ترجمة وتحرير نون بوست
منذ عدة أسابيع ظهر إلى العلن عدد من الاستعراضات الإعلانية حاول فيها عدد من شخصيات حكومة الانقلاب أن يُظهروا سيطرتهم على مشاكل مصر العمرانية، وكان أوضح مثال على ذلك دعوة السيسي للمصريين أن يعتمدوا على المشي والدراجات للحركة في المدينة من أجل الحد من الازدحام وتقليل مصروفات دعم الوقود، كانت الدعوة في سياق حدث صباحي قام فيه الرئيس وعدد من أعضاء الأكاديمية الحربية والمشاهير بجولة بالدراجات كانت طويلة للغاية؛ لكن مما ترتب على هذه الحملة الصحفية كان إغلاق الشوارع وتأمينها من المشاة، ففي خلفية هذا الماراثون قبع احتقان مروري ضخم ينتظر أن يتنهي الحدث حتى يتمكن المدنيون القابعون في السيارات والميكروباصات من استعادة الطريق مرة أخرى.
بينما فرح عدد من المهتمين بالدراجات في مصر معتبرين أن مثل هذا الحدث يمثل خطوة في الطريق الصحيح، من الواجب أن نتذكر أن جولة الرئيس لم يصحبها أي إعلان عن سياسة أو مشروع حكومي يطمح إلى جعل المدن المصرية صديقة للدراجات أو حتى صديقة للمشاة، وبمجرد أن انسحبت الكاميرات عاد الزحام المروري وبدأ العمل كما اعتدنا عليه، فقد قام العرض الإعلامي بوظيفته المسكنة بدون أن يقدم أي خطوة أو حل حقيقي لجعل الحركة بالدراجات أو حتى المشي وسيلة واقعية تناسب الحركة في القاهرة للتخفيف من مشاكل الزحام والتلوث وحتى السمنة.
يتخطى أسلوب الاستعراض في التعامل مع المشاكل العمرانية الضخمة مشكلة النقل بكثير؛ فعلى مدار الأشهر الماضية قامت قوات الأمن من الجيش والشرطة بسلسلة من الإزالات للمباني باستخدام الديناميت على طول مصر، فكما يوضح الفيديو أعلاه فإن أفعال التفجير الهادفة لتطبيق القانون ليست كافية لحل المشكلة، ففي خلفية المبنى المتهاوي يظهر الكثير من أمثاله، تظهر أقل الإحصاءات أن بمصر مئات الآلاف من المباني غير المرخصة أو غير القانونية التي تم بناءها في الثلاث سنوات الأخيرة كنوع من المقامرة في سوق العمائر الغير رسمي، والأسوء أن أغلب هذه المباني غير القانونية تم بناءها بمساعدة من أفراد محسوبين على الدولة المصرية كأعضاء المجالس المحلية بما يربطهم بعلاقات بأعضاء الحزب الوطني الديموقراطي المنحل ممن تنفعوا من مثل هذه النشاطات طوال فترة عدم الاستقرار السياسي الماضية.
فبينما يظهر التفجير بالديناميت أن الدولة الشديدة الفشل والتي سمحت بالبناء من الأساس قد قررت تدمير هذه المباني، إلا أن هذا ليس بحل عملي لمشكلة أضخم، هذا إذا غضضنا النظر عن ملايين الجنيهات المهدرة في البناء والتفجير والبناء مجددًا، فلا يوجد حل منهجي مبني على دراسات قدمته الدولة لحل هذه المشكلة على المدى البعيد، وعوضًا عن ذلك تقوم الدولة باستعراض عضلاتها موصلة للجماهير أن لا أحد في موقع القوة غيرها، كل هذا يحدث بينما تشرع الدولة في خطة لبناء مليون مسكن جديد بتكلفة 40 مليون دولار، فلماذا لا تقوم الدولة عوضًا عن ذلك بمسح للمباني الغير مرخصة على امتداد مصر سامحة لبعضها بالبقاء لكن في إطار نظام حكومي للإسكان الاقتصادي؟
إذا كانت هناك جائزة مسماة بـ”أكثر رجال السلطة ظهورًا” فإن محافظ الاسكندرية سيفوز بها بلا منازع، فالصفحة الرسمية للمحافظ على موقع فيسبوك تواصل إطلاع أهل الإسكندرية على جهود المحافظ في التعامل مع مشاكلهم بيديه وحركته على الأرصفة يوميًا لحل مشاكل مثل جمع القمامة والباعة الجائلين وإنشاء الطرق.
في الفيديو أعلاه يظهر المحافظ متفحصًا قطعة من الأرض سيقوم بإنشاء سوق للباعة الجائلين بها، ففكرته ببساطة هي أن يخلي ميادين المدينة من الباعة الجائلين وتخصيص مساحة خاصة لكل منهم في سوق مفتوح ليستطيعوا الاسترزاق، لوهلة قد يبدو هذا حلاً مبدع، ولكنه في حقيقة الأمر اعتباطي ويفشل في مواجهة المشكلة بشكل منهجي، بل على النقيض ينضح هذا الحل بالارتجالية إذ يمشي المحافظ مخبرًا قافلة المساعدين عمن يسمح له بمساحة في السوق ومن لا يسمح له، ومن الواجب أن نذكر أن هذا الرجل لواء جيش متقاعد لم ينتخب لشغل هذا المنصب، وأنه يفتقد تمامًا لأي نوع من التعليم أو الخبرة التي تسمح بإدراة مدينة يقطنها أربعة ملايين شخص بناءً على توجيهاته الشفهية وآرائه الشخصية لحل مشكلة معقدة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية تخص المساحات العامة.
قد يبدو على هذه الحلول النجاح مؤقتًا، لكنها هشة وتقتقد للأسس الصلبة مثل نظام سياسي وقانوني يستمر تطبيقه أيًا من كان الرئيس أو المحافظ، كل هذه العروض المبهرة لا تطمح بالأساس لحل مشاكل مصر العمرانية الهائلة بقدر ما تهدف إلى نفخ صورة بعض الأشخاص والمؤسسات الأمنية التي ينتمون إليها، فالولاء داخل المؤسسات المدنية المعنية بالمدن كالمجالس المحلية والمحافظات لللواء الذي يترأسها أولاً وقبل كل شيء، فإذا غاب الجنرال تتهاوى المدينة أو بصياغة أخرى فإن حياة ملايين المصريين وحقهم في المعيشة في مدن مدارة بشكل أفضل تظل رهينة في يد السادة الألوية.
في فيديو آخر يتخايل السيد المحافظ في شوارع الاسكندرية موزعًا الصرخات والتحذيرات الأخيرة على أصحاب المحلات قبل أن يرسل قواته لتغلق محلاتهم، فالمواطنون لا يتم التعامل معهم إلا كأطفال، والدولة لا تتطبق القانون بغير البلطجة.
إجمالاً لما سبق: تعاني المدن المصرية من مشاكل عمرانية شديدة، يظهر بعضها بشكل واضح يوميًا وتسمح لمن في السلطة أن يستعرضوا قوتهم، لكن المشاكل الأكثر خطورة كانقطاعات التيار الكهربائي المتكررة ومياه الشرب الملوثة ونظم الصرف المتهالكة لن تكون جزءًا من حملات إعلانية أو مقاطع فيديو مبهرة ينتجها المسئولون في أي وقت قريب، فهذه مشاكل تحتاج لحلول حقيقية، أشياء لا تستطيع (أو لا تود من الأساس) الدولة ببنيتها الحالية تقديمها، ففي حقيقة الأمر فإن الدولة المصرية بأجهزتها المختلة تعيش على الفشل وحالة الطوارئ المستمرة، وأي حلول حقيقية تهدد بالأساس الرجال الأقوياء في الحكومة ممن يزعمون أنهم يمنعون البلاد بالكاد من الانهيار.
لا تحتاج المدن المصرية لرجال أقوياء يمشون في الشوارع بالعصي، فإذا كان على المحافظ أن يترك مكتبه يوميًا ليتابع أعمال بناء طريق ما أو لينقل الباعة الجائلين ويدمر المباني الغير مرخصة، فما فائدة مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين ممن يستنزفون أموال الدولة برواتبهم ولا يفعلون سوى تبادل الأوراق.
تطبيق القانون يعني ما هو أكثر من بعض الحالات الفردية من التفجير بالديناميت أو استخدام الجرافات، تطبيق القانون يعني الإصلاح ليتمكن النظام القانوني من القيام بدوره بشكل مستمر ومتسق ويخلو من الثغرات، تطبيق القانون يعني القيام بعدد من الدراسات والمسوح الجادة للوضع الحالي وجلب الخبراء للعمل على تصميم حلول خاصة تعمل على المدى البعيد، تطبيق القانون يعني اقتراح سياسات منطقية عوضًا عن حكم مدن مصر بمجموعة من العروض العابرة.
المصدر: مشاهد مصر