ترجمة وتحرير: نون بوست
مثّل إعلان “لينكدإن” الشهر الماضي عن إنهاء أعمالها في الصين نهاية مشاركة شبكات التواصل الاجتماعي الأمريكية في السوق الصينية. ولكن إغلاق “لينكدإن” لا يعتبر خسارة كبيرة لغالبية مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في الصين. فقد كافحت هذه المنصة لسنوات من أجل كسب متابعين مخلصين على الأقل جزئيًا، في ظل العدد الكبير للخيارات الأخرى التي يعول عليها الصينيون. وطيلة سنوات، عملت بكين على تضييق مجالها الرقمي – وهو ما انعكس في رقابتها المشددة على فيسبوك وتويتر – وإرساء شبكة واسعة وديناميكية من منصات التواصل الاجتماعي البديلة.
بات تأطير العلاقات الأمريكية الصينية قائمًا بشكل متزايد على المنافسة الجيوسياسية، لذلك غالبًا ما تكون المناقشات حول منصات التواصل الاجتماعي الصينية مرتبطة بالسياسة. لكن الباحثين يرون أن ذلك ليس سوى جانبًا واحدًا من القصة، لا يأخذ بعين الاعتبار الابتكار السائد في منصات التواصل الاجتماعي الصينية. تُوفر منصات التواصل الاجتماعي اليوم فضاء تطغى عليه اللوائح المتغيرة باستمرار – والرقابة – يسمح فيه للصينيين بمناقشة كل شيء بدءًا لعبة سكويد إلى ثقافة العمل السامة.
يعتقد جيريمي دوم، وهو باحث أول في مركز “بول تساي” الصيني في كلية الحقوق بجامعة ييل، أن “غالبية الناس لا يملكون تصورا دقيقا عما تبدو عليه الحياة اليومية في الصين”.
“تطبيق ‘وي تشات’ يستخدم في كل شيء، وليس مجرد تطبيق تواصل. إنه تطبيق يوفر خدمات متعددة من المدفوعات ونشرات الأخبار وغيرها. لقد أنشأ نظاما بيئيا خاصًا به، ولا يوجد نظير له في الولايات المتحدة”.
إن الصين موطن أكبر سوق لمنصات التواصل الاجتماعي في العالم، بواقع 927 مليون مستخدم حسب الأرقام الرسمية لسنة 2020. وقد شهدت الساحة التكنولوجية تغيرات جذرية في السنوات القليلة الماضية. في مرحلة ما، كان من السهل مقارنة كل تطبيق من تطبيقات التواصل الاجتماعي الناشئة في الصين بنظيرها الغربي. ولكن لم تعد مثل هذه المقارنات ممكنة بعد الآن، حيث تطورت المنصات الصينية بطرق مكنتها من التفوق على فيسبوك تويتر وإنستغرام.
تؤكد سيلفيا ليندتنر، الأستاذة في جامعة ميشيغان، أن “منصات التواصل الاجتماعي في الصين دُمجت بشكل عميق مع العديد من المنصات الأخرى مثل خدمات الدفع عن بعد، وتوصيل الطعام، والخدمات المصرفية أو حتى وسائل النقل”. ساهم هذا التحول في ولادة ما يسمى بالتطبيقات الفائقة، وهي أنظمة تقنية شاملة تتيح للمستخدمين الانخراط بسهولة في أنشطة متعددة على غرار التسوق وإرسال الرسائل النصية والدفع الإلكتروني وحجز الرحلات الجوية دون الحاجة إلى الانتقال بين التطبيقات.
من أبرز الأمثلة على هذه التطبيقات الفائقة في الصين منصة المراسلة الضخمة “وي تشات” التي تضم أكثر من مليار مستخدم شهريًا، وهي مملوكة لشركة تينسنت (تكتل تجاري صيني بقيمة 69 مليار دولار) التي لديها حصص في أكبر شركات إنتاج الأفلام في هوليوود ومنصات ألعاب الفيديو الشهيرة. تقنيًا، توفر هذه المنصة خدمة مراسلة فورية، لكن عروضها أصبحت أكثر شمولية. على منصة “وي تشات”، يمكن للمستخدمين الحصول على قروض وإجراء عمليات شراء من متاجر البقالة والتسوق عبر الإنترنت وطلب الطعام، والاتصال بخدمات النقل، وحجز الرحلات الجوية.
يقول دوم إن “تطبيق ‘وي تشات’ يستخدم في كل شيء، وليس مجرد تطبيق تواصل. إنه تطبيق يوفر خدمات متعددة من المدفوعات ونشرات الأخبار وغيرها. لقد أنشأ نظاما بيئيا خاصًا به، ولا يوجد نظير له في الولايات المتحدة”. وتؤكد كارا واليس، الأستاذة في جامعة تكساس: “لقد تطورت هذه المنصة لتكون مبتكرة للغاية وتشمل كل شيء تحتاج إلى القيام به في أي وقت”.
وفي أواخر العقد الأول من القرن الحالي كان يُنظر إلى “ويبو” على أنه الفضاء الرقمي الأكثر انفتاحًا. وكانت مقاطع الفيديو التي تنشر عليه تفضح المسؤولين الفاسدين، وتؤدي إلى محاسبتهم.
ومن بين التطبيقات الأخرى المبتكرة، تطبيق “ويبو” وهو عبارة عن منصة تدوين صغيرة شهيرة، وتطبيق “دوين” وهو تطبيق لمقاطع الفيديو القصيرة سبق نظيره في الغرب “تيك توك”. ومع أن كلا التطبيقين مملوكين لشركة بايت دانس الصينية، إلا أن “دوين” هو الخيار الأكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية حيث يتضمن ميزات التجارة الإلكترونية الخاصة التي تسمح للمستخدمين بشراء المنتجات على الفور وحجز غرف الفنادق، والقيام بجولات افتراضية في الأماكن بعد رؤيتها لأول مرة في مقاطع الفيديو. وقد انطلقت صناعة البث المباشر أيضًا في جميع أنحاء الصين بدرجة لا مثيل لها، حيث يتابع مئات الملايين من الأشخاص عروض البث الحي بحثًا عن العلاقة الحميمة والتواصل.
هذه المنصات هدف للقيود الصارمة المتزايدة التي تمثل جزءًا من جهود بكين المستمرة لتوجيه السلوكيات والأعراف الاجتماعية بلغت بها حد التطفل. كانت الرقابة في السابق بطيئة وبدائية على منصات التواصل الاجتماعي الصينية. وفي أواخر العقد الأول من القرن الحالي كان يُنظر إلى “ويبو” على أنه الفضاء الرقمي الأكثر انفتاحًا. وكانت مقاطع الفيديو التي تنشر عليه تفضح المسؤولين الفاسدين، وتؤدي إلى محاسبتهم.
سرعان ما تغيّر ذلك مع مواكبة السلطات التقدم التكنولوجي، وتركيز الحزب الشيوعي الصيني بشكل أكبر على الحرب الأيديولوجية وسعيه لعرقلة الأفكار الغربية. أدت حملة القمع في سنة 2013 التي طالت الحسابات الشهيرة على ويبو إلى القضاء على النقاشات الدائرة فيه. وعندما انتقلت بعض هذه المناقشات السياسية إلى مجموعات خاصة على “وي تشات”، استهدفت الحكومة المشاركين فيها في سنة 2017 وحمّلت المشرفين على المنصة المسؤولية عن أي خطاب منحرف سياسيًا في المجموعة.
في الوقت الحالي، يمكن أن تكون عقوبة السجن مصير كل من يستهزئ بأبطال الحرب في الحزب الشيوعي الصيني على منصات التواصل الاجتماعي – ولا تشمل القيود المحتوى السياسي فقط. فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، تطورت اللوائح بشكل مطرد لتطال المجال الشخصي وفُرضت الرقابة حتى على أبسط المواضيع.
يشمل الحظر حتى مقاطع الفيديو التي تبعث على الاسترخاء أو فيديوهات الموكبانج – وهي مقاطع فيديو تعرض أشخاصا يقومون بالتهام الطعام وتعتبر شائعة جدا في كوريا الجنوبية. كانت عروض البث المباشر أيضًا هدفًا دائمًا للحملات القمعية الحكومية منذ أن أصبحت شائعة في سنة 2014، هذا إلى جانب القيود الأخيرة التي تملي على المؤثرين كيفية ارتداء ملابسهم وطريقة التحدث.
“مبدأ الخصوصية انقلب رأسًا على عقب في الصين. ففي الولايات المتحدة، تدور جميع قوانيننا تقريبًا بما في ذلك الدستور حول الحد من سلطة الحكومة، ولكن الأمور تختلف في الصين”.
تزيد هذه القيود مع استمرار بكين في إحكام قبضتها. وغالبًا ما تكون منصات التواصل الاجتماعي هي الحَكم على مدى التقيد بهذه اللوائح المتغيرة، مما يخلق بيئة ملائمة لفرض الرقابة الذاتية والتحكم في المواضيع التي يناقشها الأشخاص. فيما يتعلق بالإشراف على المحتوى، غالبًا ما يتعين على التطبيقات تخصيص مبالغ ضخمة من المال واليد العاملة لمراقبة سلوك المستخدمين. وفي سنة 2020، وظفت شركة “بايت دانس” ما يقدر بنحو 20 ألف مشرف لمراقبة المنشورات.
تعلق ليندتنر على ذلك قائلة: “غالبا ما يكون الأشخاص غير متأكدين من دقة القواعد لأنها تتغيّر باستمرار. فما يعتبر اليوم مناسبا ربما لن يكون كذلك غدا. هناك دائما شد وجذب مستمران، حيث يحاول الناس معرفة إلى أي مدى يمكنهم تجاوز الحدود”.
تعتبر الخصوصية موضوعًا مثيرا للجدل في الصين، على الرغم من أن اللوائح تُطبق بشكل مختلف في هذا الصدد ولا تنطبق على الجميع بنفس الدرجة. ومثلما تعرّض فيسبوك للنقد بسبب قواعد الخصوصية الخاصة به وتسهيله نشر المعلومات المضللة، واجهت المنصات الصينية أيضًا تدقيقًا مع توسعها وتحولها إلى شركات احتكارية بشكل متزايد.
بموجب قانون حماية المعلومات الشخصية الجديد في الصين، الذي يعتبر أحد أكثر التشريعات صرامة في العالم، يُمنح المستخدمون الآن نظريًا حماية أكبر من طرف شركات التكنولوجيا. تواجه الشركات قيودًا صارمة على كمية البيانات التي يمكنها جمعها ومشاركتها – على الرغم من أن مدى التزام هذه الشركات بتطبيق هذه القوانين مشكوك فيه في الممارسة العملية.
يعتقد دوم أنّ التشريع الجديد الذي دخل حيز التنفيذ في تشرين الثاني/ نوفمبر “يتخذ خطوات كبيرة لحماية المعلومات الشخصية بطرق لم تكن ممكنة من قبل”، مشيرًا إلى أن نطاق تصرف الشركات الصينية في المعلومات الشخصية أصبح مقيدا نسبيًا. ولكن هذه القواعد لا تنطبق على السلطات الحكومية. ويوضح دوم أن “مبدأ الخصوصية انقلب رأسًا على عقب في الصين. ففي الولايات المتحدة، تدور جميع قوانيننا تقريبًا بما في ذلك الدستور حول الحد من سلطة الحكومة، ولكن الأمور تختلف في الصين”.
المصدر: فورين بوليسي