تواصل القوى الثورية السودانية مساعيها لإسقاط انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الذي قام به قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وأطاح من خلاله بالمكون المدني من دائرة السلطة الانتقالية، ضاربًا بالوثيقة الدستورية الموقعة في 2019 عرض الحائط.
احتجاجات وإضرابات واعتصامات وحراك ثوري مستمر طيلة العشرين يومًا الماضية، كان لها صداها نسبيًا لدى الداخل والخارج على حد سواء، تأكيدًا على تمسك الشعب السوداني بمكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 التي كان على رأس أولوياتها مدنية الدولة وديمقراطيتها.
غير أن تلك الإستراتيجيات رغم ما حققته من نتائج ميدانية حتى اليوم فإنها لم تكن كافية بالصورة المطلوبة لإزاحة العسكر عن كرسي الحكم والعودة بالمشهد إلى ما كان عليه قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول، الأمر الذي دفع بعض القوى للتفكير في مسارات أخرى أكثر فاعلية وتأثيرًا.
وفي هذا الإطار دعا تجمع المهنيين السودانيين إلى تكوين جبهة ثورية واسعة ينضم تحت لوائها كل القوى المدنية المؤمنة بديمقراطية السودان وضرورة عودة الجنرالات إلى ثكناتهم، وتأسيس سلطة وطنية مدنية انتقالية خالصة من قوى الثورة الملتزمة بلاءاتها الواضحة (لا تفاوض، لا مساومة، لا شراكة).
خطوة في الاتجاه الصحيح لكن تطبيقها على أرض الواقع مسألة ليست بالسهلة، في ظل الأخطاء التي وقع فيها تحالف قوى الحرية والتغيير وتسببت في إحداث شروخات عدة في جسد المكون المدني برمته، هذا بخلاف عامل الوقت الذي بات في صالح العسكر يومًا تلو الآخر، ما يجعل من تدشين هذا الكيان الجديد تحديًا كبيرًا يتطلب جهدًا شاقًا وضمانات كافية لطمأنة الجميع بأن المرحلة المقبلة ليست كغيرها.
مساران للتحرك
القوى الثورية ترى أن الاحتجاجات المستمرة طيلة الأيام الماضية – التي سقط خلالها عشرات القتلى والمصابين نتيجة المواجهات الدامية مع قوات الأمن التي لم تدخر جهدًا في وأد تلك الفعاليات أيًا كان الثمن، إيمانًا منها أن استمرارها بتلك الوتيرة المتصاعدة شهادة وفاة رسمية للانقلاب -، تحتاج إلى مزيد من التنسيق والتناغم والبعد عن العشوائية من أجل إصابة الهدف بأسرع وقت وبأقل عدد من الخسائر في الأرواح والممتلكات.
وعليه كشفت عن مسارين رئيسيين لا بد للحراك الثوري الالتزام بهما لتحقيق الأهداف المنشودة، بحسب البيان الذي نشره التجمع على حسابه على فيسبوك، الأول “تنوع تكتيكات المقاومة السلمية”، وذلك بهدف رفع درجة تأثيرها وكذلك تفادي استهلاك الطاقة الثورية في شكل واحد أو أشكال محدودة للنضال.
وتحت هذا المسار تندرج العديد من الفعاليات منها: المواكب المركزية ذات الزخم والمواكب الداخلية بالأحياء بهدف إرهاق وتشتيت قوات الانقلاب، والاعتصامات الجزئية والمؤقتة داخل الأحياء أو حول مطالب بعينها، وصولًا إلى الاعتصامات المركزية بالمواقع ذات التأثير، وتتريس وإغلاق الطرق لحماية المواكب والأحياء وإنهاك قوات الانقلابيين، مع مراعاة الحالات الإنسانية وسط المواطنين.
رغم تباين الآراء داخل الأسرة الثورية بشأن عبد الله حمدوك وأدائه خلال الفترة الماضية، فإن الجميع يطالب بعودته رئيسًا للوزراء، كونه رمزًا موحدًا ومدخلًا وحيدًا وأوحد للعودة إلى المسار، وهي الرسالة التي لاقت صداها داخليًا وخارجيًا
بجانب العصيان المتقطع يومًا أو يومين في الأسبوع في تواقيت تحقق أكبر درجات التنفيذ وصولًا للعصيان الشامل لاحقًا، – الإضراب عن العمل والوقفات الاحتجاجية والمذكرات ذات المطالب للضغط على الإدارات التابعة للانقلابيين، – الفضح الإعلامي داخليًا وخارجيًا وتوظيف كل المنابر المرئية والمسموعة والمقروءة لتعرية الانقلابيين وحشد الدعم لقضية الانتقال الوطني المدني الديمقراطي والدولة الوطنية المدنية الخالصة.
ومن أبرز التحركات التي يمكنها زلزلة أركان العسكر، حملات المقاطعة الاقتصادية لبعض الأنشطة والمؤسسات بما يضعف القدرات والموارد الاقتصادية لسلطة الانقلاب، وحملات النفير للنظافة أو التشجير أو أي أنشطة يحتاجها الحي، مع ضرورة تفعيل الجهود الدبلوماسية، ومخاطبة الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الداعمة لحقوق الشعب السوداني، لمحاصرة انتهاكات الانقلابيين وكذلك لتفعيل خطوات اتخاذ قرارات وعقوبات حاسمة ضد الانقلابيين ومن يعاونهم.
أما المسار الثاني فيتعلق “بضرورة تكامل أدوار قوى الثورة الملتفة حول مقاومة وإسقاط الانقلابيين تحت شعارات (لا تفاوض، لا مساومة، لا شراكة)، فأداوات المقاومة أعلاه تتطلب تضافر مجهودات لجان المقاومة الميدانية والأجسام والكيانات المهنية والجهات الإعلامية والجاليات السودانية بالخارج، وكل من له قنوات لمخاطبة المجتمع الدولي، كما تحتاج لأكثر من آلية لتنفيذها، كل بما يليه، وفي إطار التنسيق والتعاون ومزاوجة الجهود”.
تسكين ومراوغة
توحيد مواكب الشوارع الأخيرة حول هدف واحد ثابت لم يتبدل منذ انطلاق الاحتجاجات بعد ساعات قليلة من الانقلاب أثار حفيظة وقلق العسكر بصورة لافتة، فالتمسك بالمدنية ومسار الانتقال الديمقراطي والعمل بمقتضيات الوثيقة الدستورية غير المنقوصة، بات الشعار الأوحد للجموع الغفيرة التي ملأت شوارع البلاد وميادينها.
ورغم تباين الآراء داخل الأسرة الثورية حول عبد الله حمدوك وأدائه خلال الفترة الماضية، فإن الجميع يطالب بعودته رئيسًا للوزراء، كونه رمزًا موحدًا ومدخلًا وحيدًا وأوحد للعودة إلى المسار، وهي الرسالة التي لاقت صداها داخليًا وخارجيًا، ودفعت فريق العسكر لإعادة استنساخ تصريحاته التخديرية ورسائل الطمأنة المزيفة التي اعتادها منذ بيان البرهان ظهر 25 أكتوبر/تشرين الأول.
تعامل الجنرال ورفاقه مع الشارع السوداني خلال العشرين يومًا الماضية بإستراتيجية رد الفعل وجس النبض، لقياس مدى قدرة السودانيين على الصمود والتحدي، فكانت الاستمالات العاطفية التي فشلت في تحقيق أهدافها، ثم التصعيد الدموي عبر المواجهات والتضييقات التي لم تجد سوى إصرار أكثر وتحدٍ أشد صلابةً، ثم اللجوء إلى سياسة الترهيب والتنكيل والاعتقالات، التي بدورها كانت الزيت الذي يزيد نار الثورة اشتعالًا.
من المتوقع أن يكثف الجنرالات جهودهم لتفتيت تلك الجبهة أو أي كيان ثوري آخر، وذلك عبر الطرق التقليدية، الاستمالات والوعود والمغريات، يليها التنكيل والترهيب، لكن تبقى الكرة في نهاية الأمر في ملعب الشارع
ومن هنا أيقن الجميع أن الإصلاح لا يجري عبر فرض التدابير والإجراءات التنكيلية، وأن مثل تلك الإستراتيجيات لن تزيد الوضع إلا تفاقمًا، وعليه كان لا بد من السير في مدارات أخرى موازية، في محاولة لتسكين الشارع وطمأنة الفريق الواقف على الحياد بين العسكر والثورة، وهو الفريق الأكثر حضورًا من الناحية العددية الذي ربما يمثل ثقلًا كبيرًا حال استئناسه من أي من الفريقين.
البرهان في بيان انقلابه أكد التمسك بمكتسبات الثورة وتصحيح مسارها فكان الإطاحة بالمدنيين من السلطة الانتقالية، وشدد على تشبثه بالوثيقة الدستورية فانقلب عليها، وتعهد بمدنية الحكم فأعاد تشكيل مجلس السيادة وفق أجندة عسكرية واضحة، مستعينًا بفلول نظام الإنقاذ والأسماء سيئة السمعة.
وبالأمس واصل مجلس السيادة البرهاني الجديد إستراتيجيته المعهودة في تسكين الرأي العام وتهدئته عبر وعود لا تقييم وحضور لها على أرض الواقع، متعهدًا بتشكيل حكومة مدنية في الأيام القليلة المقبلة، و”بتقديم نموذج مثالي في إدارة شؤون البلاد”.
المجلس خلال اجتماع له وعد “برؤية مستقبلية جديدة تحقق أهداف ثورة ديسمبر المجيدة وفي مقدمتها تنفيذ شعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة”، وهي التصريحات التي لا تختلف كثيرًا عن تلك التي اعتاد البرهان وحميدتي ورفاقهما ترديدها بين الحين والآخر ردًا على تخوفات الشارع بعسكرة الدولة مرة أخرى.
سياسة المداهنة التي يتبعها الجنرالات لا تستبعد المجيء بحمدوك على رأس الحكومة الجديدة المزعومة (إرضاءً للشارع ومغازلة للغرب) غير أن أعضاءها لا شك أنهم سيدينون بالولاء للبرهان وليس لرئيس الحكومة، وفق متوالية هندسية برغماتية محددة، يسمح من خلالها الجنرال الجديد بإشراك كيانات وقوى سياسية وزعماء جماعات مسلحة تكون في المستقبل حاضنة سياسية له أمام القوى الثورية.
على مدار 65 عامًا، منذ الاستقلال وحتى اليوم، كان إبقاء السلطة بيد العسكر هدفًا دائمًا في السودان، وهو ما ينسجم مع السياق التاريخي لتداول الحكم في هذا البلد الإفريقي، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا النموذج من الحكم يتلاءم مع الأجندة الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة بما يحقق لها مصالحها، بعيدًا عن شعارات الديمقراطية المزعومة التي ترفعها أنظمة تلك البلدان، وهو ما بات واضحًا منذ انطلاق قطار الربيع العربي.
الاستفادة من أخطاء الماضي
حتى لا تقع الجبهة الثورية التي تدعو القوى المدنية لتدشينها لإسقاط الانقلاب في الفخ لا بد من الاستفادة جيدًا من دروس الماضي وتجارب الآخرين في البلدان المجاورة التي مرت بنفس الظروف، حتى تحقق الهدف منها ولا تتحول إلى محاولة في قائمة محاولات عدة باءت جميعها بالفشل وكانت عاملًا في ترسيخ حكم العسكر.
بداية لا بد من توسيع دائرة المشاركة والتشاركية بحيث يسمح للقوى غير المنضوية تحت لواء التحالف والتغيير بالمشاركة والانضمام في الجبهة، وهذا يتطلب تنحية الخلافات السياسية والأيديولوجية جانبًا وأن يوضع الانقلاب وإسقاطه وإنقاذ البلاد من العودة لعصور الظلام مرة أخرى كهدف رئيسي يجب تحت كل الأهداف الأخرى.
هذا التحرك بجانب أنه يعالج القصور الذي شاب أداء الحرية والتغيير خلال العامين الماضيين، حيث الانفراد بالسلطة وإقصاء الآخرين، إلا أنه يغلق الباب (أو على الأقل يواربه) أمام المكون العسكري لتوسيع حاضنته السياسية والشعبية من خلال ضم القوى المستبعدة من التحالف الثوري، وهي النقطة التي لعب عليها جيدًا حين طالب بتوسيع الحاضنة السياسية، وكان لها صداها في دعم قرارات البرهان الأخيرة من بعض القوى والجماعات المسلحة.
مسار آخر يجب تعزيز التحرك بداخله، يتعلق بتفعيل الحراك الدبلوماسي ومخاطبة الكيانات والقوى الداعمة للديمقراطية في العالم، وعدم الارتكان للولايات المتحدة فقط، في ظل ما يثار بشأن تورطها في دعم الانقلاب والوقوف خلفه لأهداف ما، وهذا الأمر من الممكن أن يتولاه نخبة السفراء والدبلوماسيين الرافضين للانقلاب ممن لهم علاقات قوية وواسعة مع حكومات العالم والمنظمات الحقوقية.
أما المسار الأهم والأكثر تأثيرًا فهو البقاء على الحالة الثورية والزخم الاحتجاجي في الشوارع والميادين، يزامنه الاستمرار في أدوات المقاومة السلمية، عبر الإضراب والعصيان وإحداث حالة من الشلل التام، بما يزيد من الضغط على السلطة العسكرية ويدفعها لإعادة النظر في تحركاتها، وهذا لن يتحقق دون المكوث في الميدان وعدم الاستجابة لأي ضغوط أو رسائل مغازلة من هنا أو هناك حتى تحقيق الهدف الرئيسي وهو العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول.
من المتوقع أن يكثف الجنرالات من جهودهم لتفتيت تلك الجبهة أو أي كيان ثوري آخر، وذلك عبر الطرق التقليدية، الاستمالات والوعود والمغريات، يليها التنكيل والترهيب، لكن تبقى الكرة في نهاية الأمر في ملعب الشارع الذي كما استطاع أن يطيح بنظام البشير بعد 30 عامًا من الحكم، يملك القدرة – إن أراد – على الإطاحة بالبرهان وفريقه.