لا شك أن مصاريف الشؤون الاجتماعية حتى إن كانت لا تُلبي أدنى احتياجات المواطن في غزة لكي يشتري ربطة خبز على مدار أسبوعين متتالين على الأقل، لكنها طوق النجاة الوحيد والأخير له للخروج من كابوس “الموت من الجوع”.
فقد تعالت الأصوات الشعبية المنددة بحرمان الفقراء في غـزة من مخصصاتهم من الشؤون الاجتماعية التي من المفترض استلامها كل ثلاثة أشهر مرة واحدة، بقيمة 300 دولار لكل دورة مقسمة على 4 مرات سنويًا.
لكن بدا الأمر واضحًا مؤخرًا بعد التأخر عليهم بصرف مستحقاتهم منذ عام 2018، فقد أصبحت كل دفعة تتأخر لمدة أسبوع أو شهر عن موعدها الأصلي لتصبح ثلاث مرات في السنة، ثم تمادت حالات التأخير في 2019 و2020 لتصبح مرتين في السنة، رغم الحاجة الملحة للمصاريف في هذه السنوات بالذات نتيجة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد بعد أزمة فيروس كورونا (كوفيد 19).
لكن خلال عام 2021، كان من المفترض استلام أول دفعة بالشهر الثاني من هذا العام فبراير/شباط، لكن جرى تأجيلها لبعد شهر رمضان والحرب الأخيرة على غـزة نهاية شهر مايو/أيار، وخلال هذه السنة، لم يستلم المستفيدون إلا هذه الدفعة المذكورة من أصل 4 مخصصات، عدا عن 4 مخصصات أخرى لم يُعرف مصيرها بعد.
فما مصير مستفيدي الشؤون الاجتماعية خلال عام 2022، بعدما أصبحوا كل سنة يُحرمون من أحد مستحقاتهم، من أربعة دفعات يستلمونها، إلى ثلاثة إلى اثنين إلى دفعة واحدة.
منازل الفقراء
المواطن رياض المخدة من وسط قطاع غـزة أوضح أنه أجلس كل أولاده عن الدراسة لعدم قدرته على دفع المصاريف المدرسية والجامعية وأهمها المواصلات والقرطاسية، بل إن غذاءهم الوحيد حاليًّا هو معلبات “الفول” رخيصة الثمن، بنصف دولار وأقل للعلبة الواحدة، إذ تجتمع كل الأسرة على علبة واحدة يوميًا، ومياه الشرب يحضرونها من المساجد ومن حنفيات الشوارع، ويوجد حذاء واحد لجميع سكان الأسرة مقسمين خروجهم به حسب الدور حتى بالصلوات في المساجد، موضحًا أن وضعه الحاليّ وإن كان سيئًا لكن أفضل بكثير من عائلات أخرى.
عائلات أخرى لا تتوافر عندها مواد النظافة كالصابون والشامبو واستحمامهم فقط بالماء البارد
أما السيد أبو أحمد الذي يدفع شهريًا 100 دولار مصاريف استئجار منزل صغير به غرفة نوم واحدة ومطبخ وحمام، أصبح في الشارع اليوم مع أفراد أسرته البالغ عددهم 6 أفراد، بسبب عدم توافر ميزانية كان يتلقاها من الشؤون الاجتماعية لدفعها، وها هو اليوم يعيش داخل 4 زوايا حديدية في الشارع ملفوفة بالشوادر القماشية لتستر أسرته التي بالداخل، ويأكلون ما تيسر من البيض الفاسد والمكسور التي فشلت مزارع الدواجن بإنتاجه، إذ يبيعون لهم الكرتونة بدولارين بدلًا من إلقائها في النفايات.
عائلات أخرى لا تتوافر عندها مواد النظافة كالصابون والشامبو، بل حتى حفاضات أطفالهم غير قادرين على شرائها، ويستعملون الآن قطع من القماش يقصونها من مناشف الحمام والملابس كبديل لأطفالهم عن المنتج الآمن، حسب ما أوضحت السيدة فايزة.
عنصرية ومحسوبية
يقول الناطق باسم متضرري مستفيدي الشؤون الاجتماعية السيد صبحي المغربي لـ”نون بوست”: “على الرغم من مزاعم السلطة الفلسطينية من انقطاع الدعم الأوروبي، كمبرر لاقتطاع المساعدات عن الفقراء يأتي التساؤل هنا: لماذا الفقراء في غـزة بالذات دائمًا ما يتحملون عدم توافر ميزانية في خزينة السلطة الفلسطينية؟!”.
“إذا كان الكلام صحيحًا حول ضعف الخزينة، لكانت خافت السلطة على نفوذها عندما خرج مسؤول فتح في الخليل، جنوب الضفة الغربية، مهددًا بمقاطعة السلطة إذا لم يتم توفير الاحتياجات الأمنية والمالية التي طالبت بها المدينة مؤخرًا، فقد جاء الرد سريعًا في غضون 72 ساعة فقط، بمشاريع مالية قدمتها السلطة للخليل بقيمة 100 مليون دولار، فغـزة تعاني منذ 14 عامًا وضاقت عليها السبل بشدة خلال العام الحاليّ، ونصف هذا المبلغ المذكور قد يحل أزمة الشؤون الاجتماعية لمدة عام كامل”، يقول السيد صبحي المغربي.
بل إن شبكة ائتلاف النزاهة الفلسطينية (أمان)، كشفت حديثًا بالتعاون مع ديوان الرقابة في تقريره السنوي لعام 2020، عن الفساد السلطوي في توزيع منحة صندوق منحة (وقفة عز) وكانت قد حذرت مسبقًا من التجاوزات في توزيعه، فقد تم تأسيس هذا الصندوق لمساعدة المتضررين من إجراءات الطوارئ في البلاد بسبب فيروس كورونا، وتم إرسال رسائل نصية SMS لكل فلسطيني بضرورة التبرع لإنقاذ العمال وشريحة الفقراء.
وبحسب (أمان) فإن السلطة رفضت في بداية الأمر اطلاعها على كشف المستفيدين حتى استطاعت أن تحصل عليه بعد انتهاء عام 2020، وتكتشف أن قطاع غزة حُرِم منها، بعدما كان اسمها وسيلة لجذب المتبرعين في البداية، لكن الأموال ذهبت لموظفين داخل البنوك يتقاضون رواتب بقيمة 4000 دولار شهريًا، وآخرين في شركات الاتصالات رواتبهم بقيمة 2300 دولار، مقربين من عباس، ودبلوماسيين وقيادات في السلطة رواتبهم أكثر من 4500 دولار.
وكان نصيب كل من هؤلاء المستفيدين من صندوق (وقفة عز) 700 شيكل، أي ما يعادل 200 دولار أمريكي، ليتساءل المواطن: ماذا يُريد شخص يتقاضى 4500 دولار شهريًا من مساعدات إغاثية بقيمة 200 دولار؟، وهو يعلم أنها من المفترض أن تذهب للعائلات في غـزة التي تعيش على أقل من دولار واحد في اليوم، التي صُنفت بأنها “المدينة الأكثر فقرًا في العالم”.
كان نصيب قطاع غزة من صندوق وقفة عز نحو 10%، ذهبت للعاملين في حكومة عباس وفصائل منظمة التحرير، وقال رئيس الصندوق حينها طلال ناصر الدين، إن الصندوق ليس مسؤولًا عن حرمان غزة من نصيبها، محملًا الحكومة الفلسطينية بقيادة اشتية، المسؤولية كاملة بصفتها من أوردت لها أسماء المستفيدين.
تكفلت دولة قطر قبل نحو 5 سنوات بمساعدة باقي شرائح الفقراء في غزة الذين لا يتلقون مساعدات من الشؤون الاجتماعية بمعدل 100 ألف أسرة
وبحسب المغربي “إذا كانت السلطة تدعي النقص في المعونة السنوية بحق مستفيدي الشؤون الاجتماعية، لماذا لم تُصرف أموال صندوق وقفة عز على الفقراء بغزة بدلًا من أن تُصرف على قياداتها الذين يعيشون حياة الرفاهية المطلقة؟ وأين أموال السلطة التي أُودعت مؤخرًا في البنوك الإسرائيلية بقيمة 1.8 مليار دولار، في حين أن كل مصاريف الفقراء بغزة سنويًا بحسب التزامات السلطة الفلسطينية لا تتعدى 123 مليون دولار، وهو نفس المبلغ الذي دُفع للخليل بغمضة عين في أثناء تهديد حركة فتح – إقليم الخليل، بمقاطعة السلطة؟”.
تُصرف لمستفيدي الشؤون في الدفعة الواحدة 40 مليون دولار، على 4 دفعات سنويًا يُساوي 160 مليون دولار، يتكفل الاتحاد الأوروبي بـ23% من هذه المخصصات السنوية بقيمة 37 مليون دولار، ويتبقى 123 مليون دولار على حساب خزينة السلطة الفلسطينية، لكن تُدفع من الضرائب التي تُجنيها السلطة على البضائع والاحتياجات الغذائية والحياتية في غـزة، فما يُدفع لهؤلاء الفقراء هو حق لهم وليس منة من أحد.
“لم تكترث السلطة للنتائج المأساوية التي حلت على غـزة بعد تعدد الحروب عليها دفاعًا عن باقي المحافظات الفلسطينية وآخرها حرب مايو 2021، ولم تكترث للمرأة التي أحرقت نفسها في غـزة بعد مشاهدة أطفالها يجوعون بسبب عدم وصول مخصصات الشؤون الاجتماعية، بل كل هدفها ابتزاز حكومة حماس بغزة من خلال الضغط على الفقراء” يقول المغربي.
ويُشير المتخصص في الشأن الاقتصادي الفلسطيني الدكتور سمير أبو مدللة، بأن هنالك عدة حلول لمواجهة نقص الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية إن كان ادعاؤها بضعف الميزانية صحيحًا، منها عامل التقشف، فالترقيات لـ30 من قياداتها تفوق ميزانية الشؤون الاجتماعية التي تعتاش منها 80 ألف أسرة في قطاع غزة.
وتوضح الناطقة باسم وزارة التنمية والشؤون الاجتماعية عزيزة الكحلوت لـ”نون بوست” قائلة:”يستفيد من مخصصات الشؤون الاجتماعية قرابة 115 ألف فلسطيني، منهم 30 ألف في محافظات الضفة الغربية التي تضم نحو 20 محافظة ومدينة التي يتعدى مجموع سكانها 3 ملايين نسمة، وأكثر من 80 ألف في قطاع غزة فقط التي تضم ما يُقارب مليوني نسمة، وهذه الفروق بين عدد السكان والمستفيدين من كلتا الجهتين، مثال حي للفروقات المعيشية بين المواطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة، التي تشهد حالة فقر مدقع لم تشهدها من قبل”.
وقد تكفلت دولة قطر قبل نحو 5 سنوات بمساعدة باقي الفقراء في غزة الذين لا يتلقون مساعدات من الشؤون الاجتماعية بمعدل 100 ألف أسرة، لكل أسرة 100 دولار شهريًا، وهي تفوق أضعاف المساعدات التي تأتي من السلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي، وما زالت قطر ملتزمة بها حتى اليوم، وقد يحصل تأخير في مستحقاتهم بفعل المضايقات الإسرائيلية، لكن يبقى حقهم محفوظًا، فلم يكن بحسبان قطر ولا الشؤون الاجتماعية ولا فقراء غزة، أن السلطة الفلسطينية ستقتطع مخصصات الفقراء عن غزة في المستقبل.