أكثر من 30 عامًا على تأسيس اتحاد المغرب العربي (1979)، لم يُحقِّق فيها القادة أي تقارب حقيقي على المستويَين السياسي والاقتصادي، بما يسمح لهم توحيد الجهود لتعزيز التجارة البينية والتنمية المستدامة أو إقامة مقاربة أمنية مشترَكة لمكافحة التهديدات الإقليمية، بما فيها الإرهاب والجريمة المنظَّمة وسياسات خارجية تقف في وجه الأطماع التي تحوم حول المنطقة منذ عقود، لكن طبق الكسكسي فعل ذلك وجمع المغاربة على كلمة سواء.
الكسكسي هو غذاء وقوت ساكنة الحاضرة والريف والصحراء في المغرب العربي، وشكّل هوية تلك المنطقة عبر العصور، تطوّرت طريقة إعداده حتى باتَ عامل توحيد وترابُط وتقارُب بين أفراد الشعوب التي تجمعهم اللغة والدين والعرق.
أصول الكسكسي
تسميات الطبق الشعبي المغاربي تختلف من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، وكذلك طريقة إعداده، غير أن تسمية “الكسكس” تعود إلى “كسيكو” التي تعني سميد القمح، أو إلى كلمة “كوسكوسو” وهو مصطلح يعني “مسحوق”، أو حتى إلى كلمة “كيسكيس” وهو اسم وعاء يُستخدَم للطهو على البخار.
ويرجع تاريخ الكسكسي إلى الفترة 202-148 قبل الميلاد، حيث تمَّ العثور على أواني طبخ تشبه تلك المستخدمة في تحضير الكسكسي في مقابر تعود إلى فترة الملك ماسينيسا (238-148 ق.م)، وهو موحِّد مملكة نوميديا وعاصمتها سيرتا (محافظة قسنطينة اليوم) التي كانت تضمُّ شمال الجزائر ومناطق من تونس وليبيا.
كما سمحت عملية تنقيب وحفريات بمحافظة تيارت (غربي الجزائر) بالعثور على بعض الأواني، منها القدر المستعمَل في تحضير الكسكس، ويعود تاريخها للقرن التاسع بحسب خبراء، ووفقًا للمؤلِّف الحسن الوزان (1494-1554): “عُرف البربر بلبس البرنوس وحلق الرؤوس وأكل الكسكوس”.
والكسكسي أو الكسكس أو سيكسو هي كلمة أمازيغية، ذكرها أبو بكر بن دريد (البصرة، العراق عام 838م) في كتاب “جمهرة اللغة” في القرن العاشر للميلاد.
بدورها، تؤكد الباحثة الجزائرية في التراث سميرة أمبوعزة، أن “الكسكسي تراث مشترَك بين دول المغرب ودول شمال أفريقيا، أصله بربري أمازيغي”، مشيرة إلى أن الكسكسي وُجد عند السكان الأصليين لشمال أفريقيا قبل تقسيمه إلى دول، حيث وُجد في مصر وموريتانيا وليبيا وتونس والمغرب والجزائر، وانتشرَ مع مرور الوقت في العالم بفضل الرحّالة الأمازيغ.
تراث مشترك
يحظى الكسكسي بشعبية واسعة، إذ لا تكاد تخلو مائدة في المنطقة المغاربية منه، على الأقل مرة واحدة في الأسبوع، خاصة يوم الجمعة بعد الصلاة (الجزائر والمغرب) والأحد في تونس، أمّا في المناسبات الاجتماعية (أفراح، عزاء…) فيتحلّق الأفراد حول طبقهم المفضّل الذي غالباً ما يتم تقديمه في آنية فخارية كبيرة تُسمّى “القصعة” أو “التبسي”، من أجل حفظ حرارته أطول فترة ممكنة.
يتم إعداد الكسكسي من طحين القمح أو الذرة في شكل حبيبات صغيرة، ولتحضيره كانت العائلات تقيم ما يشبه “الأفراح” لإعداد “عولة العام” أي “مؤونة عام كامل”، وتجتمع نسوة العائلة أو الجيران في منزل واحد، ويشرعن في تحضيرها على صدى أغانٍ تراثية.
يُتناول الكسكسي بالملاعق أو باليد (التغميس)، كما يُطبخ بالبخار ثم تضاف إليه الخضار والمرق واللحم أو السمك أو الحليب حسب الأذواق والعادات، ويتميز الكسكسي بتنوُّعه، إذ تذكر دراسات أنه توجد أكثر من 300 طريقة لإعداده، وتشكّل البهارات والتوابل أحد أهم العناصر التي تميّز نكهة الطبق بين دولة وأخرى.
في سياق ذي صلة، عُرف عن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة قوله: “إن المنطقة المغاربية تبدأ من حيث يبدأ الكسكسي وتنتهي عند نهايته”، ويبدو هذا الطرح واقعيًّا، فجغرافية هذا الطبق تنطلق من الغرب الليبي وصولًا إلى المحيط الأطلسي بوجهَيه المغربي والموريتاني.
ويعني هذا الارتباط الجغرافي أن طبق الكسكسي يرتكز على بيئة المنطقة وإنتاجها الفلاحي من حبوب القمح والشعير دون غيرها تقريبًا، لذلك هو يمتدّ أيضًا إلى دول أخرى كمصر والسودان وفلسطين المحتلة، وحتى في الحوض الشمالي للمتوسط وخاصة في صقلية والأندلس وفي فرنسا حيث يُعترَف به ثاني أفضل طبق لدى أهلها.
رغم تفوُّق الكسكسي التونسي على نظيره المغربي والجزائري، وفوزه بلقب بطولة العالم في إعداد الكسكسي على مستوى التقديم والمذاق خلال المهرجان الدولي الذي استضافته مدينة سان فيتو لو كابو الإيطالية في 21-30 سبتمبر/ أيلول 2018، إلا إن طبق الكسكسي يظلُّ طبقًا مشتركًا مغاربيًّا يجمع سائر دول المغرب العربي التي لا تختلف كثيرًا في طرق إعداده وطبخه.
حرب الكسكس
في صراع شبيه بـ”حرب الحمص” في الشرق الأوسط التي اندلعت بين لبنان والاحتلال، الذي يعمل على استغلال دبلوماسية الطعام للسطو على الإرث الحضاري والثقافي للبلدان العربية، بعد استيلائه سابقًا على الأرض؛ تنازعت الدول المغاربية مطوّلًا فيما بينها حول ملكية هذا الطبق، وفي أيّ قُطر بدأ إعداده.
تدّعي كل من الجزائر وتونس والمغرب بأنها صاحبته، في حين يشدِّد البعض على أن هذا الطبق يعود للأمازيغ وهم السكان الأصليون لشمال أفريقيا، فيما يذهب آخرون إلى أبعد من ذلك ويُرجِعون جذور الكسكس إلى الحضارة العربية، مستندين إلى القصائد والنصوص القديمة من بلاد الشام.
انخراط البلدان المغاربية في “الحروب الدبلوماسية على الطعام” يأتي ضمن تواصل المعارك السياسية والاقتصادية بينهم، ومحاولاتهم الحثيثة لضبط عناصر التمايز والاختلاف عن الآخر، إضافة إلى تحقيق التفوق بأشكاله، ففي عام 2016 تقدمت الجزائر بطلب من اليونيسكو من أجل إدراج “الراي” ضمن التراث العالمي، الأمر الذي أثار حفيظة المغرب إذ زعمت “أحقيتها” في ملكية هذا النوع من الموسيقى.
تقرير عن ادراج #اغنية_الراي لتراث الجزائري اللامادي في منظمة اليونسكو #الجزائر #بنات_السبيطار #Mimi ? pic.twitter.com/wJg2MONp6z
— Bnat Sbitar (@BnatSbitar) August 30, 2016
بسبب الصراع، خاصة بين المغرب والجزائر، حول أهلية أي بلد بهذا الطبق، قُدِّمت طلبات منفردة إلى منظمة اليونيسكو لتسجيل هذا الطبق كتراث علمي وثقافي، وتحوّل الكسكسي إلى واجهة جديدة من واجهات الصراع السياسي بين البلدَين، حين تراشقت الحكومتان في الدولتَين بتصريحات تبادلتا فيها الاتهام بمحاولة احتكار طبق الكسكس وادِّعاء ملكيته دون باقي دول المغرب العربي، وذلك بعدما بادرت الجزائر إلى طلب تسجيله باسمها عام 2016.
انتقل هذا الصراع تدريجيًّا من الهرم إلى القاعدة، وباتت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مسارح واسعة للنزاع بين مواطني هذه الدول، وسط تبادُل ما قيل إنها أدلّة وبراهين تُثبت أحقيّتهم بهذه الأكلة.
اشتدت المنافسة عام 2018، حين ألمحَ رئيس الوزراء الجزائري أحمد أويحي بامتعاض إلى محاولة المغرب امتلاك الطبق وتسجيله لدى اليونيسكو باسمها، قائلًا: “هناك دولة شقيقة وجارة جعلت من الكسكس منتَجًا خاصًّا بها، لذا أطلب منكم أن تثبتوا أنفسكم وأن تبرهنوا العكس”، وهو ما أشعل ما سمّته الصحف “حرب الكسكس”، إذ اشتغلَ بها باحثون في مختلف القطاعات الثقافية من أجل إيجاد أصل هذا الطبق.
النزاع المغربي الجزائري حول “الكسكسي” يطل من جديد | #الجزائر
يطل النزارع المغاربي حول الأحقية بطبق “الكسكسي” الشهير من جديد، بعد أن ألمح الوزير الأول الجزائري، أحمد أويحي، الخميس، إلى انزعاجه من إعلان المغرب “الكسكسي” طبقا من التراث المحلي له، وسعيه لتسج… https://t.co/rBuMahKpAN
— Jazair News (@JazairNews) December 21, 2018
بعد تدخُّل صوت الحكمة، انطفأت شعلة الشوفينية والهوية الضيقة لدى الجماهير المتأثرة بقرارات السلطة وهدأت عاصفة التصريحات، واهتدى عقلاء هذه البلدان إلى حل تمثّلَ في تقديم دول المغرب الكبير: المغرب والجزائر وموريتانيا وتونس، بطلب مشترَك لليونيسكو لاعتماد طبق الكسكسي أو “اسكسو” كتراثٍ إنساني ثقافي غير مادي.
وحدة على مائدة اليونسكو
عملَ خبراء من دول المغرب العربي على إعداد مشروع “مشترَك” هدفه إدراج الكسكس ضمن التراث العالمي الإنساني على مستوى اليونيسكو، وقُدِّم الطلب في آذار/ مارس 2019، ليتمَّ تسجيله رسميًّا في المنظمة في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2020 ضمن قائمتها للتراث العالمي غير المادي.
Le Couscous ferment de l’unité maghrébine. Les ambassadeurs d’Algérie, du Maroc, de Mauritanie et de Tunisie à l’@UNESCO ont signé et déposé ce matin le dossier de son inscription comme patrimoine immatériel universel. Vive le Maghreb #Tunisie #Maghreb #Couscous الكسكسي# pic.twitter.com/kjaKjBx4j3
— Ghazi GHERAIRI (@GHAZIGHERAIRI) March 29, 2019
إنّ الطبق الذي سُجِّل في اليونسكو لا يشمل أي وصفة محدَّدة لإعداده، وهو ما يبدو أنه تجنُّب للخلافات بين الدول المغاربية، كما عملت المنظمة التابعة للأمم المتحدة على ربط هذا الطبق الشهير بالإرث الثقافي الأمازيغي، وهي صيغة مهذَّبة للقفز فوق النقطة الخلافية لتحديد تاريخ نشوء هذا الطبق وبالتالي أصله الحضاري، وبالتالي خلص الخبراء إلى أن “أفضل كسكس هو الذي تعدّه أمي”.
شهد هذا التصنيف غياب ليبيا عن “عصبة دول الكسكسي”، رغم أنها أكلة أساسية رافقت أفراحهم وأتراحهم عبر التاريخ، ويعود ذلك إلى أن السلطات الليبية لم توقّع على اتفاقية صون التراث الثقافي اللامادي مع اليونسكو، وهو ما حالَ دون إدراج اسمها في منظومة الكسكسي.
نجح الكسكسي ولو لحين في إذابة جليد العلاقات بين المغرب والجزائر، وفي كسر الحدود بين الدول التي عادةً ما تُحدِّدها التضاريس الطبيعية واللغات والعادات والسياسات المتّبعة، وهو ما يُدلِّل على أن التعبيرات المجتمعية عن الانتماء والهوية الثقافية أقوى رابطة من الوحدة بمفهومها السياسي البراغماتي والمتحوِّل حسب المصالح والظروف.
بعد اعتماده من طرف اليونيسكو: ما لم يستطع الساسة تحقيقيه طبق الكسكسي يوحد بلدان المغرب العربي pic.twitter.com/0PaGUvM9XH
— aichour abdeslem (@aichourabdeslem) December 18, 2020
التفاف الدول المغاربية حول الكسكسي قطع وقتيًّا مع بروباغندا الحكّام الذين يستمدّون بقاءهم في السلطة من الانقسام ومن الصراعات التاريخية، وكشفت بما لا يدع مجالًا للشكّ أن كل الملفات العالقة في المنطقة قابلة لمنطق الحوار والتنازل، فهي في مجملها حقوق مشترَكة كالدين واللغة لا تسقط بالسياسة.