ترجمة وتحرير نون بوست
في أحد الأفلام، يظهر مدير بنك فرنسي كبير في شجار مع عمِّه اليساري الذي يتهمه بإثقال مواطني أوربا بالديون وتدمير دول الاتحاد. يرد المدير الشاب بكل بساطة: “من المفترض أن تكون فخورًا أننا حققنا ما كنتم أنتم اليساريون تحلمون به في صِباكم من منظومة عالمية متجاوزة للقوميات. انظر للمال اليوم. إنه لا يعرف الحدود بين البلدان.”
كان هذا المشهد عبقريًا، ولكن المنظومة المالية العالمية اليوم يبدو أنها على وشك أن تفقد حرية حركة المال تلك، لتواجه بعض الحواجز الحدودية — على الأقل إذا ما صحت استطلاعات الرأي الإسبانية واليونانية والسلوفينية التي أجريت مؤخرًا.
تظهر الاستطلاعات أن “بوديموس” يتقدم على جميع الأحزاب في إسبانيا، وهو أحدث حزب يساري بين أحزاب اليسار الجديدة في أوربا. بوديموس، الذي لم يتم عامه الأول، سيحصل على 27٪ إذ أجريت الانتخابات اليوم، طبقًا للاستطلاع.
في اليونان، أصبح “سِريزا” الحزب الأكثر شعبية، إذ يتقدّم بـ11٪ على حزب “الديمقراطية الجديدة” الليبرالي المحافظ وعضو الائتلاف الحاكم. إذا ما أجريت انتخابات مبكرة في فبراير سيفوز الحزب بلا شك، وسيتمكّن من تشكيل حكومة.
أيضًا، في سلوفينيا، ارتفعت أرصدة حزب اليسار الموحّد ليصل للمركز الثالث، وهو وليد الأشهر القليلة السابقة على الانتخابات الأوربية الأخيرة مثله مثل بوديموس، ويمتلك دعمًا من أحزابٍ يسارية أخرى في أوربا مثل سِريزا.
تمثل هذه الاستطلاعات أملًا في تغيير منتظر في السياسة الأوربية، ولكن رُغم ذلك، تواجه هذه الأحزاب اليسارية على الأقل تحديَّين مهمَين للحفاظ على شعبيتهما الجارفة.
التحدي الأول هو مسألة التنظيم، فرُغم أن هذه الأحزاب نشأت كلها من رحم الحركات الاحتجاجية الأخيرة إبان أزمة اليورو الاقتصادية (“15 إم” في إسبانيا، وميدان سينتاغما في اليونان)، فإن شعبيتها تستند إلى قيادات كاريزمية بشكل كبير — أليكسيس تسيبراس (اليونان)، وبابلو إجلاسياس (إسبانيا) ولوكا ميسيتس (سلوفينيا). كان شعار تلك الحركات الأفقية هو أنه “لن يكون لهذه الثورة وجه”، إلا أن تلك القيادات في الواقع كانت الوجه الذي عزز من نجاح أحزاب اليسار الجديد.
التحدي الذي تواجهه هذه الأحزاب حاليًا، هو سد الفجوة بين الأفقية (الديمقراطية المباشرة) والرأسية (السياسة الحزبية). كيف لليسار الجديد أن يتجاوز المشكلة التقليدية التي عانى منها اليسار دومًا، وتطبيق مبدأ الديمقراطية الراديكالية عمليًا؟
ليست هذه المرة الأولى التي يجد فيها اليسار نفسه عند مفترق الطرق هذا. فهو نفس المفترق الذي سماه قائد الحركة الطلابية الألمانية رودي دوتشكه عام 1967 “المارش الطويل عبر المؤسسات” — والذي أدى إلى تأسيس حزب الخضر الألماني بعد 13 عامًا. هل هي مفارقة إذن، أن يوشكا فيشر، أحد قيادات حزب الخضر هذا، وواحد من يساريي 68 كما يُسمّون، يعتبر تسيبراس خطرًا لأنه من المحتمل أن “يضع بلدانًا أخرى على طريق يساري خطر قد يكون مدمّرًا للاتحاد الأوربي”، كما يقول؟
التحدي الثاني الكبير هو مسألة الدولة. فأحزاب اليسار كلما اقتربت من السلطة، كلما زادت الاتهامات الموكلة لها بأنها لم تعد راديكالية كما كانت، وكلما زادت احتمالية تشكيل اليساريين لحكومات جديدة، كلما اتُهِمَوا بأنهم يتحولون لمجرد “ديمقراطيين اجتماعيين”. يظل إذن شبح الديمقراطية الاجتماعية يطارد اليسار.
تواجه أحزاب اليسار الجديد التناقضات التالية: رُغم علمهم بأن دولة الرفاهة المنشودة هي بحد ذاتها نتاج حل وسط بين رأس المال والقوى العاملة، إلا أنهم مُجبَرون على الدفاع عنها لأنها الحصن الأخير للرعاية الصحية والتعليم والمعاشات والتأمين الاجتماعي. السؤال إذن هو: كيف نتجنّب مصير الخضر الألمان؟ وكيف نحافظ على أفضل ما في نظام دولة الرفاهة دون السقوط مجددًا في فخ ترسيخ الرأسمالية؟
إذا تحققت التوقعات بأن يكون سريزا اليوناني على رأس أول حكومة يسارية شاملة في أوربا العام القادم، سيكون أحد اختبارات نجاحه ما إذا كان يمكن أن يتحدى مصير اليسار التقليدي الذي لاقاه الخضر الألمان، وتجنّب السقوط في فخ الديمقراطية الاجتماعية.
إذا حدث ذلك، يمكننا أن نتخيّل نفس المشهد السينمائي المذكور، وفيشر يتهم تسيبراس بتحويل دول أوربا إلى طريق يساري خَطِر، وتسيبراس يرد عليه بأنه يحقق ما كان يحلم به في صباه.
المصدر: الغارديان