أسابيع قليلة بعد نفيه وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي وتسبّبه في أزمة كبيرة بين الجزائر وفرنسا، ها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتراجع عن كلامه ويتأسف لما وصفه بسوء التفاهم والجدل الذي حصل في العلاقات بين البلدَين مؤخّرًا.
تراجُع مفاجئ، لم يكن أحد يتوقعه، رغم أن ماكرون دأبَ على قول الشيء وضده في العديد من المناسبات، هذا الأمر جعل العديد يتساءلون عن سرّ تراجع النظام الفرنسي وهل فعلًا أوجعت الجزائر باريس؟
ماكرون يتراجع
في أحدث تدخُّل لها في خصوص توتر العلاقات الفرنسية الجزائرية، قالت الرئاسة الفرنسية إن الرئيس إيمانويل ماكرون يتأسف للجدل وسوء التفاهم الذي سادَ مع الجزائر في الفترة الأخيرة، وأنه يحترم كثيرًا الأمة الجزائرية وتاريخها وسيادة الجزائر.
وكان ماكرون قد شكّك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للبلاد عام 1830، متسائلًا: “هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ وقال الرئيس الفرنسي خلال لقاء له مع مجموعة من أحفاد “حركي” (عملاء جزائريون عملوا مع فرنسا) في 30 سبتمبر/ أيلول 2021، إن الجزائر بُنيت بعد استقلالها عام 1962 على “ريع للذاكرة” كرّسه “النظام السياسي-العسكري”، وإن “النظام السياسي العسكري” الجزائري أعادَ كتابة تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر على أساس من “كراهية فرنسا””.
تخشى فرنسا أن تخسر السوق الجزائرية، إذ تبلغ الاستثمارات الفرنسية المباشرة في الجزائر 2.5 مليار دولار حتى نهاية عام 2017.
وضمن حديثه الذي نقلته صحيفة “لو موند” الفرنسية، أشار ماكرون إلى وجود عمليات استعمار سابقة للاستعمار الفرنسي للجزائر، وتابع بنبرة ساخرة أنه “مفتون برؤية قدرة تركيا على جعل الناس ينسون تمامًا الدور الذي لعبته في الجزائر والهيمنة التي مارستها”، في إشارة إلى الإمبراطورية العثمانية.
أكدت الرئاسة الفرنسية أيضًا أن الرئيس ماكرون يتمنّى مشاركة الرئيس تبون في مؤتمر ليبيا يوم الجمعة بباريس، حيث تستضيف فرنسا بعد يومَين مؤتمرًا دوليًّا حول ليبيا، استعدادًا للانتخابات المقرَّر إجرائها في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، التي يعوِّل عليها المجتمع الدولي لإخراج ليبيا من أزمتها المتواصلة منذ سنوات.
خشية تعميق الأزمة
يؤكد بيان الرئاسة الفرنسية خشية نظام إيمانويل ماكرون تعميق الأزمة مع الجزائر، فالعلاقات بين الطرفَين تشهد توترًا كبيرًا نتيجة تصريحات ماكرون، إذ استدعت الجزائر سفيرها في باريس، ولاحقًا أغلقت مجالها الجوّي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية، وفقًا لما قاله الجيش الفرنسي.
وقبل أيام قليلة، عبّر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في مقابلة مع صحيفة “دير شبيغل” الألمانية عن استيائه من تصريحات نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي تحدّث فيها عن ذاكرة الاستعمار، ووصفها بـ”الخطيرة”، كما استبعدَ تبون عودة العلاقات إلى طبيعتها مع باريس.
قال تبون أيضًا إنه “لا يوجد جزائري سيقبل باستئناف العلاقات مع مَن أطلقوا الشتائم”، في إشارة إلى طعن ماكرون في تاريخ الجزائر، مؤكّدًا أنه لن يقوم بـ”الخطوة الأولى” لمحاولة تخفيف التوتر مع فرنسا، وإلا “سأخسر كل الجزائريين، فلا علاقة لهذا بشخصي إنما بالأمة كلها”.
وسبقت تصريحات ماكرون تحركات فرنسية زادت من توتير العلاقات مع الجزائر، ففي أبريل/ نيسان 2021 خفّضت فرنسا عدد الوفد الذي كان يعتزم زيارة الجزائر إلى 4 وزراء ثم وزيرَين، مقابل نحو 10 في العادة لمثل هذا النوع من الزيارات، دون أن توضح سبب ذلك، وهو ما اعتبرته الجزائر تقليلًا منها، ما انجرَّ عنه تأجيل الزيارة.
أيضًا فتح حزب ماكرون فرعًا محليًّا جديدًا في مدينة الداخلة بالصحراء الغربية، وهو ما اعتبر تحولًا مهمًّا في السياسة الخارجية لفرنسا وتقرُّبًا من المغرب، ذلك أن الحزب الحاكم يعبّر حتمًا عن سياسة الدولة الفرنسية، وقد رأت الجزائر في هذا الأمر اصطفافًا فرنسيًّا إلى جانب المغرب في قضية الصحراء الغربية المتنازع عليها.
إلى جانب ذلك قررت فرنسا في سبتمبر/ أيلول الماضي، تشديد شروط منح تأشيرات الدخول لمواطني المغرب والجزائر وتونس، وذلك لرفض هذه الدول إصدار تصاريح قنصلية لاستعادة مواطنيها الذين يوجدون في فرنسا بشكل غير قانوني، بعدها بيوم استدعت الخارجية الجزائرية سفير فرنسا فرانسوا غويات.
بعد هذه التحركات والقرارات والتصريحات المثيرة، يبتغي نظام ماكرون الآن تهدئة الأمور مع الجزائر، ذلك أن الإليزيه يخشى أن يزداد التوتر حدّةً إلى درجة لا يمكن تداركها، خاصة أنه يعلم أن نظام تبون يستثمر في هذه الأزمة للرفع من رصيده داخليًّا بعد فشله في الاستجابة لتطلُّعات الجزائريين.
المصالح سيدة الموقف
خشية نظام ماكرون من تعكُّر العلاقات أكثر مع الجزائر تأتي من خشيته على مصالحه، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقرَّرة في مايو/ أيار 2022، ويأمل ماكرون في إصلاح العلاقات مع الجزائر لضمان تصويت الجالية الجزائرية في فرنسا له، وهو يعلم أن لهذه الجالية ثقلًا كبيرًا في فرنسا وقد كان لها فضل عليه في الانتخابات الرئاسية عام 2017.
تسوية العلاقات مع الجزائر ستمكّن ماكرون من تحسين صورته داخليًّا والظهور بصورة رجل السياسة الحريص على مصالح بلاده، فوجود أعداء أكثر يؤكّد فشل ماكرون في قيادة الدبلوماسية الفرنسية التي تقدِّم نفسها على أنها دبلوماسية الوساطات.
الجزائر بلد محوري في جنوب البحر المتوسط ومنطقة الساحل والصحراء الأفريقية، لذلك إن عداء نظامه وشعبه لا فائدة منه.
تخشى فرنسا أن تخسر السوق الجزائرية، إذ تبلغ الاستثمارات الفرنسية المباشرة في الجزائر 2.5 مليار دولار حتى نهاية عام 2017، حسب بيانات الوكالة الجزائرية لتطوير الاستثمار، وتتمثّل هذه الاستثمارات بـ 500 مشروع تشمل قطاع الطاقة والصناعات، إضافة إلى الخدمات العامة، وينخرط فيها 400 شركة، وفق المصدر ذاته.
خسارة السوق الجزائرية والامتيازات الفرنسية هناك، من شأنها أن تؤثر سلبًا على الاقتصاد الفرنسي المتعثِّر، إذ تعاني باريس أزمة اقتصادية حادة نتيجة عدة أسباب على رأسها تداعيات جائحة كورونا وحملات مقاطعة لسلعها وتراجُع الاستثمار.
ليس هذا فقط، فماكرون يعلم أن عداء الجزائر لن يربح منه شيئًا، بل بالعكس سيتضرر نظامه كثيرًا داخل الجزائر وخارجها أيضًا، فللجزائر دور إقليمي كبير، يخشى الإليزيه أن يفقد صداقته وبالتالي ذهاب الجزائر إلى حلفاء جدد.
يُذكر أن الهيمنة الفرنسية على الجزائر لم تعد كلّية، إذ بدأت الجزائر في صنع تحالفات جديدة مع قوى إقليمية أخرى على غرار تركيا والصين وروسيا، وكدليل على تحرُّر الجزائر من السيطرة الفرنسية، أقدم نظام تبون مؤخّرًا على اتخاذ خطوات لتقوية العلاقات مع الحكومة المالية، في وقت تعرف فيه العلاقات المالية الفرنسية توترًا كبيرًا.
فضلًا عن الخسائر الاقتصادية، يخشى ماكرون أن يُفقده توتر العلاقات مع الجزائر، أحد أبرز الحلفاء في المجال الأمني في القارة الأفريقية، فالمعلومات الاستخباراتية التي يمدّها النظام الجزائري بصفة دورية لفرنسا ساعدت باريس بصفة ملحوظة في حملاتها الأمنية والعسكرية في الداخل والخارج.
تأمل باريس أيضًا في مكان لها في ليبيا عقب الانتخابات المقبلة هناك، وتعلم يقينًا أن للجزائر دورًا مهمًّا في ليبيا، لذلك على فرنسا أن تشتري ودَّ الجزائر حتى لا تقف لها حجر عثرة إلى جانب الأتراك في ليبيا وتفقد بالتالي الامتيازات التي تنتظرها.
خسارة الجزائر تعني أيضًا خسائر كبرى في منطقة الساحل والصحراء، ففرنسا تأمل في جرّ الجزائر إلى منطقة الساحل للمسك بزمام الأمور وتعويضها هناك، بعد سنوات من الامتناع عن الاندفاع إلى أي عمل عسكري في المنطقة، في ظل ضعف جيوش المنطقة وعدم قدرتهم على فرض الأمن والسلام هناك.
الجزائر بلد محوري في جنوب البحر المتوسط ومنطقة الساحل والصحراء الأفريقية، لذلك إن عداء نظامه وشعبه لا فائدة منه، وهو ما فهمه ماكرون مؤخرًا، ما يفسّر بحثه عن السبل الكفيلة لإعادة القطار لمساره لتجنُّب العواقب الوخيمة لخروجه عن السكة.