سيصل ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد إلى تركيا صباح اليوم الإثنين 15 نوفمبر/تشرين الثاني، في زيارة سريع يلتقي خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لمناقشة العديد من القضايا التي تهم البلدين.
الزيارة تأتي في إطار المتغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة، التي خلطت الكثير من الأوراق في معادلة العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية، في ظل التحديات الجسام التي تواجه دول المنطقة، وتدفع الكثير من الحكومات إلى إعادة النظر في توجهاتها ومواقفها إزاء ملفات بعينها.
وتعد هذه الخطوة امتدادًا للعديد من مؤشرات التقارب بين البلدين، كان أبرزها الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس التركي مع ولي عهد أبو ظبي، في 30 أغسطس/آب الماضي، ثم استقباله وفدًا إماراتيًا برئاسة مستشار الأمن الوطني في الإمارات طحنون بن زايد آل نهيان، بعد أقل من أسبوعين على تلك المكالمة.
خطوات التقارب التي تخطوها أبو ظبي وترحب بها أنقرة تأتي في سياق مساعي البلدين تخفيف حدة التوتر وتعزيز لغة المصالح في ضوء التحديات والتهديدات الإقليمية التي شهدتها المنطقة، لكن يبقى التساؤل: هل يمكن لهذا التقارب الذي تسيطر عليه الأجواء الاقتصادية أن يطوي صفحة الخلاف بين البلدين بعد سنوات من الخصومة وتباين وجهات النظر حيال جل الملفات المشتركة؟
سياق التقارب
لا يمكن قراءة هذا التقارب بعيدًا عن المستجدات التي شهدتها المنطقة على أكثر من مسار، وهي التي دفعت الإمارات تحديدًا لتغيير بوصلة العداء المستمر لأنقرة، وتحولها من الاستهداف المباشر وغير المباشر إلى استخدام لغة خطاب أكثر مرونة وإيجابية، ما مهد الطريق لتحريك جبال الجليد بين الدولتين.
وعلى رأس تلك المستجدات رحيل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر، فقد كانا الداعم الأبرز لأبناء زايد وأجندتهم التوسعية الإقليمية، الأمر ذاته مع رحيل إدارة بنيامين نتنياهو، وما زاد من تفاقم الوضع مجيء إدارة ديمقراطية جديدة للبيت الأبيض، وما تحمله من تحفظات على سلوك الإمارات وبعض الأنظمة العربية في المنطقة.
علاوة على التقارب الملحوظ بين القاهرة وأنقرة، رغم الجهود المبذولة إماراتيًا لعرقلته، كذلك التحول الواضح في مسار العلاقات بين تركيا واليونان والاقتراب من وضع أرضية مشتركة لحلحلة أزمة شرق المتوسط، ما كان له تأثيره في تعزيز الحضور التركي وانسحاب البساط تدريجيًا من تحت أقدام أبناء زايد.
اتفاق العلا مطلع هذا العام، وطي صفحة الأزمة الخليجية التي كانت أبو ظبي طرفًا أصيلًا في إشعالها، يونيو/حزيران 2017، كان له حضوره هو الآخر في تقزيم الدور الإماراتي إقليميًا بعد وقف نزيف المصالح التي كانت تحققها الدولة الخليجية من خلال استمرار الخصومة بين طرفي النزاع.
كل هذا أثار مخاوف الإمارات من أن تبقى في عزلة، وأن تفقد ما تبقى لها من نفوذ، ما دفعها لإعادة حساباتها وترتيب خريطة تحالفاتها الخارجية، ما أجبرها على طرق أبواب خصومها (كما كان يصفهم إعلامها) فكان التقارب مع تركيا ومغازلة إيران وفتح صفحة جديدة في العلاقات مع نظام الأسد والإسراع من خطوات التطبيع مع دولة الاحتلال.
محفزات ودوافع
الضربات التي تلقتها الإمارات في العديد من الملفات التي كانت تلعب فيها دور الريادة كانت لها ارتدادتها العكسية على بوصلة توجهاتها لاحقًا، فسحب البساط من تحت أقدامها في ليبيا والسودان وكثير من قضايا المنطقة، كان جرس إنذار للنظام الحاكم بضرورة فتح قنوات اتصال جديدة مع القوى الإقليمية الموجودة للبقاء في المنطقة الدافئة في خريطة العمليات.
كما أن توتير الأجواء مع الحلفاء جراء السياسات المتبعة في بعض الملفات كان حافزًا لتنويع خريطة التحالفات ولو مع الخصوم التقليديين، إذ شهدت العلاقات الإماراتية مع القاهرة والرياض خلال الآونة الأخيرة مسارات من الاحتقان والتصعيد، وذلك بسبب العزف المنفرد لأبناء زايد في اليمن والقرن الإفريقي ومع دولة الاحتلال بما يهدد الأمن القومي لحلفائها، ما تسبب في بركان من النيران الخامدة تحت الرماد، حتى إن ادعى الجميع غير ذلك.
وعلى الجانب الآخر، تعاني تركيا منذ 2018 أزمة اقتصادية حادة، رغم مساعي الخروج عبر تنويع الإستراتيجيات التنموية والصناعية التي كان لها دور كبير في تخفيف حدة تداعيات هذا المأزق، لكن الأمور بلغت مستويات من القلق مع تصاعد معدلات التضخم والبطالة وانكماش العديد من القطاعات، هذا بخلاف التراجع الكبير في قيمة العملة المحلية، فضلًا عن جائحة كورونا التي عززت الوضعية الاقتصادية الحرجة.
الأجواء الاقتصادية الصعبة كانت الدافع الأبرز لأنقرة للترحيب بخطوات أبو ظبي التقاربية، وهو ما يمكن قراءته من خلال تصريحات الرئيس التركي وكبار مسؤوليه، بشأن تنحية الخلافات السياسية جانبًا والتركيز على البعد الاقتصادي في تطبيع العلاقات بين البلدين، ملمحًا إلى تبادل استثماري هائل بينهما خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يتوقع أن يخيم على اللقاء المرتقب بين أردوغان وابن زايد.
رسائل المغازلة
الأجواء بسياقاتها تلك ومحفزاتها سالفة الذكر دفعت أبو ظبي لتكثيف حراكها الدبلوماسي، فكانت زيارة طحنون للقاهرة ولقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي، ثم زيارته لأنقرة ولقاء الرئيس أردوغان، ومن بعدها زيارة للأردن ولقاء كبار رجال الدولة في عمان.
زيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي لتركيا كان لها صداها على مستوى الإعلام والدبلوماسية الإماراتية برمتها، فقد وصف الأكاديمي والدبلوماسي الإماراتي أنور قرقاش اللقاء بين أردوغان وطحنون بأنه “اجتماع تاريخي”، مضيفًا “الإمارات مستمرة في بناء الجسور وتوطيد العلاقات، كما أن أولويات الازدهار والتنمية محرّك توجهنا الداخلي فهي أيضًا قاطرة سياستنا الخارجية”.
اللقاء تبعته رسائل مغازلة عدة من جانب أبو ظبي، أبرزها تخفيف بعض القيود التي فرضت على التجار ورجال الأعمال الأتراك واستئناف الرحلات الجوية بين البلدين وتخفيف قيود منح التأشيرة، بجانب وقف الحملات الإعلامية الممنهجة ضد تركيا وسياساتها في المنطقة.
وفي الجهة الأخرى، استقبلت أنقرة رسائل المغازلة الإماراتية بالترحيب الشديد، إذ بادلتها الرسائل ذاتها، وذلك حين عينت تركيا سفيرًا جديدًا لها لدى أبو ظبي، وهي الخطوة التي أعقبتها بعض الاتصالات الدبلوماسية على رأسها الاتصال الهاتفي بين وزيري خارجية تركيا والإمارات في أبريل/نيسان الماضي.
تخفيف كلفة المواجهة
دخلت تركيا والإمارات خلال السنوات الماضية معارك سياسية وإعلامية حامية الوطيس، جراء تباين وجهات النظر إزاء العديد من الملفات الإقليمية، أبرزها الملف الليبي والسوري، فقد تصدت أنقرة للأجندة الإماراتية في هذين الملفين، فيما جيش الإماراتيون آلتهم الإعلامية ونفوذهم السياسي والاقتصادي لتشويه صورة تركيا ومناكفتها على أكثر من مسار لا سيما في ملف شرق المتوسط.
كانت كلفة تلك المعارك باهظة لكلا البلدين، وإن تباين حجمها بين دولة وأخرى وفق عدد من المعايير، إلا أن التحديات التي فرضتها المستجدات الأخيرة، إقليميًا ودوليًا، دفعت الجميع للتهدئة وتجميد الملفات الساخنة والعودة خطوة للوراء مؤقتًا من أجل التقاط الأنفاس.
كبير المحاضرين في قسم العلوم السياسية بالمدرسة الروسية العليا للاقتصاد غريغوري لوكيانوف، في تصريح لموقع “نيوز ري” الروسي، يرى أن التقارب الإماراتي التركي يهدف إلى ما أسماه “تقليل تكاليف المواجهة في أنحاء الشرق الأوسط”، مؤكدًا تصادم مصالح البلدين في المنطقة بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة.
الحديث عن علاقات تحالفية كاملة بين تركيا والإمارات في الوقت الراهن، حديث غير موضوعي، يتجافى مع الواقع وسردياته، لتبقى الفترة القادمة ساحة اختبار وتقييم لمستوى ومنسوب تلك العلاقة وما تحمله من استشراف مبدأي لما يمكن أن تكون عليه مستقبلًا
الخبير الروسي يعتقد أن كل من أنقرة وأبو ظبي لديهما الرغبة في تجنب المواجهة في الوقت الحاليّ، وأن هناك ضرورة ملحة لتخفيف التوتر حاليًّا، تتمثل في إحباط محاولات القوى الأخرى (على رأسها الولايات المتحدة على حد قوله) توظيف هذا الخلاف لتحقيق مصالح خاصة، تهدد البلدين وتقوض نفوذهما الإقليمي.
لا شك أن الخلافات بين البلدين أعقد بكثير من حلحلتها عبر لقاءات وتحركات دبلوماسية لم تخضع بعد للتقييم، لا سيما في ظل الشكوك التي تحيط بالأجندة الإماراتية في المنطقة، ولعل هذا ما دفع كلاهما إلى تجميد الملفات السياسية جانبًا والتركيز على المحور الاقتصادي، كخطوة أولى لتطبيع العلاقات المتوترة منذ سنوات.
ومن ثم فإن الحديث عن علاقات تحالفية كاملة بين تركيا والإمارات في الوقت الراهن، حديث غير موضوعي، يتجافى مع الواقع وسردياته، لتبقى الفترة القادمة ساحة اختبار وتقييم لمستوى ومنسوب تلك العلاقة وما تحمله من استشراف مبدأي لما يمكن أن تكون عليه مستقبلًا.