنه أن يجعل الزراعة ركيزةً أساسية للاقتصاد العراقي
ومع غياب الفرص لنمو القطاع الخاص، بسبب الاعتماد على النفط، وعدم استقرار الوضع الأمني، تحول القطاع الخاص إلى تابع للقطاع العام، بمعنى أن القطاع الخاص يعتمد على ما يتم إنفاقه من قبل موظّفي القطاع العام فيه من شراء للسلع الاستهلاكية أو الإنفاق في قطاع المطاعم، الذي يُعتبَر المجال الوحيد الذي يحقق نموًّا مقارنة بالقطاع العام، فوفقًا لتقرير وزارة التخطيط، هناك 23,718 منشأة تندرج تحت نوع المطاعم والمنشآت الغذائية، أو تلك التي تختص بالصناعات الغذائية، بما يشكّل 65% من المنشآت الموجودة في العراق، ويعمل فيها ما يقارب الـ 2 مليون شخص.
تدفع هذه العلاقة المركّبة الحكومة للحفاظ على نمط معيَّن من التوظيف، يجبرها على الاقتراض الدائم، وهو ما ظهرَ واضحًا في الموازنات التي تمَّ إقرارها في تلك الفترة:
2015: 3 قروض بقيمة 7 مليارات دولار، وسحب 1.8 مليار دولار من احتياطي العراق النقدي في البنك الدولي.
2016: 3 قروض بقيمة 1.3 مليار دولار.
2017: 20 قرضًا بقيمة 25 مليار دولار.
2019: 27 قرضًا بقيمة 23.3 مليار دولار.
موازنة 2020: لم يتمَّ نشرها رسميًّا.
أبرز سمات الاقتصاد العراقي
ضعف القطاعات غير النفطية: الزراعة والأغذية
أدّت السياسات الكارثية المتّبعة منذ عام 2003 إلى صناعة اقتصاد ريعي مشوَّه، يعتمدُ على النفط ويتأرجح حوله بشكل كلّي بنسبة 96%، ورغم ارتفاع الواردات النفطية في العقد الأخير، إلا أن أزمة فيروس كورونا كشفت هشاشة الاقتصاد العراقي، وأظهرت الآثار الجانبية السيّئة لضعف القطاعات الأخرى التي يمكن أن تغيّر حال الاقتصاد بشكل محوري ومنها القطاع الزراعي والغذائي، حيث شهد العراق خلال عام 2020 أسوأ معدل للنمو منذ عام 2003.
يقول الخبير الاقتصادي في دراسة لمعهد بروكينغز، وائل منصور، إن تحقيق النمو المستدام، وخلق فرص العمل، وتحسين مستويات المعيشة للعراقيين تتطلب عدة عوامل، منها تحقيق السلام والاستقرار، وتقليل الاعتماد على النفط، وهيمنة الدولة لصالح المزيد من مشاركة القطاع الخاص الموجهة نحو السوق، وزيادة التكامل الإقليمي، وإدارة عامة أفضل عائدات النفط بينما تظل هذه الأهداف صالحة من منظور تقني، فإن المحاولات المتتالية للوصول إليها من قبل الحكومة والجهات المانحة أثبتت أنها بعيدة المنال إلى حدّ كبير، كما يقول أحد تقارير البنك الدولي الذي يوعز السبب إلى أن برامج الإصلاح في العراق قد تمَّ تصميمها خارج إطار سياسي قوي.
في هذا الصدد، تعيد الحكومة تركيز مجموعتها الواسعة من الإعانات على مناطق ضمن سلسلة القيمة الغذائية الزراعية حيث تشتد الحاجة إليها، على سبيل المثال أفاد البنك الدولي وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة والصندوق الدولي للتنمية الزراعية أن نظام “الحصة التموينية العام” قد تمَّ تخفيضه بالفعل إلى أقل من 4 عناصر، مع تأخير التوزيع، كما تمَّ الإعلان مؤخرًا عن تحويل أجزاء من الميزانية الضخمة البالغة 1.43 مليار دولار في إطار وزارة التجارة، إلى دعم البذور المستهدَفة في إطار وزارة الزراعة. هذه الخطوة هي علامة على تطور نظام الدعم الحالي، حيث إنه يعيد التوجيه إلى حيث تشتد الحاجة إليه، وإن كان ذلك تحت ضغط الأزمة المالية الحالية.
على المدى الطويل، سيساعد هذا في تحويل دعم الدولة العراقية إلى مخطط أكثر كفاءة واستهدافًا، وتقليل مشاركة الحكومة واعتمادها على الدعم الحكومي وميزانية الدولة، وفتح قطاع الأغذية الزراعية أمام المنافسة القائمة على السوق، ولا سيما أن قطاع الأغذية الزراعية يملك إمكانات هائلة لحلّ مشكلتَين من المشكلات الملحّة في العراق: خلق فرص العمل وإشراك القطاع الخاص، وهما مهمّتان تتجاوزان قدرات الحكومة، فبحسب أحدث مذكرة اقتصادية أصدرها البنك الدولي –ورقة الإصلاح الاقتصادي للعراق-، يقدَّر أن قطاع الأغذية الزراعية يمكن أن يخلق 23,382 مشروعًا صغيرًا في بيئة عالية النمو، مضيفًا أكثر من 120 ألف وظيفة جديدة بحلول عام 2030.
ومن خلال التركيز على الدواجن والطماطم، بالإضافة إلى الأولويات الحالية لسلاسل القمح والشعير، خلصت دراسة البنك الدولي إلى أن العراق يمكن أن يحقِّق ميزة تنافسية إذا استخدم مزيجًا من السياسات والإصلاحات المؤسسية، ويشمل ذلك استثمارات البنية التحتية في التجمُّعات على طول سلسلة القيمة وتسخير قوة الرقمنة.
تُعتبر الأغذية الزراعية أيضًا جزءًا من الاقتصاد كان القطاع الخاص على استعداد تاريخيًّا للاستثمار فيه، ما يجعل من الممكن حتى البقاء على قيد الحياة دون دعم حكومي كبير، وقد تسبّبت صدمة أسعار النفط عام 2014، التي تزامنت مع توغُّل “داعش” في محافظات العراق الرئيسية، في كارثة في القطاع الزراعي، فبين عامَي 2014 و2017، انخفض الإنتاج الزراعي العراقي من حوالي 15 مليار دولار إلى حوالي 7.6 مليار دولار، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 50% تقريبًا بسبب التحديات الأمنية.
في هذا السياق، يتوقع البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي الزراعي يمكن أن ينمو إلى 30 مليار دولار على مدى السنوات الـ 20 القادمة، وهذا من شأنه أن يجعل الزراعة ركيزةً أساسية للاقتصاد العراقي، بالإضافة إلى دورها الحاسم في الاستقرار بعد الصراع والتماسُك الاجتماعي في المناطق الريفية بالعراق.
البطالة والفقر وزيادة السكان
رغم الإمكانات الكبيرة التي يملكها العراق، يعاني البلد من أزمة بطالة حقيقية، فقد تجاوزت المعدلات نحو 40%، خاصة بين الشباب، ففي كل عام يتخرج أكثر من 180 ألف طالب من الجامعات والمعاهد الخاصة والعامة، مع فرص عمل نادرة فقط متاحة في القطاعَين العام أو الخاص، كما تعيش نسبة كبيرة من السكان تحت خط الفقر، تقدر بـ 27% بحسب إحصاءات وزارة التخطيط، و31% بحسب تقرير لبرنامج الغذاء العالمي، يضاف إلى ذلك أن هناك أكثر من 1.4 مليون أسرة تتلقّى مساعدات الضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى أكثر من مليون آخرين تقدّموا إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ليتمَّ ضمّهم في الضمان الاجتماعي، وهذا يعني أن نسبة كبيرة من المجتمع العراقي تعيش تحت مستوى الفقر، وهذه النِّسَب في تزايد مستمر، بحسب تصريحات وزير العمل والشؤون الاجتماعية الأسبق، محمد شياع السوداني.
اليوم أصبحت هذه الضغوط الاقتصادية قنبلة موقوتة، وظهرت بالفعل بوادر عواقب وخيمة في مظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول والمظاهرات التي تلتها، حيث طالب الخريجون بالتوظيف أمام مقار الوزارات المختلفة، فبحسب كبير الباحثين في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أنتوني كوردسمان: “يُعتبر العامل الاقتصادي من أهم أسباب اشتعال المظاهرات العراقية، والثروات التي يحصل عليها العراق محصورة بفئة قليلة في السلطة، ونسبة الفرد من الناتج القومي قياسًا بدول الجوار تعكس حجم الفقر فيه، إذ تبلغ 5030 ألف دولار سنويًّا مقابل 21450 في السعودية، 41010 في الإمارات و61190 في قطر، وحتى بالنسبة إلى فرص العمل يرى 95% من الشباب العراقي أنهم يحتاجون لوساطة من أجل الحصول على وظيفة”.
الفساد
يمثل الفساد عقبة أخرى في وجه أي تحول اقتصادي، الفساد الذي كان ظاهرة في العراق اليوم، أصبح اليوم ثقافة وطريقة في إدارة الموارد، واللافت أن الفساد في العراق لا يطال السلطات التنفيذية التي تقوم بإنفاق الموارد، وإنما تتعدّاه ليكون أشبه بتحالف بين السلطات التشريعية والتنفيذية.
خير مثال على ذلك عدم قيام مجلس النواب بالتحقيق مع أي وزير منذ بداية الفترة التشريعية السابقة وحتى انتهاء عملها بحلول الانتخابات، رغم وجود عدد من الطلبات للتحقيق في عدة وزراء قدموا إلى رئاسة المجلس، حيث يلجأ بعض الممثلين إلى التلويح بورقة التحقيق الخاصة بوزير أو آخر لتحقيق مكاسب ذاتية، فوفقًا لتقرير عام 2021 الصادر عن هيئة النزاهة، تمَّ إصدار مذكرات استدعاء لـ 52 وزيرًا أو من في حكمهم، كما تمَّ إصدار حوالي 491 استدعاء ضدّ 329 من كبار المسؤولين من ذوي الدرجات الخاصة، كما ذكر تقرير المفوضية لعام 2018 أن أكثر من 3000 متّهم أُحيلوا للقضاء، بينهم 11 وزيرًا و157 فردًا من ذوي الدرجات الخاصة.
لكن على الرغم من هذه الأعداد الكبيرة من القضايا والإحالات إلى القضاء، لم يُسجَن أي وزير في السنوات الأخيرة، والسبب الرئيسي لذلك هو تدخُّل الأحزاب السياسية نيابة عن الوزراء المُدانين.
الفرص الضائعة
السياحة الدينية
يملك العراق حضارة عريقة هي حضارة وادي الرافدين، ويمكن لآثارها أن تنافس المعالم السياحية الأخرى الشهيرة حول العالم مثل الأهرامات في مصر، كما يملك العراق العديد من المزارات الدينية (الشيعية – المسيحية – الصوفية)، والتي يمكن أن تضيف الكثير لاقتصاده لو تمَّ اتخاذ قرار بتطوير هذا القطاع، إلا أن هذا المجال لا يزال بعيدًا عن التطوير بسبب ضعف الكفاءة السياسية والتنافس على المناصب بين الأحزاب.
وبحسب دراسة لمركز البيان، يستقبل العراق حوالي 1 إلى 1.5 مليون سائح سنويًّا، تشكّل السياحة الدينية الدافع الأبرز لغالبيتهم العظمى، ويعتمد أكثر من نصف مليون شخص على العمل في هذا القطاع، ويشكّل 3% من الناتج القومي، بينما يمكن تطويره ليكون مردوده المالي بحدود 5 مليارات دولار.
بلغت خسائر العراق من المشاريع الوهمية حوالي 300 مليار دولار، تمَّ سحبها فعليًّا من الخزينة المالية، وذهبَ معظمها إلى جيوب وكلاء الأحزاب السياسية
أدّى تقصير الحكومات المتعاقبة إلى خلل كبير في قطاع السياحة، تمثّلَ بضعف البنية التحتية السياحية، وافتقار المرافق السياحية القدرة على استقبال أعداد كبيرة من السيّاح، خاصة المرافق التاريخية القديمة المحتاجة للترميم، وغياب شبه تامّ لقطاع النقل والمواصلات، وربما يكون قطاع الفنادق هو الجانب الأفضل بين الجوانب الأخرى، لكنه بحاجة إلى مزيد من الاستثمار، وهو أمر صعب في ظل تنافس الأحزاب السياسية والمليشيات المسلحة المسيطرة على الأرض، والتي تمنع افتتاح أي مشروع دون دفع إتاوات لها.
المشاريع المتلكّئة
أدّى الفساد المالي والإداري في الحكومة العراقية إلى حرمان البلد من العديد من المشاريع العملاقة التي كان يمكن أن تساهم في زيادة الناتج المحلي. بدلًا من ذلك، أدّت تلك المشاريع إلى استنزاف الخزينة المالية بمليارات الدولارات، إما من خلال توقفها دون إكمال المشروع وإما بكونها مشاريع وهمية على الورق.
منذ عام 2005 وحتى العام الماضي، بلغت خسائر العراق من المشاريع الوهمية حوالي 300 مليار دولار، تمَّ سحبها فعليًّا من الخزينة المالية، وذهبَ معظمها إلى جيوب وكلاء الأحزاب السياسية. وبحسب تقرير لوزارة التخطيط، 9 آلاف مشروع وهمي، منقسمة ما بين مشاريع كبيرة وصغيرة، انتهى الحال ببعض قيمتها في بنوك لبنانية وإيرانية تلاشت بالأزمة المالية في كلا البلدَين ولا يُعرَف مصيرها. ويشير التقرير نفسه إلى وجود أكثر من 6 آلاف مشروع متلكّئ، إما أنه قد تمَّ تركه وإما اقتصر على هدم ما هو موجود كما حصل في هدم 1000 مدرسة لغرض إعادة بنائها، دون أن يحصل ذلك.
بينما يقدَّر احتياطي العراق من الغاز الطبيعي بـ 126 ترليون قدم مكعبة، لا يزال البلد يستورد الغاز الطبيعي من إيران لتوليد 3500 ميغاواط، وبمبالغ باهظة جدًّا تصل إلى 4.5 مليارات دولار سنويًّا
مشروع الفاو الكبير مثال آخر على المشاريع المتلكّئة، تبلغ كلفة المشروع 5 مليارات دولار، ويمكن أن يوفِّر آلاف فرص العمل، ويحدث نقلة في التجارة العراقية باستيعابه للسفن الكبيرة -يبلغ عمقها 19 مترًا-، ويجعل العراق، حال اكتماله، المحطة الرئيسية في مشروع الطريق الدولي البرّي والبحري (طريق الحرير) الرابط بين قارّتَي آسيا وأوروبا، لكن التنافس بين الأحزاب السياسية المسيطرة على البصرة، أدّت إلى التنازع حول الجهة المنفِّذة للمشروع، والتي أدّت في النهاية إلى وقفه وانتحار مدير المشروع في شركة دايو الكورية.
قطاع الغاز
يمكن اعتبار قصة الغاز العراقي الصورة الأكثر وضوحًا عن مسؤولية الأحزاب السياسية في تدمير أحد أهم الموارد الطبيعية التي يحرقها العراق بسبب تبعيتهم للخارج، حيث يحرق العراق ما يزيد عن 17 مليار متر مكعّب من الغاز سنويًّا، فوفقًا لأحدث بيانات البنك الدولي، يأتي العراق في المرتبة الثانية بعد روسيا باعتبارها الدولة التي تشعل معظم الغاز على كوكب الأرض، وتعادل انبعاثات مكافئ ثاني أكسيد الكربون الناتجة ما يقلّ قليلاً عن 10% من إجمالي الناتج العالمي، وهو ما يسبب الكثير من حالات الإصابة بالسرطان.
من المفارقة أن يعاني الكثير من الناس من احتراق الغاز، بينما لا يزال العراق، المنهَك بانقطاع التيار الكهربائي، يستورد الغاز من الخارج لتشغيل محطاته الكهربائية، حيث في عام 2009 قدّرت شركة شل أن الغاز المهدور يمكن أن ينتج 3500 ميغاواط في اليوم، أي ما يقارب الـ 70% من إنتاج العراق اليومي من الطاقة.
بدلًا من ذلك يتم هدر ما قيمته 6.9 مليون من الغاز الطبيعي يوميًّا، أي نحو 7.5 مليار دولار في السنة، وبينما يقدَّر احتياطي العراق من الغاز الطبيعي بـ 126 ترليون قدم مكعبة، لا يزال البلد يستورد الغاز الطبيعي من إيران لتوليد 3500 ميغاواط، وبمبالغ باهظة جدًّا تصل إلى 4.5 مليارات دولار سنويًّا، إذا ما احتسبَت تكلفة الصادرات الإيرانية المباشرة من الكهرباء، وهذا المبلغ الكبير كان يمكن استثماره في بناء صناعة غازية متقدمة تكفي حاجة البلاد دون الاعتماد على الاستيراد.
يُعتبر تقديم المصلحة الحزبية، السبب الأول لما وصل إليه الاقتصاد العراقي اليوم، إذ لا يعاني البلد من قلة الموارد ولا انعدام الفرص، بل أنه يملك الكثير مما يجعله ينتقل نقلة نوعية تضعه بين مصاف الدول المتقدمة
النائب عن لجنة النفط والطاقة النيابية، صادق السليطي، أكّد أن العراق يخسر من خلال إحراق الغاز مبالغ أكبر من التي يتمُّ تقديرها، مشيرًا إلى أن خسائره تصل إلى 5 مليارات دولار سنويًّا، فضلًا عن تبذير ما يقرب من مليارَي دولار في شراء الوقود السائل المشغِّل لمحطات توليد الكهرباء، وذلك بسبب شحّ الغاز في البلاد.
كما ترى النائبة السابقة عن لجنة الطاقة والنفط النيابية، زيتون الدليمي، أن جولات التراخيص النفطية للشركات الأجنبية منذ عام 2008 شملت استغلال الغاز المصاحب للنفط، إلا أن الحكومات المتتالية لم تفعل ما كان عليها تجاه تلك الشركات، وبالتالي استمرَّ إحراق الغاز، وتضيف: “العراق لم يتبنَّ سياسة طاقة حقيقية منذ عام 2003، خاصة أن الدورات البرلمانية السابقة لم تفلح جميعها في إقرار قانونَي النفط والغاز والمصافي النفطية”. لكن ما السبب وراء هذا التقصير؟ تجيب الدليمي أن العراق يشتري الغاز الإيراني بـ 4 أضعاف السعر الذي تطرحه دول أخرى، في إشارة إلى الفساد في ملف استيراد الغاز الإيراني، مؤكدة أن العراق مُكبّل إزاء ملف استيراد الغاز.
بالمجمل، يُعتبر سوء الإدارة والفساد، وتقديم المصلحة الحزبية، السبب الأول لما وصل إليه الاقتصاد العراقي اليوم، إذ لا يعاني البلد من قلة الموارد ولا انعدام الفرص، بل أنه يملك الكثير مما يجعله ينتقل نقلة نوعية تضعه بين مصاف الدول المتقدمة ذات الاقتصاد الإنتاجي المتنوع، لكن هذا يحتاج إلى إدارة حكومية حازمة وعملية سياسية مستقرة تضع على عاتقها الخروج من بوتقة الاعتماد على النفط، والخروج من التبعية السياسية الإقليمية، وتحقيق الاستقرار الأمني والقوانين اللازمة لتسهيل عمل القطاع الخاص الذي يحمل على عاتقه خفض نسب البطالة وتوفير فرص العمل. وإلى أن يتحقق ذلك، سيظل الوضع الاقتصادي في العراق هشًا ومربكًا، وعاملًا من عوامل التهديد بمزيد من الفوضى السياسية والاضطراب الأمني الذي قد يهدد وجود الدولة نفسها في حال انخفاض أسعار النفط، كما حصل في خضم جائحة كورونا.