يواجه العالم تهديدَين وجوديَّين: تغيُّر المناخ الذي يواصل قادة العالم هذه الأيام مناقشة تبعاته في قمة غلاسكو “كوب 26″، وهرمجدون النووية (سيناريو يشير إلى نهاية العالم بشكل عام)، وكلاهما مطلوب اتخاذ إجراء عاجل بشأنهما.
ستؤدي معالجة التهديد الأول إلى فرض تكاليف اقتصادية كبيرة وتعديلات في نمط الحياة، بينما ستؤدي معالجة الثانية إلى تحقيق فوائد اقتصادية دون أي آثار على نمط الحياة.
رغم الحاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لتجنُّب العالم الوصول إلى نقطة تحول، إلا أن نهاية العالم التي يسبّبها تغيُّر المناخ لن تحدث إلا بعد عقود في المستقبل، في حين يمكن أن تدمّرنا كارثة نووية مفاجئة في أي وقت، وإذا حالفنا الحظ قد تتأخر النهاية لعقود قليلة أخرى.
ولأننا تعلّمنا التعايش مع الأسلحة النووية لمدة تزيد عن 6 عقود، أصبحنا غير مدركين لخطورة التهديد، فالأسلحة النووية لا تساعد اليوم في مكافحة التهديدات الحقيقية المتمثلة في التمرد والإرهاب والفقر والأمية وسوء التغذية والفساد، بحسب ما قيل في شوارع نيودلهي عام 1998: “لا طعام، لا ملابس، لا مأوى؟ لا تقلق، لدينا القنبلة”.
ورغم أن الأسلحة النووية هي أكثر الأسلحة فتكًا على وجه الأرض، إلا أن الكثير من الناس لا يدركون أنها تمكّن من تحقيق السلام العالمي، فالعالم لم يتعرض منذ الحرب العالمية الثانية لحرب إقليمية أو حرب عابرة للقارات رغم استمرار انتشار الحروب الأهلية والإقليمية والإرهاب الدولي، وهي ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، فما الدور الذي ربما لعبته الترسانات النووية في كبح الصراع واسع النطاق؟
حُمّى تكديس الأسلحة النووية
عندما حثَّ الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما جميع الدول على تقليص دور الأسلحة النووية في استراتيجياتها الأمنية، لم تلقَ دعوته هذه أي استجابة من قادة الدول، بل في الواقع تستمرّ العديد من الدول في تحديث أنظمة الأسلحة النووية.
وبحسب كتاب “ساحات المعارك النووية” (Nuclear Battlefields) لوليام أركين، فإن الولايات المتحدة لا يجاريها أحد في امتلاك الأسلحة النووية، حيث تمتلك 670 أداة من الأسلحة النووية في 40 ولاية بحيث يبلغ مجموع الرؤوس الحربية الجاهزة 14500 رأس.
رغم وقوع انخفاض كبير في الأسلحة النووية منذ ذروة الحرب، تقول الأمم المتحدة إنه لم يتدمّر فعليًّا رأس نووي واحد حتى.
خلال الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي غارقَين في سباق تسلُّح، وأدّى العداء إلى قيام كل طرف بتخزين أكثر من 30 ألف سلاح نووي لمنع الطرف الآخر من الحصول على ميزات إضافية.
في 14 أغسطس/ آب 1985، صرّح وزير الدفاع الأمريكي الأسبق كلارك كليفورد، أمام نادي الصحافة الوطني في واشنطن، أن القدرة التدميرية الإجمالية للقوة النووية في العالم -آنذاك- تبلغ مليون مرة أكبر من القنبلة النووية التي أُسقطت على هيروشيما، ومع ذلك عندما سُئل كليفورد: “ماذا علينا أن نفعل؟”، أجاب: “نمضي قدمًا في صناعة المزيد”.
ورغم النظرة السائدة إلى الأسلحة النووية على أنها عبء مالي وتهديد للأمن العالمي، أعلنت 7 دول أخرى (الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والهند وباكستان وكوريا الشمالية)، اعتبارًا من نهاية عام 2018، عن امتلاكها أسلحة نووية، وحافظت “إسرائيل” على سياسة “الغموض النووي” من خلال عدم تأكيدها أو نفيها لامتلاك أسلحة نووية، رغم الاعتقاد السائد بأنها تمتلك هذه الأسلحة.
أمّا الدول غير النووية فقد اتفقت فيما بينها على عدم امتلاك أسلحة نووية، ودخلوا في صفقة مع الدول الحائزة للأسلحة النووية، والتي بموجبها ستواصل هذه الدول مفاوضات من أجل نزع السلاح النووي الكامل مقابل عدم امتلاك الدول غير النووية القنبلة إلى الأبد، والاقتصار على منحهم حق الوصول إلى التكنولوجيا والمواد النووية.
رغم التوتر الشديد، وجدت الولايات المتحدة وروسيا تاريخيًّا أرضية مشترَكة بشأن مسألة الأسلحة النووية، فمنذ تطبيق التكنولوجيا النووية كانت معاهدات الحدّ من الأسلحة النووية بمثابة العمود الفقري للتعاون بين البلدَين.
على سبيل المثال، بعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، اُستعيدت العلاقات السوفيتية الأمريكية من خلال محادثات الحدّ من الأسلحة الاستراتيجية في أواخر الستينيات والسبعينيات، حيث وافق كلا البلدَين على خفض إنتاجهما من الأسلحة النووية.
وانخفض عدد الأسلحة النووية، الذي نما إلى ما يقارب 70 ألفًا في ذروة حقبة الحرب الباردة، بشكل مطّرد منذ أواخر الثمانينيات. ووفقًا لتقديرات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، لا يزال هناك ما يقدَّر بنحو 13865 سلاحًا نوويًّا في هذا العالم، وتشكِّل المخزونات النووية الأمريكية والروسية معًا أكثر من 90% من الإجمالي.
وفي عرض نادر للتعاون الروسي الأمريكي، اتفقت الولايات المتحدة وروسيا في 3 فبراير/ شباط 2021 على تمديد معاهدة “ستارت 3″ -التي تُعرف بـ”تدابير زيادة تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية والحدّ منها”-، وهي اتفاقية تحدُّ من المخزونات النووية لكلا البلدَين لمدة 5 سنوات (حتى 4 فبراير/ شباط 2026).
ومن المقرَّر أن تُخفِّض معاهدة ستارت الجديدة عدد الأسلحة النووية الأمريكية إلى أدنى مستوى منذ الخمسينيات، فقد واجهت قوة الردع النووي الأمريكية أزمة كبرى عام 2017، وتراجع عدد دوريات الغواصات حول العالم -خاصة في منطقة المحيط الهادئ- بصورة لم يسبق لها مثيل منذ عام 1960.
ورغم وقوع انخفاض كبير في الأسلحة النووية منذ ذروة الحرب، تقول الأمم المتحدة إنه لم يتدمّر فعليًّا رأس نووي واحد حتى، بالإضافة إلى ذلك لا توجد مفاوضات جارية حاليًّا بشأن نزع السلاح النووي، وما زال أكثر من نصف سكان العالم يعيشون في بلدان تمتلك مثل هذه الأسلحة أو هي أعضاء في تحالفات نووية.
هنا قد تبدو نظرة الرئيس أوباما إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية بالنسبة إلى البعض غير ممكنة في الوقت الحالي، فالسلام برأي هؤلاء لا يمكن تحقيقه إلا من خلال القوة، ومن ثم يتعيّن على الدول المضي قدمًا في خططها لتمويل وتحديث الأضلاع الثلاثة للترسانة النووية، لضمان سلامة الوطن من التهديدات الصاروخية الحالية والمستقبلية.
الردع النووي
بعد عقود من التخفيضات الكبيرة في الترسانات النووية لتعزيز الاستقرار الاستراتيجي، لماذا تتباعد روسيا والولايات المتحدة في فهمهما لمبادئ الاستقرار؟ وبعد سنوات عديدة من الجهود المشتركة من قبل القوتَين لتجنُّب ضربة نووية أولى تقوم بها إحداهما ضد الأخرى، هل مثل هذا السيناريو أكثر ترجيحًا اليوم من أي وقت مضى؟ كيف أنه بعد 3 عقود من المفاوضات الناجحة بشأن الحدّ من الأسلحة النووية وعدم انتشارها، يدخل العالم فترة تفكُّك عندما يتعلق الأمر بمنظومة السيطرة الكاملة على هذه الأسلحة؟
البعض يرى أن الدول النووية لا يمكنها أن تتخلص نهائيًّا من ترسانتها النووية الرادعة بينما تستمر الدول الأخرى في استعراض قوتها النووية.
في الواقع، وُلدَت فلسفة الردع النووي من رحم الأسلحة النووية التي استُخدمت في الحرب العالمية الثانية؛ ففي 6 أغسطس/ آب 1945، لقي ما مجموعه 140 ألف شخص مصرعهم على الفور، أي حوالي 40% من سكان مدينة هيروشيما في ذلك الوقت، لكن هذا الرقم لا يمكن مقارنته بالحربَين العالميتَين اللتين تسبّبتا في وفاة حوالي 70 إلى 100 مليون شخص قبل إنشاء الأسلحة النووية.
كانت نتائج ذلك الهجوم مدمِّرة للغاية لدرجة أن التهديد بهجوم نووي قد شكَّل السياسة العالمية منذ ذلك الحين، لكن إنشاء واستخدام القنبلة الذرية عام 1945 لم يؤدِّ في الواقع إلى ظهور فكرة الردع النووي على الفور، بل في البداية كان يُنظَر إلى الأسلحة النووية على أنها وسيلة حرب جديدة، وإن كانت ذات قوة تدميرية غير مسبوقة.
إن تخويف العدو بالتهديد باستخدام القوة العسكرية -لمنعه من اتخاذ إجراءات غير مقبولة أو إجباره على السلوك المرغوب- يُعتبر منذ فترة طويلة وظيفة سياسية ونفسية للجيوش والأساطيل قبل دخولهم في القتال، فمنذ 2500 سنة كتبَ المؤسِّس الصيني للتفكير العسكري الاستراتيجي سون تزو: “القتال والانتصار في كل معاركك ليس تفوقًا مطلقًا. التميُّز الأسمى هو كسر مقاومة العدو دون قتال”.
وأظهر التاريخ أن “الردع النووي” يضمن عدم زيادة العنف فوق مستوى معيّن، فخلال الحرب الباردة مُنع الصراع بين القوى النووية، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، بينما وقعت معارك أصغر مثل الحرب الكورية التي شاركت فيها دولًا بالوكالة، فقد دخلت الأمم المتحدة بقيادة أميركا ثم الصين كأطراف في الصراع بالوكالة.
لا تزال عقيدة الردع النووي قائمة في السياسات الأمنية لجميع الدول التي لديها أسلحة نووية والعديد من الحلفاء، حيث تحرص الدول النووية على استكمال أضلاع “مثلث الردع النووي”، التي هي قاذفات استراتيجية محمَّلة بصواريخ نووية وصواريخ باليستية عابرة للقارات وغواصات نووية محمَّلة بصواريخ عابرة للقارات يمكن إطلاقها من البحر.
البعض يرى أن الدول النووية لا يمكنها أن تتخلّص نهائيًّا من ترسانتها النووية الرادعة بينما تستمر الدول الأخرى في استعراض قوتها النووية، وتحديث مركباتها ورؤوسها الحربية الجوية والبحرية والبرية، بهدف الحفاظ عليها في المستقبل على المدى الطويل، لهذا يجب أن تحتفظ -دول مثل الولايات المتحدة- بترسانة نووية قوية لثني الدول الأخرى عن استخدام أسلحتها النووية، ويضمن الحلفاء أن واشنطن ستظل وفية لالتزاماتها الأمنية.
بالتالي، لا يمكن للردع النووي أن يكون بمثابة دعامة للأمن الدولي، إلا بالتزامن مع المفاوضات والاتفاقيات الخاصة بالحدّ من الأسلحة النووية وخفضها ومنع انتشارها، من دون ذلك يغذّي الردع سباق تسلُّح لا نهاية له، في حين أن أي أزمة خطيرة بين القوى العظمى ستجعلهم على شفا حرب نووية.
السلام النووي
يجادل العلماء، الذين يعتقدون أن البشر بطبيعتهم أنانيون، بأن السلام موجود لأن الفوائد الاستراتيجية والاقتصادية للفوز في الحرب تفوقها الآن خسائر الحرب الحديثة. في المقابل، يعتقد آخرون أن القِيَم الديمقراطية والترابط السياسي والاقتصادي بين البلدان يوفِّر للعالم الحديث الاستقرار والأمن والنظام.
نظرية السلام النووي تجمع بين كلا المدرستَين، ويعني ذلك ربط الخوف من الدمار المتبادل بالدعم المتواصل للتعاون الدولي، ويشير هذا إلى أن خطر التدمير النووي المؤكد المتبادل يردع البلدان عن الانخراط في حروب شاملة بين الدول، ويعطي الدول حافزًا لتقوية المؤسسات الدولية من خلال معاهدات الحد من التسلُّح وتدابير الأمن الجماعي.
يعتقد منتقدو السلام النووي أنه هشّ، حيث يمكن أن يؤدي تصرف غير مسؤول من قبل زعيم “مارق” إلى سلسلة من الأحداث التي تؤدي إلى هرمجدون النووية، التي يُعتقد أنها لن تتم بغير الأسلحة النووية التي تبيد معظم البشرية، وهو ما أجّج سباقات التسلح النووية.
بالفعل، رأينا آثار الأسلحة النووية في الأيدي الخطأ. على سبيل المثال، الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، الذي يمكن القول إنه الزعيم الأكثر استبدادًا في العالم اليوم، لديه إمكانية الوصول إلى الصواريخ النووية الباليستية العابرة للقارات، لكنه لم يقترب أبدًا من نشرها.
بدلاً من ذلك، يميل القادة “المارقون” إلى استخدام الأسلحة النووية كورقة مساومة، حيث إن امتلاك قنبلة نووية يمثّل ورقة رابحة قوية للمفاوضات. في المقابل، يتطلب الاستقرار الاستراتيجي حجمَ قوة كافيًا للحفاظ على السلام العالمي ومنع الحلفاء من استرضاء الخصوم أو امتلاك قدراتهم النووية.
من الآمن القول إن الأسلحة النووية -رغم كونها أسلحة دمار شامل مروّعة- حالت دون وقوع ملايين من الوفيات أكثر ممّا تسبّبت فيه.
وفي منطقة حلف شمال الأطلسي “الناتو”، تعمل الأسلحة النووية كرموز واضحة لالتزام الولايات المتحدة بالدفاع عن الحلفاء وردع الخصوم المحتملين، وصرّح العديد من الأعضاء الجدد في “الناتو” بأنهم انضمّوا إلى الحلف على وجه التحديد للحصول على الحماية تحت المظلة النووية.
بطبيعة الحال، تأجّجت مخاوف الحلف بعد الإجراءات الروسية الأخيرة التي تضمّنت غزو أوكرانيا، ومحاكاة تدريبات الضربة النووية على بولندا ودول البلطيق، والتهديدات بشنِّ ضربات على مواقع الدفاع الصاروخي التابعة لـ”الناتو”.
تبدو الحجج المنتقدة للانتشار النووي صحيحة ومنطقية، فالأسلحة النووية أكثر تدميرًا من أي شيء صنعه البشر على الإطلاق، وأصبحت أقوى بشكل كبير منذ الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك أدَّى اختراع الأسلحة النووية إلى فترة سلام غير مسبوقة في التاريخ الحديث، لذلك من الآمن القول إن الأسلحة النووية -رغم كونها أسلحة دمار شامل مروّعة- حالت دون وقوع ملايين من الوفيات أكثر ممّا تسبّبت فيه.