تنتشر البحرية الأمريكية في أغلب البحار والمحيطات، فهي القوة الكبرى في الوقت الحاليّ، لكن من يصدّق أنه قبل نحو 3 قرون كانت السفن الأمريكية تدفع رسومًا للجزائر – إحدى دول الخلافة العثمانية المسلمة – طلبًا للحماية والدعم؟
هذا ليس محض خيال ولا مجرد أمنيات، بل حدث فعلًا عندما كانت الجزائر تُحكم سيطرتها على الجزء الغربي للبحر المتوسط وجزء من المحيط الأطلسي، سنتحدث عن هذه الصفحة من تاريخ البلد العربي في هذا التقرير الجديد لـ”نون بوست” ضمن ملف “الجزائر العثمانية”.
تأمين البحر المتوسط
في أغسطس/آب 2020، قال قائد الأركان الجزائري الفريق سعيد شنقريحة، إن بلاده تسعى إلى إعادة الاعتبار للبحرية الجزائرية التي عاشت فترة ذهبية في تاريخنا المجيد، وكانت تمثل دون منازع سيدة البحار الأولى، وقوة يحسب لها ألف حساب في البحر الأبيض المتوسط.
وأضاف “هذا الماضي التليد، يمثل بحق مصدرًا من مصادر الاعتزاز، وباعثًا قويًا من بواعث الإصرار، على وضع القوات البحرية، على المسار الصحيح، وجعلها قوة رادعة فعلية، وتنسجم قدرتها القتالية والعملياتية مع مختلف الرهانات والتحديات الطارئة”.
يقصد شنقريحة بكلامه سيطرة البحرية الجزائرية في الحقبة العثمانية على حوض البحر المتوسط وفرض نظامها على السفن المارة من هناك وتصديها لكل الهجمات التي قادتها الأساطيل الصليبية ضد أراضي المسلمين في شمال إفريقيا.
وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها مجبرة على فتح مفاوضات مباشرة لإطلاق سراح الأسرى المعتقلين لدى الأسطول الجزائري
في ذلك الوقت، كان للجزائر أسطول بحري يُحسب له ألف حساب، فقد كان يشكل ما يعادل ثلث أو نصف الأسطول العثماني. أثار الجزائريون خوف ورعب الصليبيين، فأسطولهم كان الأهم والأكثر رهبةً في دول حوض البحر المتوسط كاملةً.
أحكم الجزائريون سيطرتهم على البحر المتوسط وأمنوا حركة سير السفن فيه، إذ فرضوا نظام ملاحة بمقتضاه تدفع الدول التي تمر سفنها عبر المتوسط، ضرائب للجزائر، لضمان أمن سفنها وتوفير الحماية اللازمة لها، أما من رفض دفع الضريبة طواعية سيكون مصيره التنكيل بسفنه وإجباره على الدفع صاغرًا كما حصل مع الولايات المتحدة الأمريكية.
الولايات المتحدة تخضع للأمر الواقع
كان الأسطول الجزائري خلال العهد العثماني يجوب المحيط الأطلسي من بريطانيا وأيسلندا إلى جزر الكناري والآزورس، ما جعل الدول تتسابق لكسب ود وصداقة الجزائر بعقد معاهدات معها حتى تضمن سلامة بحريتها وسفنها، بحسب مؤرخين.
الولايات المتحدة الأمريكية، كانت استثناءً، فمباشرة إثر استقلالها عن المملكة البريطانية عام 1776، بدأ بحارتها في رفع العلم الخاص بالدولة الوليدة على سفنهم، ولجأت إلى أصدقائها الأوروبيين وسعت إلى تكوين تحالف أوروبي أمريكي في محاولة لمواجهة التحدي الذي شكله داي الجزائر.
كان هدف الأمريكان من تحركهم هذا، بزعامة الدبلوماسي توماس جيفرسون، الذي سيصبح لاحقًا ثالث رئيس للجمهورية، بناء تحالف من القوى البحرية الأضعف لهزيمة الجزائر، لكنه لم ينجح في الأمر.
كان الأوربيون يعلمون قوة الجزائر، لذلك رفضوا الفكرة الأمريكية، وأمام هذا الفشل وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وحيدة أمام الأسطول الجزائري، الذي أعلن الحرب ضدها وحجز سفينتي “ماريا” و”دوفين” في عرض المحيط الأطلسي سنة 1785.
أمام هذا المأزق، وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها مجبرة على فتح مفاوضات مباشرة لإطلاق سراح الأسرى المعتقلين لدى الأسطول الجزائري، في هذه المفاوضات اشترطت الجزائر على الأمريكان دفع 60 ألف دولار مقابل تحرير 21 معتقلًا، ما أدى إلى فشلها.
إثر فشل المفاوضات، دعا بعض القادة الأمريكيين إلى شن حرب على الجزائر، لكن أصواتًا هناك أكدت أن الحرب ستكون نتائجها وخيمة على الاقتصاد الأمريكي كما أنها خطوة غير محسوبة العواقب، فالأسطول الجزائري قوي ومن الصعب مواجهته.
استمرت سيطرة الجزائر على البحر المتوسط وقتًا طويلًا، خلاله فرضت أحكامها على جميع الدول التي تمر أساطيلها البحرية من هناك
في الأثناء، قام الأسطول الجزائري بالقبض على 11 سفينةً أمريكيةً أخرى على متنها 119 بحارًا جرى أسرهم جميعًا، ما جعل الأمريكان يفكرون في التفاوض مرة أخرى، واتباع نفس طريقة الدول الأوروبية مع الجزائر، وهي الاعتراف لها بالسيطرة على البحر المتوسط ودفع الجزية.
سنة 1791، قرر الرئيس جورج واشنطن العودة إلى المفاوضات المباشرة مع الجزائريين، تحت شعار “السلام بأي ثمن”، وبعد 4 سنوات من المفاوضات، توصل الطرفان إلى توقيع معاهدة سلام وصداقة بتاريخ 21 صفر 1210 الموافق 5 سبتمبر/أيلول 1795، وقاد الوفد الأمريكي حينها الدبلوماسيون جويل بارلو وجوزيف دونالدسون وريتشارد أوبراين.
الأمان بمباركة عثمانية
في يونيو/حزيران 1796، أطلقت الجزائر سراح الأسرى الأمريكان، بناء على معاهدة السلام الموقعة بين الطرفين، في مقابل ذلك تعهدت أمريكا ببناء السفن للجزائر، ومن أهمها سفن الهلال وحسن باشا ولالة عائشة وحمدا لله وأخيرًا “سكجولدبراند”.
كما نصت المعاهدة أيضًا على دفع الولايات المتحدة الأمريكية نحو مليون دولار، منها 21 ألفًا و600 دولار مستحقات سنوية في صورة معدات بحرية للجزائر، فيما تتعهد الأخيرة بحماية التجارة الأمريكية في حوض البحر الأبيض المتوسط، والقيام بمساعيها أيضًا لدى حاكميْ طرابلس وتونس، لتحقيق السلام معهما لصالح الأمريكيين.
واحتوت المعاهدة كذلك على مواد تتعلق بشروط وتنظيم التعامل بين البلدين في التجارة وجوازات السفر والعلاقات الدولية في حالة الحرب والسلام وشؤون الملكية، وهو ما جعل الأسطول الأمريكي يتحرك بسلام في الحوض المتوسطي فهو في حماية الأسطول الجزائري.
يذكر أن هذه المعاهدة، هي الوثيقة الوحيدة التي وقعت عليها الولايات المتحدة الأمريكية خلال تاريخها باللغة الأجنبية أي غير لغتها الإنجليزية، وهي الوحيدة أيضًا التي تعهد فيها الأمريكان بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية.
كانت هذه المعاهدة مرهقة لمالية الولايات المتحدة الأمريكية ومسًا بكرامة الدولة الوليدة، لكن في الوقت ذاته استطاع الأسطول البحري الأمريكي بفضل هذه المعاهدة التاريخية الحصول على الأمان في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، أي أن هذا الأمان كان بمباركة العثمانيين وليس بفضل قوتهم العسكرية التي يتغنون بها حاليًّا.
لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الوحيدة المجبرة على دفع الجزية للجزائر، ذلك أن قوة الأسطول البحري الجزائري، أجبرت معظم الدول الأوروبية التي تريد أن يتحرك أسطولها البحري بأمان في البحر المتوسط على دفع ضريبة لذلك.
كان الجميع مجبرًا على دفع ضريبة للجزائر مقابل حرية الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكان حكام الجزائر يشترطون أن تكون في شكل مواد أولية كالبارود والأسلحة التي تحتاجها لضمان سيطرتها الكلية على البحر.
استمرت سيطرة الجزائر على البحر المتوسط وقتًا طويلًا، خلاله فرضت أحكامها على جميع الدول التي تمر أساطيلها البحرية من هناك، وأمنت حركة الملاحة فيه وساهمت في تعبئة موارد الجزائر والدولة العثمانية عمومًا.