ما يحدث في إثيوبيا الجارة من توغُّل لأجهزة الرئيس الإريتري إسياس أفورقي، وتشعُّبها في توجيه المجموعات العرقية الرئيسية على الخريطة الإثيوبية في هذا الجزء من القرن الأفريقي شديد الحساسية، يكشف أن الرجل يريد تأسيس دولة قمعية يخشاها الجميع في شتى أنحاء القارة أو خارجها.
من هو إسياس أفورقي؟
لم تكن إريتريا لتصلَ إلى هذا التشبيه والمرتبة من دون إسياس أفورقي، حاكم البلاد القوي المستقر على عرشه منذ الانفصال عن إثيوبيا في 24 مايو/ أيار 1993، وتبدو لمساته واضحة في تصعيد الصدام على شبه الهضبة الإثيوبية، فهو الوحيد من كل جيرانه الذي يفهم جيدًا جوانب الثقافة الإثيوبية والشبكات المجتمعية وتحالفاتها وأهدافها، التي لا تتجاوز أحيانًا الأمل في البقاء على قيد الحياة حتى تقترب نهاية اللعبة.
ولدَ أفورقي عام 1945 لعائلة كبيرة في ما يُعرف الآن بإريتريا، وبعد عامَين فقط من التعليم الجامعي تركَ الدراسة للانضمام إلى الكفاح المسلح مع جبهة التحرير الإريترية، التي كانت تسعى إلى الاستقلال عن إثيوبيا.
ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يؤسِّس هو وعدد قليل من المقاتلين الآخرين مجموعة منشقة سُمّيت بـ”الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا”، وعُرفت الجبهة بأنها صاحبة رؤى تقدُّمية، وحظيت بدعم غالبية السكان الإريتريين في غضون عقد من الزمان، ولمعَ نجم أفورقي سريعًا بعد أن جرى تعيينه نائبًا للأمين العام، وأصبح مسؤولًا عن توجيه معظم جوانب مهمة الجبهة.
في عام 1991 انتهى الصراع المسلح الذي دام 3 عقود مع إثيوبيا، عندما دخلت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا العاصمة أسمرة وأعلنت النصر، ليصبح أفورقي صاحب الأيديولوجيا الماركسية أول رئيس للحكومة المؤقتة الموكل إليها تجهيز البلاد للانتخابات، لكنه قبضَ على السلطة ونجح في إعلان تثبيته رسميًّا على العرش بإعلانه رئيسًا للبلاد عام 1993.
لعبَ الرئيس الجديد في تثبيت شعبيته على إسباغ فضل الانتصار العسكري والسياسي وتلخيصه في شخصه، ونجحَ في كسب ثقة الإريتريين بسبب توجُّهاته الاجتماعية، لكن لم يمضِ وقت طويل قبل أن تداهم الرجل أعراض الانفراد بالسلطة، حيث أمرَ بسجن المحاربين القدامى بسبب احتجاجهم على الظروف المعيشية الصعبة في الثكنات العسكرية.
أغلق أفورقي منظمة حقوق الإنسان المستقلة الوحيدة، كما أغلق جميع وكالات التنمية الدولية العاملة في البلاد، وأمرَ باعتقال 11 من كبار أعضاء إدارته -العديد منهم أقرب أصدقائه وزملائه الذين قاتلوا إلى جانبه لما يقارب 4 عقود- بتهمة “الخيانة المشتبه بها”، والتي وضع لها قانونًا يعاقب عليها بالإعدام.
اعتبر أفورقي كل دعوة للإصلاح الديمقراطي خيانة، وأُغلقت جميع الصحف الخاصة التي عارضته بتهمة “تهديد الأمن القومي”، وخرج يتحدى الجميع معلنًا أن الشعب الإريتري “ليس مستعدًّا” للديمقراطية التعددية، وأن الدستور يجب أن يتمَّ تأجيله إلى أجل غير مسمّى، وأكّد أنه لن تكون هناك انتخابات في المستقبل المنظور.
زعيم أمراء الحرب
كان من الطبيعي، بعد الاستغناء عن الديمقراطية، أن يقوم أفورقي بالتقارُب مع حركات النضال المسلح، مدعومًا بخبراته الطويلة في قيادة الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، وخلال العقود الماضية تقاربَ أفورقي بشدة من كل المجموعات العرقية المختلفة في المنطقة، لا سيما الجارة إثيوبيا.
تشعّبت علاقته معهم بعد أن نجح في تطوير ذهنية الحكم العرفي لديهم، وشجّعهم على بناء دول صغيرة على مقاس هويتهم، لإنهاء حلم الدولة الفيدرالية التي سعت إليها حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي الحالي آبي أحمد، دون أن يفهم آلية تطبيقها، فتورّطَ في عمليات عنف شديدة في إقليم تيغراي وغيره، ووضعَ نفسه في النهاية تحت رحمة الثعلب الإريتري الذي لا يريد في منطقة القرن دولةً أكبر منه أو تستطيع تجاوزه، مهما تظاهر بمساعدة آبي أحمد.
التشبُّه بكوريا الشمالية
هناك عدة أسباب لإطلاق اسم كوريا الشمالية على إريتريا؛ على مستوى السياسة الداخلية تقحم الحكومة الإريترية نفسها في حياة المواطنين بشكل مكثّف، فالدولة توفِّر كل سُبل الدعم للحياة وتدعم بناء عدالة اجتماعية تقلِّل الفوارق بين الطبقات، لكن مقابل ذلك تتدخّل في كل صغيرة وكبيرة بحياة مواطنيها.
وكما هو الحال مع أي دولة ديكتاتورية، لا تتوفر أي درجة من درجات الشفافية في الحكم، وحرية الصحافة شبه منعدمة، وتراقب الحكومة حركة الهاتف والإنترنت وتدير نظام مراقبة محلي متوحّش يحجب المعلومة عن أي شخص، وحرية السفر للخارج شبه منعدمة مثلما هو الحال في كوريا الشمالية.
تشتركُ إريتريا وكوريا الشمالية في التركيز على بناء جيش جرار، فرغم عدد السكان القليل نسبيًّا في إريتريا -حوالي 6 ملايين شخص- إلا أنها تملك جيشًا ضخمًا.
إريتريا أيضًا دولة معزولة بالعقوبات الدولية التي تتزايد عليها سنويًّا بسبب تصرفاتها الاستبداية، وحاليًّا تتّهمُها أمريكا والغرب بالضلوع والمساهمة في تعقُّد الأزمة الإنسانية لإقليم تيغراي الإثيوبي.
وجرى فرض عقوبات إضافية عليها قبل أيام، حيث يشارك أفورقي في قمع الإقليم الإثيوبي المتمرد باعتراف آبي أحمد، ليس حبًّا في رئيس الوزراء بل انتقامًا من معارضيه، وفق تقارير دولية تؤكد أن تدخل الرجل في تيغراي لم يكن مرهونًا بالحاجة إلى إشعال حرب أهلية داخلية.
دبّر الرئيس الإريتري خلال السنوات الماضية عددًا هائلًا من عمليات قتل واختطاف اللاجئين الإريتريين الذي فرّوا إلى بعض الأقاليم المجاورة، وخاصة تيغراي الذي أقامَ على فترات متقاربة نحو 4 مخيمات للفارّين من إريتريا فقط، بحسب المفوض السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي.
تشترك أيضًا إريتريا وكوريا الشمالية في التركيز على بناء جيش جرار، فرغم عدد السكان القليل نسبيًّا في إريتريا -حوالي 6 ملايين شخص- إلا أنها تملك جيشًا ضخمًا يزيد عن 200 ألف جندي، وتستلهم الأولى من الثانية عقيدتها العسكرية والتوسُّع في إلحاق المواطنين بالخدمات الإلزامية.
وبعض المواطنين، حسب حاجة الجيش إليهم، لا يتم إعفاؤهم من الخدمة لسنوات متّصلة، حيث لا يقتصر دور الجنود على الدفاع فحسب بل يعملون أيضًا في مواقع البناء والعديد من مجالات الحياة المدنية الأخرى، ولهذا فرَّ على مدى العقدَين الماضيَين أكثر من نصف مليون إريتري من وطنهم، رغبة في العيش بعيدًا عن أكثر الديكتاتوريات وحشية وسرّية في العالم.
السياسة الخارجية للكوريتَين
واحد من أهم أسباب إطلاق اسم كوريا الشمالية في أفريقيا على إريتريا، الافتقار إلى المهارة الدبلوماسة، والنزعة العنيفة المشتركة بين خصائص الحكم في البلدَين، فالنشأة والتكوين السياسي والثوري لإسياس أفورقي يفقده أي قدرة على الإقناع، وهي سمة الحركات المسلحة دائمًا، لهذا يتقارب الرئيس الإريتري بشكل أفضل مع القادة الذين يشاركونه الخصائص نفسها، سواء كانوا زعماء دول أم تنظيمات وميليشيات عسكرية.
يؤمن نظام الحكم الإريتري بأولوية العنف كوسيلة لتحقيق التغيير السياسي، ويسعى أفورقي إلى جعل بلده نموذجًا في التعامل مع العلاقات السياسية بالقوة، حيث يستعيد الرجل خبرة القرن التاسع عشر وجذور القومية العسكرية الحديثة ويعتبرها الأفضل على جميع المستويات.
الفكر الانفصالي عند أفورقي
يؤمن الرئيس الإرتيري بأهمية مساعدة الحركات الانفصالية وخاصة في بلدان القرن الأفريقي والشرق الأوسط، ويقدِّم الخبرة وكل شيء يُطلَب منه لتأمين استمرار حركات الكفاح المسلح في هذه المنطقة، والغريب أنه يتأسّى دائمًا بالإثيوبيين حين يتمّ انتقاده داخليًّا وخارجيًّا، لمساعدته في تدمير البلدان بعلاقاته مع الحركات المسلحة.
يتولى النظام الإريتري أيضًا تدريب أشهر المتمردين الأفارقة، ويحتفظ في المقابل بعلاقات سيّئة للغاية مع المنظمات الدولية.
يستشهد أفورقي دائمًا بالدعم الخارجي الذي تلقّاه الإريتريون من الإثيوبيين أنفسهم، حيث أقامَ القوميون تحالفات متعددة الطبقات مع المتمردين الإثيوبيين، في محاولة لتغيير ميزان القوى لصالحهم وليهزم الإريتريون وحلفاؤهم الإثيوبيون القواتَ الحكومية، واعترفَ المتمردون في إثيوبيا بحقّ الإريتريين في تقرير المصير.
على هذه الأوزان يدعم أفورقي المتمردين في الصومال، والحركات المسلحة في السودان، وأدّى ذلك إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلديَن، واستمرت القطيعة طيلة 10 سنوات، وكذلك جيبوتي واليمن التي يشارك في الحملة العسكرية الخليجية عليها الآن.
يتولى النظام الإريتري أيضًا تدريب أشهر المتمردين الأفارقة، ويحتفظ في المقابل بعلاقات سيّئة للغاية مع المنظمات الدولية سواء الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أم الاتحاد الأفريقي، ولكن لا يشكّل هذا فرقًا له، فالدرس الأساسي من تجربة أفورقي لكل متمرد طامح في السلطة، هو كيف ينجح في إقناع الجميع أن يدعه يفعل ما يشاء حتى تكتمل قوته، ثم يفرض عليهم ما يريد.