تشهد مدينة حلب احتفاليات غير معهودة بمناسبة المولد النبوي تخلّلتها فعاليات وأنشطة وطقوس غريبة على أهالي المدينة، وبدت الاحتفالية مدعومة من المؤسسات الدينية الرسمية التابعة للنظام، كمديرية أوقاف حلب، والفريق الديني الشبابي التابع لوزارة الأوقاف في حكومة النظام، وجهات ومجمّعات دينية يديرها المكتب الثقافي في القنصلية الإيرانية في حلب.
وحظيت الاحتفالية برعاية وحراسة مجموعات من الميليشيات الإيرانية التي طوّقت موقعها في حي الأعظمية بإجراءات أمنية مشدَّدة، والميليشيات المشترَكة هي فيلق المدافعين عن حلب وميليشيا نبل والزهراء وعناصر من لواء الباقر.
الاحتفالية التي بدأت منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ومن المفترض أن تنتهي في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، جذبت بالأناشيد والحلويات والزينة التي ملأت شوارع أحياء وسط المدينة آلافَ الزوار، بينما دُعي إليها القسم الأكبر من الحلبيين بشكل يشبه الدعوات التي كانت توجّهها الدوائر والمؤسسات الخدمية الحكومية وفروع وشُعب حزب البعث للموظفين والأعضاء قبيل كل مسيرة أو احتفالية.
ونظّمَ القائمون على الاحتفالية زيارات طلاب المدارس ورياض الأطفال والثانوية الشرعية والمعاهد وجامعة حلب وجامعة المصطفى وموظّفي الأوقاف وأئمة المساجد في أوقات مخصَّصة على مدار أيام الاحتفالية، التي زارها أيضًا مسؤولو الأوقاف ورئاسة الجامعة والإفتاء وغيرهم.
تضمّنت الاحتفالية على مدار أيام الشهر تقريبًا عروضًا منوَّعة تحاكي الحوادث الشهيرة التي عاصرها الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام)، أهمها قصة حفر بئر زمزم التي تمَّ عرضها عبر تقنية الهولوغرام ثلاثي الأبعاد، وعبر التقنية ذاتها تمَّ عرض آخر بعنوان معجزات وإرهاصات النبوة، وقصة بناء الكعبة ومراحل دعوة الرسول.
كما تمَّ عرض حول الهجرة النبوية عبر المجسمات، كبناء المسجد النبوي والكعبة وبيوت المدينة المنورة وبيت الرسول، وعرض آخر باسم “غزوة حنين” قُدِّم عبر مسرح ظل، وعرض لحجّة الوداع، وعروض متنوِّعة عن حياة الرسول قُدِّمت للزوار بعدة تقنيات.
قُسِّم موقع الاحتفالية إلى عدة أقسام، صالتا عرض هولوغرامي بالشكل الهرمي، وصالة للعرض السينمائي، بالإضافة إلى ساحة وصالات أخرى وُزِّعت في أركانها مجسمات كالخيام وحيوانات الركوب التي كانت مستخدَمة في زمن الرسول كالحصان والجمل، ومجسمات أخرى كقبّة الصخرة.
وتقوم تقنية الهولوغرام بإسقاط الضوء في الفراغ لترسمَ أشكالًا ثلاثية الأبعاد وكأنها عناصر موجودة أمام الزوار، أي إسقاطات ضوئية فوتونية موازية لتعزيز الواقع ثلاثي الأبعاد، حيث قال منظِّمو الاحتفالية في فيسبوك: “لقد سخّرنا هذه التكنولوجيا الحديثة في خدمة هذه المناسبة العظيمة، حيث قصصنا بها عظمة نسب الرسول الأعظم، فهو طاهر من نسب طاهر شريف عليه وله أفضل الصلاة والسلام”.
قالت مصادر محلية متطابقة في حلب لموقع “نون بوست”: “جرت العادة أن تحتفل حلب على طريقتها بالمولد النبوي، كان كبار منشديها كحسن حفار وأحمد حبوش ومحمود فارس وآخرين يحيون الاحتفالات بالمولد، والتي كانت تلفّ الجوامع الكبيرة في المدينة التي كانت تمتلئ بالمحتفلين، تُوزَّع الحلويات التي يتمّ جمع ثمنها من ميسوري الحال، وتتزيّن الجوامع بزينة خاصة بهذه المناسبة”.
أضافت المصادر: “بعد انطلاقة الثورة السورية وفي الفترة ما بعد عام 2012 اقتصرت الاحتفالات بالمولد على عدد قليل من الجوامع في المدينة، وغالبًا كانت مديرية الأوقاف هي من تنظّمها، لكن بدأت الطقوس تتغير تدريجيًّا، ففي العامَين 2019 و2020 بدأت تظهر الاحتفاليات بشكل مختلف في بعض الأحياء التي تسيطر عليها الميليشيات الإيرانية، حيث تختلف الزينة والطقوس واللافتات والأناشيد والحاضرون أيضًا، وكانت مظاهر الاحتفالية أقرب ما تكون لمظاهر وطريقة إحياء المناسبات الدينية الإيرانية”.
وأشارت المصادر إلى أن “الاحتفالية الحالية كانت الأولى من نوعها من حيث تبنّي الجهات الرسمية في حلب لها، كمديرية الأوقاف والمحافظة، وأقيمت بإشراف من شخص يُدعى الشيخ عبد الغني قصاب، وهو رجل نافذ ولديه آلاف المريدين، ومقرّب جدًّا من الفروع الأمنية والميليشيات الإيرانية في حلب، ويبدو أن الشيخ قصاب قد حصل على دعم كبير من المكتب الثقافي في القنصلية الإيرانية لتنظيم الاحتفالية”.
ينحدر الشيخ عبد الغني قصاب من مدينة معرة مصرين في ريف إدلب الشمالي، وكان قصاب قد اتّخذَ موقفًا معاديًا للثورة منذ بداياتها الأولى، وحوّل مزرعته الواقعة على أطراف المدينة لمكان يتجمّع فيه أنصاره والمريدون، وفي غالبهم كانوا من طلاب جامعة حلب ومن أبناء معرة مصرين والقرى المحيطة في ريف إدلب.
ومع بداية الثورة توسّعت علاقات الشيخ قصاب بشكل كبير بفروع الأمن في إدلب وحلب، ومع مندوبي حزب الله وإيران في بلدتَي كفريا والفوعة القريبتَين جدًّا من معرة مصرين بلدته، واتّهمه ثوار مدينته والقرى الثائرة المحيطة بالعمالة، وبقيادة جماعة من المسلحين (الشبيحة) الذين قمعوا المظاهرات في المنطقة، ووصفوه بـ”الشيخ الشبيح للنظام”.
وحاصرَ مقاتلو فصيل تابع للجيش الحر يُدعى “فرقة سيلمان المقاتلة” مزرعته أواخر عام 2011، لكنّ عناصر من الفوعة تمكّنوا من فكِّ حصاره وأنقذوه ومعه مجموعة كبيرة من المريدين، لكن جرى اعتقال ابنه الشيخ عبد الله قصاب و12 آخرين من قبل مقاتلي الفرقة في بيت الشيخ قصاب داخل المدينة، ومن ثم قام مقاتلو الفرقة بإحراق بيته ومزرعته بعد أن فرَّ إلى الفوعة ومنها وصل إلى حلب.
وفي حلب توسّعت علاقات الشيخ قصاب وزادَ عدد المريدين، كان قريبًا من الميليشيات الإيرانية ولكنه قليل الظهور، وبدأ بتنظيم الاحتفالات بمناسبة المولد النبوي منذ عام 2019 لكن على نطاق ضيِّق، وبعد افتتاح القنصلية الإيرانية بحلب وتوجُّه إيران نحو الاهتمام بقطاعات أخرى غير القطاع العسكري الذي دأبت على دعمه لتوسعة نفوذها وسيطرتها، كان هذا التوجُّه من حظ الشيخ قصاب الذي وجد عملًا ضمن سياسة تغيير الأدوات الإيرانية للتغلغل في الوسط الاجتماعي السوري.
قرندل: “محمود عكام مفتي حلب ومدير أوقافها تحت إمرة القنصل الإيراني وطَوْع مخططات المكتب الثقافي والديني في القنصلية، ولدى القنصل الكثيرين من أمثال الشيخ قصاب لكي يكونوا أدوات لتنفيذ سياساتها الثقافية والدينية”.
يرى الناشط السياسي محمد قرندل أن “إيران قد بدأت التركيز منذ بداية العام 2021 على سياسة التغلغل عبر القوة الناعمة الثقافية والدينية، ومن خلال المجمعات التعليمية والجمعيات الإغاثية ورعاية أسر القتلى وغيرها من الأنشطة التي تبدو في ظاهرها أنشطة إنسانية، وهذا التحول المفترض في التركيز على أدوات تغلغل وتوسُّع جديدَين قد بنت له إيران أرضية صلبة من خلال النفوذ والانتشار العسكري وتوسعة قاعدة الولاء وسط المجتمعات المحلية والعشائرية بشكل أكبر، والذي عملت على تكريسه منذ عام 2011”.
أضاف قرندل: “لدى إيران فرصة ذهبية في حلب وغيرها من المحافظات السورية، فحلب اليوم تحت إمرة قنصلها، الميليشيات تملأ أحياء المدينة، فروع الأمن والتجّار وطبقة الصناعيين معظمهم يدين بالولاء لإيران، لا مكان للمغضوب عليهم من القنصل الإيراني في حلب، لأن غضبه يعني للتاجر الإفلاس وللصناعي إغلاق معمله وطرده”.
ويكمل قرندل: “الهيمنة ذاتها تتكرر في مختلف القطاعات، وأهمها القطاع الديني، فمحمود عكام مفتي حلب ومدير أوقافها تحت إمرة القنصل وطَوْع مخططات المكتب الثقافي والديني في القنصلية، ولدى القنصل الكثيرين من أمثال الشيخ قصاب لكي يكونوا أدوات لتنفيذ سياساتها الثقافية والدينية”.
زادت إيران من دعمها للجمعيات والمجمّعات العلمية والدينية العاملة في حلب، وساهمت في بناء عدد من الحسينيات في قطاعات نفوذ “لواء الباقر” الذي يتزعّمه الحاج خالد المرعي في الأحياء الشرقية بحلب وفي ريفها الجنوبي، وخصّصت مبالغ مالية شهرية وحصصًا إغاثية لعوائل قتلى الميليشيات المحلية التي تدعمها، مثالها “فيلق المدافعين عن حلب” الذي يتزعّمه الحاج محسن، وافتتحت فرعًا لجامعة المصطفى الإيرانية في نبل شمالي حلب، والتي ضمّت العشرات من الفتيات من بنات المدينة وحلب.
وتعزِّز السياسات العسكرية الإيرانية في حلب فرضية توجُّهها نحو تغيير الأدوات في عملية التغلغل وتوسعة قاعدة النفوذ في حلب، وأهم تلك الإجراءات والسياسيات العسكرية المفترضة أن تنتهي مهمة قائد الحرس الثوري الإيراني جواد غفاري بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، وهو الذي كان قائد الجبهة الشمالية التي كان مقرُّ قيادتها في معامل الدفاع جنوبي حلب، وهو من أسّسَ ودعمَ الميليشيات الإيرانية في حلب عمومًا، وأُطلق عليه لقب مهندس عمليات السيطرة على الأحياء الشرقية وفكَّ حصار بلدتَي نبل والزهراء شمالًا عام 2016.
كما عملت على دفع الميليشيات للاهتمام بالقطاع المدني والتقرُّب من الحواضن الشعبية في مناطق نفوذها عبر الاحتفالات والإغاثة والتعليم والتجنيد، ودفعتهم لانتداب ممثلين عنهم لينضمّوا إلى مجالس المحافظة والأحياء وفي مجلس الشعب.
أخيرًا.. وجدت طهران في سوريا التي شاركت بإشعار نار الحرب فيها وتأجيج سعيرها بالطائفية والمرتزقة والمليشيات، مكانًا استراتيجيًا لتسويق مذهب الولي الفقيه وتصدير ثورة الخميني، ولعل مدينة حلب باتت أحد حواضن تلك الأجندات الخطيرة، تتخذها أذرع إيران المحلية والمستجلبة لبث عقيدتها في الأجيال الأسيرة لديها، والانطلاق منها إلى بقية الأراضي السورية، ومنها إلى المنطقة عمومًا، بلا حسيب ولا رقيب.