حتى زمن قريب، كانت السياحة تقتصر على عروض النزل الفخمة والمدن الساحلية ذات الشواطئ النظيفة، إلا أن هذا القطاع شهد تطورًا وتحولًا كبيرًا على مستوى نوعية الخدمات المقدمة التي باتت تستثمر في المخزون الشعبي والإرث الحضاري للمجتمعات بما فيها الأكل.
هذا التحول دفع سائح اليوم إلى البحث عن المغامرة والتجديد في رحلاته وسفرياته، من خلال التعرف على عادات السكان وأنماط حياتهم، وكذلك عبر أطباقهم الضاربة في القدم التي يفوح منها عبق التاريخ والثقافة، فسياحة الطعام والتذوق أخذت في الانتشار عالميًا وأصبحت محددًا رئيسيًا في وجهة السياح.
#GastronomyTourism is important for local tourism, gastronomic & cuisine oriented tourists perceived as high yield, Food tourism can be linked with other products such as cultural and heritage…#VisitMaldives pic.twitter.com/mzKAE60eGy
— Addu Shareef (@Shareef_Addu) November 9, 2021
سياحة الطعام
في تقرير سابق نُشر في نون بوست، عُرفت “سياحة الطعام” بأنها السعي وراء الاستمتاع بتجارب الأكل والشرب الفريدة والمميزة في كل منطقةٍ جغرافية أو بلدٍ في العالم سواء محليًا أم دوليًا.
وتأتي فكرة هذه السياحة استنادًا إلى الفكرة التي تنظر للمطبخ على أنه أحد الجوانب الثقافية للأفراد والجماعات، وبوصفه طريقة فعالة وديناميكية لتبادل القصص والاتصال بالتاريخ وتشكيل العلاقات وبناء المجتمعات، فالطعام في نهاية المطاف هو أحد العناصر الرئيسية لثقافة أي دولة وهويتها، إلى جانب تاريخها ورموزها وأساطيرها.
يمكن لسياحة الطعام أنْ تُبنى على جانبين: أن يستكشف الفرد المسافر الطعام الجديد في المكان بعد سفره إليه، أو أن يستخدم الطعام كوسيلة لتحديد سفرياته واستكشاف الثقافات التي يرغب في استكشافها، وتتضمن تلك الاستكشافات العديد من السلوكيات المرتبطة بالطعام التي تعكس نطاقًا واسعًا من الجوانب الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية إضافةً للتفضيلات الفردية للشعوب والأفراد.
وعلى نطاق أوسع، يُمكن للسائح أن يتعرف على المدن وتاريخها وأصول سكانها من خلالها مطبخها وأطباقها المميزة، ففي العادة تُمرَر الوصفات التقليدية من جيل إلى جيل، وتتنقل مع الرحل من أرض إلى أخرى، فيصطحب السكان المهاجرون أكلاتهم الشعبية من بلد إلى آخر كطوق أمان يُحصنهم ضد الشعور بالاغتراب.
الانتقال والتحول المكاني قد يحمل تغيرات في مكونات الأطباق الرئيسية، فتتأثر بعادات الطهو في البلاد الجديدة وتؤثر فيها ما يصنع تجانسًا فريدًا من نوعه، لكنه في أكثر الأحيان يحتفظ بنَفَس نكهة التاريخ والثقافة ومذاق الأصالة.
تطور وازدهار
نشريات منظمة السياحة العالمية أكدت أن وجهات المسافرين بدأت تتحدد بناءً على نوع الطعام ودرجة ارتباطه بتراث المدن، ما يجعل المدن السياحية القديمة والمناطق الريفية متصدرة الوجهات المعتادة في هذا النوع من السياحة.
بدورها، أشارت الجمعية الدولية لسياحة الطعام (the International Culinary Tourism Association) إلى أن هذا النوع من السياحة يشهد نموًا مطردًا، خاصة مع ازدياد القنوات التي تساعد على التعريف به مثل قنوات التلفاز المتخصصة والأفلام الوثائقية والمدونات المتخصصة التي تستعرض الكثير من وجهات السفر المميزة لمحبي الطعام، وهو ما أدى إلى ازدياد هذا النوع من السائحين.
رغم حداثة سياحة الطعام، فإن وسائل التواصل الاجتماعي نجحت في نشر هذا النمط بين مختلف دول العالم، عبر الفيديوهات والصور المختلفة، ليصبح الطعام عنصرًا حيويًا في التجارب السياحية التي تشمل عادة فصول تعلم الطبخ على أيدي خبراء الطعام المحليين، وكذلك جولات الطعام والشراب سواء في المطاعم أم المزارع وأماكن التصنيع، كما تشمل أيضًا مهرجانات الأطعمة.
مع تطور هذا النمط السياحي، سارعت الدول المعروفة كوجهات عالمية إلى وضع كل إمكاناتها الاستثمارية ووضع كل الآليات اللازمة لتعزيز أسبقيتها في هذا المجال وإيلائه الاهتمام الواسع، نظرًا لقدرة هذا القطاع على خلق ديناميكية وميزة تنافسية كبيرة تؤهلها لأن تكون من أهم الوجهات على قائمة سياحة الطعام العالمية.
لذلك، تسارع بعض الدول إلى إدراج الطعام الخاص بها ضمن قائمة اليونسكو للإرث الثقافي غير المادي على غرار إسبانيا وإيطاليا واليونان والمغرب، إضافة إلى حرصها على المشاركة في المسابقات الدولية كمسابقة سياحة الأطعمة، التي شاركت فيها عام 2019 أكثر من 300 مبادرة من 84 دولة.
مطابخ سياحية
على عكس الوجهات التقليدية كإسبانيا وإيطاليا بلد “البيتزا” والـ”باستا” وتركيا الصاعدة بالكباب والشاورما الشهيرين، فإن المطبخ العربي من المشرق إلى المغرب بات يشق طريقه ليصبح وجهة سياحية صاعدة في العالم لما يمتاز به من تنوع في أصنافه وألوانه، ففي المدن والأرياف والبوادي قد يكتشف السائح أكلات تقليدية والشعبية وكيفية تحضير خبز في فرن من طين، ويشارك في عجنه وطهيه أحيانًا، وهي تجربة قد تدفعه إلى البحث في أصول السكان وعاداتهم وتقاليدهم.
تنتشر بشكل كبير نوع سياحي خاص يسمي سياحة الطعام وبالفعل تتنافس عليها دول كثيرة مثل تركيا وفرنسا وإيطاليا ؛الترويج الإعلامي للسياحة أختلف ظهرت واجهات سياحية أخري مثل المطاعم وبعض أكشاك الطعام الصغيرة المميزة؛ أتمني من الدول العربية العمل بالمثل وإظهار الجانب الشعبي التراثي للعالم pic.twitter.com/coCRbLgCPq
— الْحَجَرُ الْمُكَرَمُ (@Al_hagr_1) August 24, 2019
المقلوبة الفلسطينية: يعتبر المطبخ الفلسطيني أكثر المطابخ تنوعًا وتميزًا، إذ يتأصل هذا المطبخ ويتفرع ويستمد مقوماته من خلال الطبيعة الغنية والمتنوعة، فيأخذ من السحل الساحلي الحمضيات والعصائر ومن المناطق الداخلية زيت الزيتون ومن غور الأردن الخضراوات المتنوعة ومن الصحراء الأجبان وحليب الماعز.
من بين الأطباق المشهورة في فلسطين، المقلوبة التي تقدم في المناسبات والولائم وهي تطبخ من الخضار المقلي مثل الباذنجان والزهرة والبطاطا والبندورة وترص في وعاء ويضاف لها الأرز المبهر واللحم المسلوق أو قطع الدجاج وقد اشتقت اسمها لأنها تُقلب فتكون شكلًا جميلًا يشبه قالب الكيك.
المجدرة هي أيضًا من أقدم الأطباق الفلسطينية التقليدية وتطبخ من الأرز والعدس أو البرغل والعدس وتختلف من منطقة لأخرى في فلسطين، وفي غزة وخاصة في موسم الفول الأخضر تطبخ من الأرز والفول الأخضر وتجمل بالبصل المحمر.
المسخن هي من أهم الأكلات التراثية التي تشتهر بها قرى شمال فلسطين، ومكوناتها من حواضر البيت الفلسطيني العادي، خبز بلدي على الطابون وبصل وزيت زيتون وسماق فلسطيني ودجاج.
المنسف الأردني: يعتبر الطعام التراثي في الأردن من أهم ركائز السياحة لما يقدمه من قيمة مضافة، ووفقًا لوزيرة السياحة مجد شويكة فإن عمان مهتمة بتعزيز جودة الطعام الأردني الذي يلقى قبولًا لدى السياح والزوار على حد سواء، بالإضافة إلى تمكين السائح من معايشة تجربة سياحية كاملة ومميزة خلال فترة إقامته بالمملكة.
#المنسف_الكركي #الاردن #MohammadMajali pic.twitter.com/zqzyoG4be3
— Mohammad Majali???? (@MajaliQMohammad) March 6, 2020
وتمتاز الأطباق الأردنية باحتوائها على أجود أنواع اللحوم وألذ التوابل وأشهى الحلويات كالكنافة والهريسة والمنسف الذي يتربع على عرش الطعام الشعبي خاصة في محافظة كرك، فهو طبق الضيافة في المناسبات ويعد من أشهر وجبات بادية الشام الواقعة بين سوريا والعراق والأردن وفلسطين.
الكسكسي المغربي: تعود أصول الكثير من الأطباق المغربية إلى السكان الأوائل منذ أكثر من 2000 عام، وفي البلد الواقع شمال إفريقيا يمكن للسائح أن يتعرف على الكسكسي أحد أشهر الأطباق المغربية ذات الأصول البربرية والطاجين بأنواعه، لحم الضأن مع الزبيب واللوز، وطاجين الدجاج مع الزيتون والليمون المحفوظ، وطاجين الدجاج مع البرقوق.
حساء الحريرة هو أيضًا من الأطباق التقليدية المشهورة في المغرب وهو الأكلة الرئيسية على مائدة الإفطار الرمضاني، يتغنى بها الأطفال ترحيبًا بقدوم الشهر الفضيل وتقول كلمات الأغنية: “تيريرا تيريرا وا غدًا لحريرة”، وعادة ما يقدم معها نوع من الحلوى يُعرف باسم الشباكية.
ضيف شرفي محبوب ومن ركائز موائد المغاربة الرمضانية.. هل تذوقت حساء الحريرة الشهي من قبل؟ pic.twitter.com/4cqLQwsQHt
— نون بوست (@NoonPost) May 2, 2020
في المغرب أيضًا قد يتذوق السائح طبقًا شعبيًا يحي فيه ذاكرة التاريخ الأندلسي من خلال أكلة البسطيلة (Pastilla) وهي طبق من أصل أندلسي جلبه المغاربة الذين طُردوا من جنوب إسبانيا في القرن الخامس عشر، وهي نوع من المعجنات الرقيقة المحشوة بالدجاج أو الحمام أو السمك، حيث تلف كالفطيرة وترش بالقرفة والسكر.
المندى المصري: أكلة لها مكانة كبيرة لدى سكان سيناء، فيحرصون على حضورها بصفة دائمة في كل المناسبات العائلية، يُطهى بطريقة مميزة وصحية سواء كانت الوجبة من الدجاج أم اللحم المتبل، ويمتاز بطعم البهارات القوية المضافة إلى الأرز، ويتم تقديمها للضيوف في الأماكن المفتوحة مثل شاطئ البحر والمزارع والأماكن الصحراوية المعروفة بالسفاري.
م اكلة مصرية جربتها قبل كده….. بعضا مما سجله الباحث اسامة غزالي عن الاكلات الشعبية التراثية#سيناء …. تاتي اللصيمة و اللبة و الشاي السيناوي بالاعشاب … و الجريشة و فراخ و ارز المندي… و المقلوبة…و الشي بالفراشيح…و المعدوس وارز بالخلطة السيناوي pic.twitter.com/VDoWURYwr3
— Konoz Yadaweya (@Yadaweya) December 30, 2018
أما الأسواق الشعبية في القاهرة التي عادة ما تغري السياح بمعمارها وإرثها الحضاري والثقافي، فتفتح للزوار أبواب التواصل المباشر مع الناس لتجربة تذوق طبق الفول أو الكشري الشهيرين على أرصفة الأحياء القديمة كالسيدة زينب ولما لا احتساء كوب شاي في مقاهي خان الخليلي.
كُشري أبو طارق في وسط البلد #القاهرة #سأدعم_سياحة_مصر pic.twitter.com/ta8A2h5U6n
— إبراهيم بهزاد (@ibahzad) December 2, 2019
يبدو أن أجنحة الفنادق المريحة والمطاعم الفخمة لم تعد تستهوي السياح الذين بدأوا يميلون تدريجيًا إلى التخلي عن وسائل الراحة بحثًا عن تجارب حقيقية ومغامرات جديدة تُمكنهم من سبر أغوار التراث والتقاليد والبلدان عبر حاسة التذوق، فالطعام وحده يعطي شعورًا بالسفر عبر الزمن لفك رموز الحضارات القديمة، فهل تستثمر الحكومات العربية في إرثها غير المادي لتحقيق سياحة أكثر استدامة؟