من المنتظر أن یكون شتاء التونسیین ساخنًا ھذا العام كالعادة أو ربما أكثر، بسبب الأزمات المتراكمة وبدء بروز الاحتقان الشعبي على الساحة، فتونس تعیش الیوم مرحلة لا یختلف اثنان أنھا من أدقّ مراحلھا السیاسیة منذ الاستقلال، فإجراءات الرئيس الاستثنائية لم تزد لھذا البلد العربي المتوسطي الصغیر غیر العزلة وتفاقم الأزمة المالیة والاجتماعیة.
مخاوف التضخُّم الاقتصادي
اقتصادیًّا، تمرُّ تونس الیوم بمرحلة صعبة جدًّا بعد انقلاب 25 يوليو/ تموز وتمسُّك الرئیس بعدم فتح باب الحوار، رغم الدعوات المتكررة من المجموعة الدولیة إلى الحوار الجاد وإعادة المسار الدیمقراطي ومؤسسات الدولة في إشارة إلى البرلمان.
وعلى رأس ھذه المجموعة الدولیة مجموعة السبع للدول المانحة تتزعّمھا الولایات المتحدة الأمریكیة، ما أفضى إلى تعطُّل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي رغم محاولات الحكومة الجدیدة الصوریة تلمیع الوضع السیاسي الجدید.
ناھیك عن الأزمة الداخلیة في تمویل میزانیة عام 2021 التكمیلیة، ودفع الدیون الداخلیة للبنوك المحلیة والقروض الخارجیة قبل نهاية العام الحالي، والبالغ قیمتھا إجمالًا نحو 6 ملیارات دولار.
هذا بالإضافة إلى عجز الدولة حالیًّا عن توفیر كتلة الأجور، ما دفعھا إلى طباعة أوراق مالیة جدیدة والوقوف على حافة الخطر، ما فاقم من ارتفاع الأسعار وعزّز مخاوف التضخُّم الاقتصادي مقابل تراجُع احتیاطي الدولة من العملة الصعبة، بیدَ أن الأزمة الاقتصادیة الخانقة وغیر المسبوقة في تونس، لا یمكن أن تمرَّ دون أن تثیر معھا أزمات اجتماعیة متزامنة وقد تكون مزمنة.
أزمة اجتماعية مزمنة
بدأت بوادر الغلیان على الساحة المحلیة والجھویة بسبب الانعكاسات المباشرة والخطیرة للوضع الاقتصادي، الذي أفرز إغلاق عدد من المصانع وآلاف الشركات، بینما یھدِّد الإفلاس حالیًّا ما یزید عن 50 ألف شركة صغرى ومتوسطة.
فضلًا عن مطالبة اتحاد الشغل باستئناف مفاوضات الزیادة في الأجور مع الحكومة، وتنفیذ إضرابات جھویة في القطاع الخاص بسبب تردّي أوضاع العمّال وتراجُع الحقوق الاقتصادیة والاجتماعیة خلال الأشھر الأخیرة.
تُضاف إلى ھذه الأزمات الخطیرة التي تعصف بالبلاد، وبدأت تمظھراتھا تطفو على سطح الأحداث، أزمة النفایات وما وقع أخیرًا من مواجھات شعبیة مع الأمن في منطقة عقارب من ولایة صفاقس، بسبب إصرار الدولة على إعادة فتح مصبّ النفایات بالجھة بعد تفاقُم الحالة البیئیة في صفاقس بسبب إغلاق المصب المذكور، ما كان وراء وفاة أحد الشبان.
وقد قوبلت ھذه الاحتجاجات بعنف بولیسي كبیر، ما زادَ من مشاعر الغضب والاحتقان ووسّعَ رقعة الغضب الشعبي من الوضع الراھن الذي على عكس ما تأمّلوه منذ أشھر، بل أخذ في الازدیاد سوءًا یومًا بعد یوم.
حراك ديناميكي
أما على المستوى السیاسي فلا یخفى على متتبّع الیوم في تونس أن رقعة الامتعاض تزداد باطّراد یومًا بعد یوم، فبعد إعلان عدة أحزاب وقوى سیاسیة معارضتھا لنھج قیس سعیّد منذ انقلاب 25 يوليو/ تموز، وبعد تنفیذ قوى مدنیة وسیاسیة معارضة للانقلاب عدة وقفات في وسط البلاد تندیدًا بالإجراءات الاستثنائیة وتعطیل الدستور.
وتستعدّ حاليًّا مجموعة من الرموز السیاسیة تتزعّم تنسیقیة “مواطنون ضد الانقلاب”، من بینھا مناصرون سابقون للرئیس سعیّد، للقیام بیوم احتجاجي واعتصام مفتوح في ساحة باردو الأحد المقبل 14 نوفمبر/ تشرين الثاني، تندیدًا بالانقلاب والمناداة بإعادة البرلمان والوضع الدستوري وتنظیم انتخابات عامّة مبكّرة في غضون 6 أشھر، في حراك ديناميكي انتقلَ من شارع الحبيب بورقيبة إلى مجلس نواب الشعب.
كما وقّعت مجموعة من 70 شخصیة وطنیة عریضة قبل یومَین، تطالب بوضع حدٍّ للإجراءات الاستثنائیة وتقدیم خارطة طریق واضحة للعودة للمسار الدستوري والدیمقراطي بالبلاد.
ومن المنتظر أن تشھد الساحة التونسیة خلال الفترة القادمة، لا سیما شھرَي دیسمبر/ كانون الأول وینایر/ كانون ثاني، موجة كبیرة من الاحتقان والاحتجاجات والأحداث على خلفیة تفاقم عدة أزمات في الوقت نفسه، خاصة أن فئة كبیرة من الشعب بدأت تقتنع أن الخطاب الشعبوي لم یزد البلاد إلا إغراقًا في وحل الأزمات ولم یأتِ بأي حلٍّ من الحلول، وأن كل الشعارات التي یتمّ رفعھا باسم مكافحة الفساد لیست إلّا مسكّنات لصرف اھتمام الشعب عن المشاغل الأساسیة، أمام عجز واضح عن إیجاد الحلول والبدائل المالیة للأزمة المتفاقمة.
كما أن الحكومة الجدیدة مطالبة بالمصادقة على قانون المالیة التكمیلي للسنة الراھنة، وإعداد قانون میزانیة عام 2022 للمصادقة علیه من قبل رئیس الدولة في ظل تواصُل غیاب وإغلاق مجلس النواب.
وعمومًا لا بدَّ من الإشارة إلى الوضع التونسي المتردي، الذي سببه في الحقیقة بعض التدخلات الخارجیة التي دفعت سعیّد نحو تنفیذ انقلاب عسكري على الدستور، وأن ھذه القوى الخارجیة سواء العربیة منھا أو الغربیة بدأت تتخلى عن سعیّد بعد أن استثمرت ما وقع في تونس إقلیمیًّا ودولیًّا، لا سیما مصر وفرنسا.
ورغم أن هناك من تحدّثَ عن تعويل الرئیس سعیّد على التمویل السعودي والإماراتي لموازنة البلاد، إلا أن السعودیة وإثر زیارة رئیسة الحكومة المعیّنة نجلاء بودن لھا قبل أیام، آثرت أن تقدم مساعدات مالیة وودائع بملیارات الدولارات لمصر وباكستان متجاھلة الحديث عن طلبات تونسیة ملحّة للتمویل والاستثمار، ما قد يُفهم من دعوة سعیّد باتّباع سياسة التقشف، وبالمناداة بالتبرُّع للدولة عبر اكتتاب وطني كان عرضة لانتقادات عدیدة من قبل الرأي العام الداخلي.
إذًا، یبدو أن المصائب في الانقلابات لا تأتي فُرادى، حیث بات واضحًا الآن للعیان أن الانقلاب في تونس دخلَ مرحلة العزلة الدولیة إلى جانب الاحتقان الداخلي، ما قد ینبئ بحصول تطورات على المشھد.