باتت أحاديث الناس في شمال غربي سوريا تدور في محور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، التي ترسم معالم واقعهم اليومي تحت حكم الظروف المعيشية القاسية، ووفق نطاق ضيّق ومحدود لا يمكن أن يلبّي للأسرة أدنى احتياجاتها الأساسية.
تارةً تكون أحاديثهم حول الغلاء وارتفاع أسعار السلع الأساسية التي كانت توفّرها الأسر السورية في موائدها سابقًا، وتارةً حول الطرق التقليدية التي يلتمسون منها دروسًا وعِبَرًا من بعضهم لمواجهة التحديات المعيشية اليومية، وهي عبارة عن محاولة لتقنين وتأمين الاحتياجات بما يتناسب مع مصدر الدخل المتاح، وقيمته الشرائية للاحتياجات الضرورية.
هذا كله جاء جرّاء عدة عوامل وأسباب جعلت السوريين شمال غربي البلاد أمام مجاعة وشيكة لا يحمد عقباها، في ظل تنامي واتّساع رقعة الفقر، وانعدام مستوى الأمن الغذائي، الذي باتَ يهدِّد نحو 6 ملايين إنسان يقيمون في مناطق شمال غربي سوريا.
فقر مدقع
يعيش السوريون في شمال البلاد في ظلّ واقع معيشي متردٍّ، وفقر مدقع يصلُ إلى درجات سيّئة للغاية، يطبق على أنفاسهم من كل حدب وصوب، ويجعلهم غير قادرين على الاستمرار أمام جملة تحديات وظروف قاهرة لا يستطيعون إيجاد بديل للتغلُّب عليها.
في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، يجلس رجل أربعيني على حافة الطريق، يُدعى قصي العمر، يتجوّل في السوق ويعود مجددًا إلى المكان نفسه الذي يأخذ غالبية وقته.
يبدو أن الرجل اعتادَ على هذا المكان لكثرة المكوث فيه، وهو ينتظر فرصة عمل قد تكون ليوم واحد أمام أجر ضئيل جدًّا، قد لا يتجاوز الـ 20 ليرة تركية، تعادل دولارَين أمريكيَّين، لكن “الرمد أحسن من العمى” كما عبّر خلال وصفه للعمل.
يضيف الرجل في حديثه لـ”نون بوست”: “أستيقظ صباحًا بشكل يومي وأذهب إلى هذا المكان، أنتظر لساعات طويلة محاولًا الحصول على عمل قد يوفّر قوت أطفالي، وقد أعود خائب الأمل دون عمل، فأنا أقيم في خيمة متطرفة شمال مدينة أعزاز بريف حلب، ولا يتوفّر لدي أي مصدر دخل آخر”.
ويوضِّح الرجل: “الفقر صعب للغاية والحاجة الملحّة للبقاء على قيد الحياة لرعاية الأطفال هي التي تدفعني إلى البحث عن عمل وتأمين ثمن خبز أسرتي، التي كثيرًا ما تستيقظ وهي لا تملك ليرة تركية واحدة ثمن عدد محدود من أرغفة الخبز”.
ينتظر العمر مع العديد من الرجال والشبّان بأعمار متفاوتة قرب مكان تجمُّعهم، للحصول على عمل يومي أو ساعيّ بصرف النظر عن الأجور والوقت المتاح، ما شكّل أزمة أخرى على صعيد العاملين الذين باتوا يتعرضون للاستغلال من قبل أصحاب العمل، نتيجة العدد الكبير من العاملين وقلّة فرص العمل.
بينما تواجه الأسرة السورية تحديات مريرة في ظل سطوة الفقر، حتى أنهم قد لا يملكون ثمن رغيف خبز على أقل تقدير، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن المقيمين في المدن والبلدات في الشمال حالهم مختلف، فإن أُسرًا كثيرة لا يوجد لديها دخل تضطر لتناول الخبز كوجبة رئيسية على المائدة، هذا إن كان متوفِّرًا.
ويعيش تحت خط الفقر أكثر من 90% من السوريين، بحسب منظمة الصحة العالمية التي حذّرت خلال العام 2020 من ارتفاع عدد السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر، بينما يعاني أكثر من 80% من السكان من انعدام توفر فرص العمل.
الأولويات فقط
بدأت الأسر السورية المقيمة ضمن محافظة إدلب وأريافها وريفَي حلب الشمالي والشرقي، شمال غربي البلاد، الاستغناء عن الكثير من الاحتياجات التي يعتبرونها غير ضرورية في هذه المرحلة، وباتوا يلجؤون للحصول على الأساسيات والضروريات بحسب تقييمهم لاحتياجاتهم.
عبد الرزاق محمد، يقيم في ريف حلب الشمالي، يعملُ موظفًا في إحدى المؤسسات الرسمية التابعة للمجالس المحلية، يحصل الرجل شهريًّا على مرتّب يبلغ 800 ليرة تركية تعادل 80 دولارًا أمريكيًّا، ويحاول العيش بهذا المبلغ وفقًا لما يؤمّنه لأسرته.
قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إنه مصدر دخلي الوحيد ولا أمتلك موردًا آخر يعينني على تحمُّل نفقات أسرتي، لا سيما أن لدي أسرة مكوَّنة من 8 أشخاص، أحاول العيش بهذا المبلغ، وما يؤمّنه لي في ظل الغلاء المستشري في المنطقة”.
وأضاف: “أتعاملُ بالدَّين لتأمين مختلف احتياجات أسرتي، بينهم مركز لبيع المواد الغذائية وبيع الخضروات وحتى الصيدلية، وكل نهاية شهر أخرج على دراجتي وأدفع جزءًا من المبلغ الذي استدنت به احتياجات أسرتي، حتى وصل الأمر إلى تراكمات ضخمة لا أستطيع تغطية نفقاتها على الإطلاق”.
ويوضّح أنه يؤمّن الضروري من احتياجات أسرته، كالخبز والخضروات بكميات محدودة لطهي الطعام، والمواد الغذائية كالسكّر والأرز والزيت والسمنة وغيرها، التي أصبح يشتريها بالـ 100 غرام، حيث تخلّى عن الكثير من الاحتياجات كالثياب، والأطعمة الجيدة التي تحتوي على بروتينات كاللحوم، ويقتصر طعام أسرته على ما يبقيهم على قيد الحياة.
تحاول الأُسر السورية في هذا الظرف العصيب الذي يمرُّ بالمنطقة، اللجوء إلى حِيَل جديدة لمتابعة حياتهم في ظلّ فقدانهم لأدنى مقومات الحياة، ومنها تحديد طبخات معيَّنة من الطعام وفقًا لمدخولهم الشهري، متوزِّعة على أيام متفرقة من الشهر قد لا تتجاوز الـ 15 يومًا، يكون فيها الطعام طازجًا للشخص صاحب الدخل الثابت، بينما تنخفض عدد أيام طهي الطعام للأشخاص أصحاب الدخل المتقطِّع.
أسباب وعوامل
يعاني الشمال السوري من انتشار واسع للفقر، مع استمرار العوامل والأسباب المؤثرة على هذه النتائج التي باتت ترهق الأهالي بشكل غير مسبوق، ويبدو أن العوامل المؤثرة في انعدام الأمن الغذائي لدى سكان الشمال السوري على الشكل التالي:
– ندرة فرص العمل، في ظل ارتفاع كبير لأعداد العاطلين عن العمل تصل نسبته إلى 80% من الشباب القادرين على العمل، لا يجدون فرصة لكسب الرزق.
– فقدان عدد كبير من السكان مصادر دخلهم السابقة، سواء من معامل صناعية ومنشآت تجارية وحقول زراعية كانت تعينهم على تحمل نفقاتهم، وبقاؤهم في خيام أو مراكز نزوح تفتقر لأدنى مقومات الحياة، بينما كانت تلك المنشآت والحقول مصدر دخل لنسبة كبيرة من العمّال.
– عدم قدرة ربّ الأسرة على تغطية نفقات أسرته في ظل دخل محدود في حال كان موظفًا، أو لديه عملًا مستقرًّا، بينما الذي لا يملك عملًا مستقرًّا يواجه أشد التحديات.
– ارتفاع أسعار المنتجات والمواد الغذائية الرئيسية، من أبرزها الخبز الذي ارتفع بنسبة 300% بحسب منسقي استجابة سوريا، وذلك بصرف النظر عن انخفاض قيمة الليرة التركية التي يتم التعامل بها محليًّا.
– انخفاض الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، بعدما بدأ التعامل بها عوضًا عن الليرة السورية منذ عامَين في شمال غربي سوريا، ومعظم التعاملات النقدية والمرتّبات الشهرية يتمّ دفعها بالليرة التركية، وهذا يعني انخفاض قيمة المرتّبات بنسبة تصل إلى 25%، ما تسبّب في ركود الأسواق، وأثّر سلبًا على حياة الكثير من الناس مع كثرة العرض وقلة الطلب.
– عدم تغطية المنظمات الإنسانية والفرق التطوعية كافة المخيمات ومراكز النزوح المنتشرة من ريف اللاذقية حتى ريف حلب الشمالي.
– ازدياد عدد السكان في منطقة جغرافية صغيرة، مع استمرار الإنجاب وارتفاع أعداد الأطفال بشكل متواصل لدى الأسر.
مجاعة وشيكة
حذّرت منظمات المجتمع المدني في شمال غربي سوريا من مؤشر خطير بدأ يتنامى مؤخّرًا، جرّاء الظروف المعيشية السيّئة التي يرزح تحتها آلاف الأهالي، قد تتسبّب في وقوع مجاعة وشيكة تتعرّض لها المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية.
وأجرى فريق منسقي الاستجابة استبيانًا، بناءً على تصويت سوريين يقيمون شمال غربي البلاد ويتوقّعون حدوث مجاعة وشيكة، وكشف الاستبيان عن الوضع الاقتصادي للشباب في ظلّ الأوضاع الحالية، معتبرًا أن غالبية السوريين ليس لديهم مصدر دخل ثابت.
وفي السياق، أصدرَ منسّقو استجابة سوريا الأربعاء 10 نوفمبر/ تشرين الثاني، بيانًا يرصد الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعاني منها مناطق شمال غربي سوريا.
وقال البيان: “إن مئات الآلاف من المدنيين في مناطق شمال غربي سوريا، يسعون لتقليل عدد الوجبات اليومية وكميات الطعام، من أجل تأمين المستلزمات الأساسية، في خطوة جديدة نحو الهاوية وزيادة الفجوات في تمويل الاستجابة الإنسانية في سوريا”.
وأضاف: “وثّق الفريق أكثر من 498 مخيمًا في المنطقة يقطنها حوالي 468.913 نسمة، يعتمدون على شراء مادة الخبز بشكل مباشر، وسط غياب واضح للمنظمات في تأمين هذه المادة الأساسية، في ظل ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية، وفي مقدّمتها الخبز الذي واجه ارتفاع أسعار بما يعادل 300% مؤخرًا”.
من جانبه، أصدر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة الثلاثاء 9 نوفمبر/ تشرين الثاني، تقريرًا قال فيه إن عدد الأشخاص الذين باتوا على حافة المجاعة ارتفع عالميًّا إلى 45 مليونًا، 12.4 مليونًا منهم سوريون، وبحسب ما أوضح التقرير: “لا يعرفُ حوالي 12.4 مليون شخص في سوريا من أين سيحصلون على وجبتهم التالية – وهو مستوى من انعدام الأمن الغذائي يفوق أي وقت خلال النزاع المستمر منذ عقد من الزمن”.
يبدو أن مرحلة سيّئة تنتظر القاطنين في شمال غربي سوريا، سببها انعدام الأمن الغذائي وسط تحديات معيشية صعبة لا تسمح بتحسين الواقع الاقتصادي للأسرة بأي شكل من الأشكال، بينما تغيب قدرة المنظمات الإنسانية على تلبية كافة المناطق المعرّضة للمجاعة في وقت اقتراب فصل الشتاء.