مرت 100 يوم على انقلاب تونس الذي ألحق فيها أضرارًا يعسر جبرها بالبلد وبمسار بناء الديمقراطية، ولا يزال المنقلب يغالي في مشروعه ولا يهتم بالمعارضة الآخذة في الاتّساع من حوله، كأنه يعيش في كوكب آخر غير الأمكنة التي يعاني فيها الناس البؤس المادي والسياسي، فتنعكسُ غمًّا في النفوس وإحباطًا عظيمًا.
رغم ذلك فقد وفّر فرصة كبيرة لقراءة واقع الديمقراطيين، المزيّفين منهم والمخلصين (إن وُجدوا خارج آمالنا)، وعمّق الفرز بحيث يمكننا أن نتوقع من سيواصل في المستقبل طريق الديمقراطية ومن سيظل يعاديها ولو تحالف مع الشيطان الرجيم.
غير أننا رغم هذا الفرز العميق، لا نتوقع أن يعود المسار الديمقراطي بسرعة ليحكُم، فجرح الانقلاب سيظلّ مفتوحًا وينزف إلى أمدٍ طويل، ودوامه من دوام عجز النخب عن نقد مساراتها وأدوارها.
قضية الفضلات واختبار الخطاب الشعبوي
لا بأس أن تكون في تونس مدينة تُسمّى عقارب، أثار اسمها سخرية أصدقاء مشارقة، فبعض الأسماء سابقة في الوجود على من تداولها، وهذا عرض، أما الباطن فقد انكشفَ لمّا تذكّر سكان المدينة الصغيرة ذات الطابع الريفي أن قيس سعيّد مرَّ بهم في حملته الانتخابية، وكانوا قد رفعوا قبلها دعوى قضائية لتحرير منطقتهم من مصبّ فضلات قادمة من مدينة صفاقس الكبيرة ذات النشاط الصناعي الكثيف، فوافقهم على مطلبهم وقال لهم حسنًا، وقد حكم القضاء لصالحهم، فأُغلق المصبّ وارتدّت المزابل على مدينة صفاقس.
الرجل الذي وعدَ سكّان المنطقة بكل خير، نقضَ حكم القضاء الصريح وأمرَ بإعادة فتح مصبّ الفضلات، فثارت المنطقة فأرسل عليهم الأمن والجيش وضيّق عليهم حتى سقط أحد شبابهم صريع الغازات.
لقد اكتشفوا في الطريق مسؤولًا يخلف بوعده، فتعلّموا وتعلّم منهم كثيرون أن وعود الانتخابات ليست سياسة صادقة، وأن مماشاة الناس في رغباتهم تصطدم بسرعة بتعقيدات الواقع، فتكذّب كل خطاب شعوبي يصدر في لحظة زهو أو لحظة نفاق (لم يحدث هذا لأول مرة ولكن بقدر رفعة مكانة المسؤول تكون آثار الخديعة).
ويُعتبر هذا درسًا بليغًا لكل من ستسول له نفسه إطلاق وعود لن يقدر على تنفيذها، لأنه بكل بساطة لا يعرف الواقع على الأرض، بعد كذبة عقارب سيكون على كل من يتقدّم لحكم الناس ألّا يكذب عليهم، وسيظل الدرس مؤثِّرًا مهما كان الشكل الذي سيتواصل به المتقدمون للمسؤولية مع الناس في المستقبل.
لقد قالت عقارب، التي تعيش تحت الدخان، إن حبل الشعبوية السياسية قصير، وقد كشف الرئيس الحالي وحذّر كل رئيس قادم، والناس يمحَصون خطاب الشعبوية بعيون مطموسة بالغاز.
لقد فقد الرئيس لديهم كل مصداقية، وسقط خطاب العطف على الشعب الذي روّجَ له المنقلب ووصلَ به إلى سُدّة الحكم، وقد كان من خوفه من انكشاف الخديعة أنه لم يضع قدمه في المنطقة، ولم يواسِ الناس في شهيدهم، ولم يوقف النزف المتواصل في لحظة كتابة هذا المقال.
غاز عقارب والنخبة السياسية
تقع على الرئيس وحزامه وحكومته الهاربة من الحقيقة قبل غيرهم مسؤولية فتح مصبّات المزابل، فهي مهمة وزارة البيئة التي ألغاها الرئيس في حكومته الحالية، وليس على البلديات المنتخَبة التي تقفُ مسؤوليتها عند التجميع والنقل إلى المصبّ القانوني.
ويكون تنظيم ذلك تحت مسؤولية الوالي المكلَّف بالمنطقة، وهو نائب الرئيس وقد عزلَ الرئيسُ واليَ صفاقس ولم يعيّن له بديلًا، فعقّد الوضع على كل من يروم حل المشكل بطريقة قانونية.
طبّقت المعارضة مبدأ “دعه يواجه مشاكله بنفسه”.
في الأثناء لم يقف الناس الموقف نفسه من مصيبة عقارب، فقد برّرَ أنصار الرئيس ذلك بل صوّروا الأمر كتحريض سياسي ضدّه، رغم أن أيًّا من الأحزاب لم يظهر في توجيه حركة الناس في المنطقة، بينما ظل معارضو الانقلاب في حيرة، فلا هم أعلنوا تضامنًا مع المنطقة، ولا وسّعوا الاحتجاجات إلى غيرها لإعطاء الأمر الأهمية التي يستحقّ.
وهذا أمر كاشف لأمر أكبر، حيث طبّقت المعارضة مبدأ “دعه يواجه مشاكله بنفسه”، أو “دعه يخطئ دعه يقع”، متناسين أن هذه الحيلة القصيرة النَّفَس هي تخلٍّ إرادي عن خدمة الناس في المستقبل.
ولا أحد منهم طرح السؤال، إذ بأي وجه سيعودون إلى مدينة عقارب وأهلها في المستقبل؟ إنها حالة من اللامبدئية تكشف غياب كل تفكير سياسي استراتيجي، يبني نفسه على ثوابت أخلاقية لا تتأثر بالظرفي والعابر.
وهو الموقف نفسه الذي كانت تتّخذه النقابات والسياسيون المعارضون، لمن حكم منذ الثورة في قضية الفوسفات المعطَّل وقضايا مماثلة، رغم أهمية الفوسفات كرافد أول للموازنة. لقد تغيّرت المواقع السياسية ولم تتغير التكتيكات الكيدية المخرِّبة للديمقراطية.
لقد كشفَت مزابل عقارب المزابل السياسية المتراكمة في عقول النخبة، وهي شعبوية أخرى نعتبرُ كشفها أهم درس من الانقلاب الفاشل.
الدرس الكبير
ليس للمنقلب مشروع لقيادة البلد، لقد صار هذا محل إجماع واسع وقد التحقَ به كثير ممّن ناصرَ الانقلاب في أيامه الأولى، لكن ليس لمعارضي الانقلاب مشروع أيضًا، لذلك نراهم منكبّين على أشكال من الصراع السياسي المتسلِّل من فترة ما قبل الثورة وما بعدها إلى زمن الانقلاب.
يتجلّى لنا هذا العجر أو الفقر في الأفكار وفي البرامج وفي عدم نقد الأحزاب والنقابات لمواقفها قبل الانقلاب، لم يصرِّح أحد بتحمّله لجزء من مسؤوليته الفشل قبل 25 يوليو/ نموز، وهو النقد الضروري الذي انتظرناه لنبني عليه ما بعد إسقاط الانقلاب ومحو أثره القانوني على الدولة وعلى مؤسساتها المعطَّلة الآن.
100 يوم كانت كافية ليثوب الجميع إلى رشد سياسي يسهّل التقدُّم على الجميع، وينهي حالة الاحتراب السياسي التي أدّت إلى الانقلاب، لكن العكس هو الذي نعاين، الكبر والغرور والتكايد الذين يموّهون الروح الاستئصالية المتفشّية بين مختلف التكوينات السياسية، وبعضها ميكروسكوبي لا يكاد يُرى في الشارع لكنه يمسك مفاصل الدولة، ويستخدمها لصالح تخريب المسار الديمقراطي ولو بالانتصار للانقلاب رغم الوعي بعجزه وفشله.
لولا عجز النخب عن التعايش داخل الديمقراطية قبل الانقلاب لما حدث الانقلاب، ولولا اختلافها لما استمرَّ الانقلاب 100 يوم.
هل هذا الدرس مفيد؟ نعم، نحن نراه كذلك من زاوية أنه مذهب لتخفيض سقف التفاؤل بما بعد محو الانقلاب، فالنخبة الظاهرة ستعيد إنتاج مشاكلها وتسويق براءتها في قادم الأيام، بما يعني أنها لم تعِش الانقلاب ككارثة سياسية ولم تعِ دروسه.
فالدرس الغائب أو العبرة التي لم يستقيها أحد، هي أن أسباب تخريب ما قبل الانقلاب لا تزال مستمرة، حتى إذا ذهب بنا التفاؤل واصطناع الأمل إلى أن الانقلاب ساقط بالقوة، فإن ما يعدّه لن يختلف عمّا قبله.
نختصر؛ لولا عجز النخب عن التعايش داخل الديمقراطية قبل الانقلاب لما حدث الانقلاب، ولولا اختلافها لما استمرَّ الانقلاب 100 يوم، ولما طمعَ أمثال المنقلب أصلًا في التطاول على الديمقراطية.
لقد كتبنا كثيرًا أن الرئيس مرَّ إلى الحكم من هذا الشقاق الكاشف لقصر النظر السياسي، وما زلنا نعتقد أنه قادر على الاستمرار رغم سوء تدبيره في عقارب الذي لم ترَه النخبة درسًا.
سنكون في الشارع في اليوم الـ 14 من هذا الشهر ضد الانقلاب، لكن بواقعية مرّة، أي بسقف منخفض جدًّا. هزال النخبة سمح للمفلس بسوم تونس سومًا بخسًا، لكنه في الباطن جزء من هذه النخبة، حيث لم نرهم يسومونها بقدرها بل برغباتهم الصغيرة.