أكثر من شهر مضى على إجراء الانتخابات التشريعية المبكرة بالعراق، ورغم إعلان مفوضية الانتخابات للنتائج الأولية بعد أقل من 48 ساعة على إغلاق الصناديق الانتخابية، غير أن النتائج النهائية لم تُعلَن حتى الآن في انتظار البتّ بالطعون التي قُدِّمت من الأطراف المعترضة على النتائج.
جاء تصريح رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي فائق زيدان، قبل أيام، ليكشف عن أن نتائج الانتخابات النهائية قد تُعلَن خلال الأيام القادمة، بعد أن أكّد على عدم وجود دليل قانوني على حصول تزوير في العملية الانتخابية.
الأسطر التالية لـ”نون بوست” تعرّف القارئ العراقي والعربي إلى السياقات القانونية لتشكيل الحكومة العراقية القادمة، والمُدد الدستورية الملزمة للكتل السياسية في ذلك.
مشكلة الكتلة الأكبر
ينصّ الدستور العراقي المُقرّ عام 2006 على أن الكتلة البرلمانية الأكبر هي التي تُكلَّف رسميًّا بتشكيل الحكومة العراقية، وهو ما سارت عليه الحكومة العراقية الأولى التي تولّاها نوري المالكي بين عامَي 2006 و2010 لوجود كتلة برلمانية هي الأكبر في البرلمان، والتي كانت تُعرَف بالتحالف الشيعي الموحَّد.
إلا أنه وفي انتخابات عام 2010، حصل خلاف بين ائتلاف الوطنية وائتلاف دولة القانون، إذ حصلَ ائتلاف الوطنية التي كان يتزعّمها إياد علاوي على 91 صوتًا، في الوقت الذي حازَ فيه نوري المالكي على 89 مقعدًا، ما اضطرَّ البلاد حينها لطلب فتوى قانونية من المحكمة الاتحادية العليا التي أفتَتْ بأن الكتلة الأكبر هي التي تتشكل داخل البرلمان في الجلسة الأولى التي تنعقد بعد مصادقة النتائج، وبالتالي استطاع المالكي تشكيل حكومته الثانية التي استمرَّت حتى عام 2014 بعد تحالفه مع قوى سياسية أخرى.
ويبدو أن مشكلة الكتلة الأكبر عادت لواجهة الأحداث مرة أخرى، بعد أن كشفت النتائج الأولية عن فوز التيار الصدري بـ 73 مقعدًا من مجموع 329 مقعدًا، في الوقت الذي كشفت عنه النتائج تراجع رصيد كتلة الفتح البرلمانية إلى 17 مقعدًا فقط، ما حدا بكتلة الفتح إلى محاولة لملمة شتات الكتل الخاسرة والاتحاد في ما بات يُسمّى إعلاميًّا بـ”الإطار التنسيقي”، الذي يسعى لبناء تحالفات تتجاوز مقاعد التيار الصدري.
من جهته، يؤكد الخبير القانوني علي التميمي في حديثه لـ”نون بوست”، أن تفسير المحكمة الاتحادية لعام 2010 يتناقض مع المادة 45 من قانون الانتخابات الجديد رقم 9 لعام 2020، الذي يمنع النواب من الانتقال بين الكتل السياسية حتى تشكيل الحكومة.
ينفي الخبير القانوني طارق حرب وجود أي تناقض بين تفسير المحكمة الاتحادية وقانون الانتخابات الجديد، مؤكّدًا أن تفسير المحكمة الاتحادية سيظل حاضرًا، معلِّلًا ذلك بأن التيار الصدري قاب قوسَين أو أدنى من التحالف مع كتلة تقدم.
ويتابع التميمي أنه وإذا ما نجح الإطار التنسيقي في جمع أصوات تناهز التيار الصدري ونجح في استقطاب كتلة أخرى، فإنه قد يؤدي بالبلاد إلى طلب فتوى جديدة من المحكمة الاتحادية للبتّ في المشكلة.
ومن خلال ما سبق، ينفي الخبير القانوني طارق حرب وجود أي تناقض بين تفسير المحكمة الاتحادية وقانون الانتخابات الجديد، مؤكّدًا أن تفسير المحكمة الاتحادية سيظل حاضرًا، معلِّلًا ذلك بأن التيار الصدري قاب قوسَين أو أدنى من التحالف مع كتلة تقدم التي يرأسها رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، ومع الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البرزاني، ما سيمكّن هذه القوى من جمع 146 نائبًا باستثناء المستقلين الذين أعلنوا انضمامهم لتقدم أو للتيار الصدري.
وعن تحالف هذه الكتل الثلاث، يعتقد الخبير القانوني أن هذا التحالف سيجعل هذه القوى الثلاث أكبر تجمع برلماني، ما سيمكّنه من حسم تشكيل الحكومة القادمة.
ويذهب في هذا المنحى القاضي السابق منير حداد، الذي أوضح في حديثه لـ”نون بوست” أن تفسير المحكمة الاتحادية للدستور عام 2010 سيُعتمَد في هذه الانتخابات، لافتًا إلى أنه لا يوجد أي تناقض مع قانون الانتخابات الجديد رقم 9 لعام 2020.
المسار القانوني
وضعَ الدستور العراقي توقيتات دستورية تلزم الكتل السياسية بها لأجل التشكيل الحكومة العراقية، إذ وبالعودة إلى الخبير القانوني طارق حرب الذي يؤكد أنه وبعد إعلان المفوضية للنتائج النهائية للانتخابات، ستُتاح أمام الهيئة القضائية الانتخابية مدة زمنية تقدَّر بـ 20 يومًا للبتّ فيها، ومن ثم وفي حال صحة النتائج، سترسل الهيئة القضائية النتائج للمحكمة الاتحادية لأجل المصادقة عليها، والتي قد تستغرق 4 أيام أو أكثر قليلًا.
خطوات عديدة وتسلسلية تلك التي يتطلّبها تشكيل الحكومة عقب الانتخابات، إذ يضيف حرب أنه بعد المصادقة على النتائج، يدعو رئيس الجمهورية الحالي برهم صالح البرلمانَ الجديد للانعقاد خلال 15 يومًا من المصادقة، وتكون الجلسة البرلمانية برئاسة النائب الأكبر سنًّا ريثما يتمّ انتخاب رئيس جديد للبرلمان.
ولفت حرب إلى أن الجلسة الأولى تتطلب انتخاب رئيس لمجلس النواب ونائبيه بأغلبية 165 صوتًا من مجموع 329، بعدها يتّجه البرلمان لفتح باب الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية خلال 15 يومًا، مبيّنًا أن اختياره يكون من خلال تصويت ثُلثَي نواب البرلمان لصالحه (220 نائبًا).
وفي حال إخفاق الكتل السياسية في ذلك، يتّجه البرلمان لتصويت جديد على منصب الرئيس، إلا أن الجولة الثانية لانتخاب رئيس الجمهورية تتطلب فوزه بأعلى الأصوات للنواب الحاضرين في الجلسة البرلمانية، بغضّ النظر عن عدد النواب الحاضرين أو اكتمال نصاب البرلمان من عدمه، بحسب تفسير حرب للدستور العراقي.
على الجانب الآخر، يبدو أن الخبير القانوني علي التميمي لديه رأي آخر، إذ يرى أن المادتَين 68 و70 من الدستور العراقي تنصُّ على أن انتخاب رئيس الجمهورية يتمُّ بأغلبية ثُلثَي أعضاء البرلمان، وفي حال الإخفاق في ذلك يتمّ انتخابه بأغلبية الأصوات (165 نائبًا)، وهو ما يتناقض مع طرح الخبير القانوني طارق حرب.
تشكيل الحكومة
يتابع التميمي موضّحًا آلية اختيار رئيس الوزراء، إذ يعلق بالقول: “إن المادة 76 من الدستور حدّدَت لرئيس الجمهورية المنتخَب 15 يومًا لتكليف مرشح الكتلة البرلمانية الأكثر عددًا لتشكيل مجلس الوزراء، وأن المرشح لرئاسة الوزراء أمامه 30 يومًا لتشكيل واختيار الكابينة الوزارية، وفي حال فشله بذلك، يكلِّف رئيس الجمهورية مرشّحًا آخر مع منحه 30 يومًا أخرى لإنجاز المهمة”.
وللحديث عن تصويت البرلمان على الكابينة الحكومية لرئيس الوزراء بعد مهلة الـ 30 يومًا التي منحها الدستور له، يعود الخبير القانوني طارق حرب ليفصِّل في الآلية الدستورية لذلك، إذ يؤكد أن التصويت على الكابينة الوزارية يجري عبر ما يُعرَف بتصويت الأغلبية البسيطة التي تعني بالمحصلة أغلبية النواب الحاضرين، شريطة اكتمال نصاب البرلمان والذي يكون من خلال حضور ما لا يقلّ عن 165 نائبًا في الجلسة البرلمانية.
توافقية أم أغلبية سياسية؟
لا تقف مشكلة تشكيل الحكومة العراقية عند حدٍّ معيَّن، إذ ومنذ عام 2003 استغرقت الكتل السياسية أشهرًا عديدة لتشكيل الحكومة مع تجاوزها جميع المُدد الدستورية المُقرَّة في الدستور العراقي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن جميع الحكومات السابقة كانت توافقية شاركت فيها غالبية الكتل السياسية وانتقدتها في آن معًا.
وفي هذا الصدد، يؤكد الباحث في الشأن السياسي العراقي مناف الموسوي أن الحكومة العراقية القادمة ستكون حكومة أغلبية سياسية، ولن تكون توافقية بأي حال من الأحوال، لافتًا إلى أن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أعلن ذلك صراحةً في أكثر من مناسبة.
ويضيف الموسوي، المقرَّب من التيار الصدري، في حديث سابق لـ”نون بوست”، أن الحكومات التوافقية منذ عام 2003 أدّت بالبلاد الى الوضع الذي هو عليه الآن من خلال استشراء الفساد والمحاصصة والطائفية وغيرها، موضّحًا أن التيار الصدري لن يدخل حكومة توافقية وأنه قد يلجأ للمعارضة في أسوأ الأحوال.
أقرَّ الدستور توقيتات دستورية لتشكيل الحكومة العراقية، غير أن العراقيين يستبعدون الالتزام بها وسط مشهد سياسي يعدّ الأصعب والأعقد في المشهد العراقي منذ الغزو الأمريكي عام 2003.
على الجانب الآخر، يستبعد الكثير من المراقبين للشأن السياسي العراقي اتجاه العراق نحو حكومة أغلبية سياسية، لا سيما أن الجهات الخاسرة للانتخابات تمتلكُ المال السياسي والنفوذ والسلاح، وبالتالي ستكون الحكومة القادمة، إذا ما كانت حكومة أغلبية، أمام مواجهة هذا السلاح الذي قد يقود البلاد لحرب داخلية وتدهور كبير بالوضع الأمني.
ويذهب في هذا المنحى القاضي السابق منير حداد، الذي يرى أن الحكومة القادمة ستكون توافقية كما في الحكومات السابقة، لافتًا إلى أن تحالف تقدم الوطني برئاسة الحلبوسي والحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة البرزاني، لن يذهبا للتحالف مع أي طرف شيعي على حساب آخر، موضّحًا أنه ليس من مصلحة الأكراد والسنّة الدخول في صراع لا ناقة لهما فيه ولا جمل، بحسب تعبيره.
هي توقيتات دستورية لتشكيل الحكومة العراقية أقرَّها الدستور، غير أن العراقيين يستبعدون الالتزام بها وسط مشهد سياسي يعدّ الأصعب والأعقد في المشهد العراقي منذ الغزو الأمريكي عام 2003.