ليس صحيحًا أن كل الجروح تُداوى بالزمن، وليس دائمًا تأخذنا عاطفة الأمومة إلى المثالية، فقد تُخذَل الأم حين تفقد قدرتها على الصمود أو التعافي من عنف ماضٍ ظلَّ غائرًا في قلبها، أو لا تزال تكابده أمام أعين أطفالها، فإذا تعرضت الأم للعنف في سنٍّ مبكرة ومن قِبل شريكها بعد الزواج، يشكّل خطرًا كبيرًا عليها وعلى أطفالها، فهم المستقبل الوحيد أمامها، وهنا تكمن الخطورة.
يعرِّف علم النفس الأم المسكينة أو المعنَّفة بـ”أنها التي تتلقّى العنف في المنزل وربما في العمل أيضًا، أو في سنٍّ مبكرة في الطفولة، وهي من الضعف تفجِّر غضبها على من هم أضعف منها، أي أطفالها، في هذه الحالة تصبح الأم المعنَّفة عنيفة بدورها، وهي بسلوكها هذا تنمّي روح التمرد داخل الطفل وتكون أول من يحصد النتائج السلبية”.
تنتقل عبر الأجيال
أثبتت دراسة نُشرت نتائجها في مجلة للطب النفسي البيولوجي، صادرة في هولندا، أن تعرُّض الأمهات للإهمال والتعنيف في الطفولة قد يؤثر على عمل دماغ أطفالهن في المستقبل، وعلى قدرتهم في معالجة الخوف والقلق، عن طريق بصمات الأعصاب البيولوجية.
واكتشف باحثو الدراسة أن هذه البصمات التي تنتقل عبر الأجيال، تؤثر على نمو دماغ الأطفال، ما أدّى إلى تغيير في النقل العصبي بين مناطق الخوف والقلق في الدماغ، ومنطقتَي قشرة الفص الجبهي والقشرة الحزامية الأمامية، المشاركتَين في صنع القرار وتنظيم العواطف.
الأمهات اللاتي يتعرضن للاعتداء والعنف المنزلي خلال فترة الحمل أو خلال السنوات الـ 6 الأولى من حياة الطفل، يزيد احتمال إصابة أبنائهن بضعف الذكاء.
وتقول المؤلفة الرئيسية للدراسة، الدكتورة كاساندرا هندريكس، في البيان، إن النتائج تُظهِر أن نمو دماغنا لا يتشكّل فقط بما يحدث في حياتنا الخاصة، بل يتأثر أيضًا بالأشياء التي حدثت لوالدَينا قبل الحمل.
كيف يؤثر العنف ضد الأمهات على ذكاء الأطفال؟
تفيد دراسة بريطانية بأن الأمهات اللاتي يتعرضن للاعتداء والعنف المنزلي خلال فترة الحمل أو خلال السنوات الـ 6 الأولى من حياة الطفل، يزيد احتمال إصابة أبنائهن بضعف الذكاء، مشيرةً إلى أن نسبة الذكاء المنخفض ترتفع إلى 34.6% إذا تعرضت الأم للعنف العائلي بشكل متكرر.
ووجد الباحثون أن الأطفال لأمهات يعانين بشكل متكرر من العنف المنزلي، خلال فترة الحمل وخلال السنوات الـ 6 الأولى من عمر أطفالهن، يكونون أكثر عرضة بـ 3 أضعاف لمعدل الذكاء المنخفض عند 8 سنوات من العمر.
قنبلة موقوتة.. كيف تنفجر؟
تقول المختصة والمرشدة النفسية مريم صالح: “لكل حدث أثر، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، حين تفقد الأم التي تعرضت للعنف والضرب والإهمال القدرة على التحمُّل، وهو أمر وارد جدًّا، تصبح شديدة الانفعال، متوتِّرة، فاقدة للتركيز مع الأطفال والبيت، وقد تتحول في كثير من الأحيان إلى كتلة من الصمت وقد يتملكها الاكتئاب، وتكره حياتها وتشعر بأنها كالغريق الذي يستنجد قبل الغرق بأعلى صوت”.
وتضيف خلال حوارها مع “نون بوست”: “هذه الأم غير قادرة على رعاية ذاتها والاهتمام بأطفالها، القسوة التي تتلقاها بالتأكيد تنعكسُ على دورها الأمومي الذى تتأثر به الأجنّة وهي في بطون أمهاتها، الأم هي المؤثِّر الوحيد للجنين من الناحية النفسية والصحية، بالتالي يتأثر دورها ويختلُّ وذلك بعدم قدرتها على تقديم الرعاية الكافية لأطفالها لينموا بشكلٍ سليم وصحّي”.
فيما بعد، وفقًا لحديث المرشدة والمختصة النفسية، ينعكس الأمر على شخصية الأطفال من حيث عدم قدرة الأم على احتضان أبنائها احتضانًا نفسيًّا يملأه الحب والدفء، ما ينشئ جيلًا مضطربًا لديه العديد من الأزمات السلوكية، كالعنف والعدوان والتبول اللاإرادي والمشكلات النفسية كالخوف والأحلام والكوابيس، وأيضًا ضعف التركيز والتراجع في معدلاتهم الدراسية.
يصبح هذا الجيل جيلًا مفكّكًا على الصعيدَين الاجتماعي والنفسي، فاقدًا للأمان، يشعر بالتهديد والخطر في أي لحظة، وعلى المدى البعيد يلجأ إلى أساليب تكيُّف خاطئة كالإدمان والهروب من المدرسة والسلوك الجانح.
العنف لا يولِّد إلا العنف
في السياق ذاته، يبيّن الدكتور رياض البرعي، أخصائي الأمراض النفسية والعصبية، “أن عدم تمتُّع الأم بعلاقة آمنة، ينعكس أيضًا على الأطفال، ومن ذلك التشتُّت وقلة التركيز وأيضًا ممارسة العنف ذاته خارج المنزل في المدرسة والمجتمع، وبالصورة النمطية نفسها”.
تعود الأم لتمارس العنف على أطفالها كحلقة مُفرغة تدور في المنزل نفسه وتخرج تدريجيًّا إلى المجتمع عن طريق الأبناء.
ويردف بالقول: “عندما يشاهد الأطفال العنف الواقع على الأم، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، يتعرّصون بكلتا الحالتين لاضطرابات عاطفية ترافقهم طوال سنوات حياتهم، وتؤثر على نموهم العاطفي والعقلي على المدى البعيد”.
ويتابع: “الاستيقاظ على صوت صراخ أو استغاثة، ورؤية الكدمات الزرقاء أو الدم أو الزجاج المهشَّم مثلًا، هذه المظاهر وحدها كافية للتأثير على رؤية الطفل للعالم، وعلى نموه بعيد المدى”.
فيما يؤكد أن العلاقة ثنائية الاتجاه، فالعنف لا يولِّد إلا العنف، وليست الأم وحدها الضحية، الأطفال كذلك يكونون في مرمى للتصرفات الخاطئة، وانعكاسًا لهذا العنف قد تعود الأم لتمارسه على أطفالها كحلقة مُفرغة تدور في المنزل نفسه وتخرج تدريجيًّا إلى المجتمع عن طريق الأبناء.
وبذلك تكون النتائج كارثية، وبالتالي يجدُ الأطفال الذين تعرضوا للعنف من الأم، أو رأوه يُمارَس على الأم، صعوبةً في التحكم بغضبهم ومخاوفهم، ويفقدون أعصابهم بسهولة، ويتحولون إلى أشخاص عنيفين من دون إدراك واعٍ للفعل.
سُبُل الحماية
يجمع المختصّان في تقريرنا حول سُبُل الحماية على “أنه في حال كان العنف موجَّهًا من قبل الأم أو الأب، لا بد أن يقوم الطرف الآخر باتخاذ الإجراء المناسب لعلاج ووقف العنف، وعدم السماح له الاستمرار بذلك السلوك تجاه الطفل بحجّة أنه والده أو والدته، لأن العنف لا يبرَّر أبدًا”.
ما الإجراءات المتّبعة للعلاج وتخطي هذه المشكلة المؤلمة؟
يجيب الأخصائي البرعي: “أول خطوة نحو العلاج هي وقف الاعتداء والعنف تمامًا الممارَس على الطفل، وتوفير جوّ آمن ومحبّ له، وعرض الطفل المعنَّف على معالج نفسي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى أحد الوالدَين “الذي قام بعملية التعنيف”، لأن كليهما بحاجة إلى العلاج والمتابعة المستمرة للطفل، سواء كان ذلك من قبل الاختصاصي أو أفراد الأسرة”.
تعرضت واحدة من كل 3 نساء في العالم للعنف، وقد تعرّضَ نحو 736 مليون امرأة لعنف جسدي أو جنسي خلال حياتهن.
ويوصي البرعي الأم التي تتعرض للعنف أيضًا، بضرورة طلب المساعدة حالاً، أولًا من خلال شخص ذي ثقة، أو الخطوط الساخنة المجانية التي خُصِّصت لهذا الغرض، وضرورة مراجعة طبيب نفسي لوضع خطة آمنة لإبعادها عن المعتدي ومعالجة آثار العنف.
“اتّحدوا، قولوا لا”
يصادف 25 نوفمبر/ تشرين الثاني ما يُعرَف باليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، وقد اختير هذا اليوم لإطلاق 16 يومًا من النضال تُختَتم في 10 ديسمبر/ كانون الأول في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وشعاره: “العالم برتقالي.. جيل المساواة يقف ضد الاغتصاب”.
واختارت هيئة الأمم المتحدة للمرأة يوم 25 من كل شهر كيوم برتقالي لحملتها “اتحدوا، قولوا لا”، التي أُطلقت عام 2009 لتعبئة المجتمع المدني والناشطين والحكومات ومنظومة الأمم المتحدة، من أجل تقوية تأثير حملة الأمين العام للأمم المتحدة لإنهاء العنف ضد المرأة.
ويعتبر العنف ضد المرأة مثل السرطان، سبب جوهري للوفاة والعجز للنساء في سنّ الإنجاب، وسبب أخطر يؤدي إلى العلّة مقارنة مع حوادث السير والملاريا معًا، بحسب موقع الأمم المتحدة.
وصنّفت منظمة الصحة العالمية العنف ضد النساء كمشكلة صحة عامة دولية بحجم وباء، حيث تعرضت واحدة من كل 3 نساء في العالم للعنف، وقد تعرّضَ نحو 736 مليون امرأة لعنف جسدي أو جنسي خلال حياتهن، بحسب تحليل حديث أجرته منظمة الصحة العالمية.