كان الرئيس التونسي قيس سعيّد خلال خطاباته الأخيرة، عقب انقلاب 25 يوليو/ تموز، يشدّد دائمًا على أنه لا مساس بالحقوق والحريات في البلاد، وأنه حريص على المسار الديمقراطي، ولكن الوقائع على الميدان كانت دائمًا مغايرة لما يتمُّ الترويج له في الخطاب الرسمي.
فمنذ إقرار الإجراءات الاستثنائية، ثم تعليق العمل بجزء مهم من دستور البلاد وفق المرسوم الرئاسي 117، بدأت ملامح الدولة البوليسية بالعودة من جديد إلى الساحة السياسية والحقوقية؛ فحتى رابطة حقوق الإنسان التي طمأن سعيّد مسؤوليها منذ 25 يوليو/ تموز، بدأت تعبّر عن مخاوف حقيقية من تراجع مستوى الحقوق والحريات بالبلاد عبر عدة وسائل، لتصفية حسابات سياسية انتقائية، واعتماد الحل الأمني مع الرافضين، وكتم حرية الإعلام، والتضييق على المتظاهرين.
محاسبة انتقائية
كما كان متوقعًا، استغلت بعض الجهات النافذة في البلاد، وبعض النقابات الأمنية بالخصوص، الوضع الجديد من أجل تصفية حساباتها مع خصومها، لا سيما من المحامين والسياسيين، فكانت المداهمات الأمنية منذ البداية ضد بعض نواب البرلمان التي تعلّقت بهم “شبهات” مخالفة تمامًا للقوانين، أو لأبسط مبادئ حقوق الإنسان.
كان هذا الحال خلال مداهمة منزل النائب ياسين العيّاري واعتقاله في أولى أيام الانقلاب، حيث كانت عملية الاعتقال عنيفة وتمَّ دفع والدته المسنّة والمريضة، ورفضَ الأمنيون إعلامه بمكان اقتياده إلى أن وصلوا به مباشرة إلى السجن.
كما رفضت إدارة السجن تمكينه من العلاج وبعض الضمانات الصحية، وتمَّ تصويره في غرفة نومه وغيرها من التجاوزات حسب رواية النائب نفسه، الذي أمضى حكمًا عسكريًّا بشهرَين نافذَين، ناهيك عن ارتفاع حالات المدنيين الذين يتم محاكمتهم بالقضاء العسكري.
هذا إلى جانب المداهمات الأمنية لمنازل نواب أعضاء ائتلاف الكرامة وما رافقها من تجاوزات أيضًا، وفق روايات نواب الائتلاف وبعض المنظمات الحقوقية، منها “مرصد الحقوق والحريات بتونس”، ومداهمات أخرى لمنازل مقرّبين من النواب المطلوبين.
كتم الأصوات
أما على صعيد حرية الإعلام والصحافة، فكانت أولى إجراءات سلطات الانقلاب إيقاف بثّ قناة “الجزيرة” بتونس بعد مداهمة أمنية، وإغلاق مقرّها وسط العاصمة دون تبريرات واضحة.
وعقب ذلك في الآونة الأخيرة أُغلقت مقرّات كل من قناة “الزيتونة” وقناة “حنبعل” المحسوبتَين على حركة النهضة، وقناة “نسمة” المحسوبة على نبيل القروي، الذي غادر البلاد نحو الجزائر رفقة أخيه النائب غازي القروي ثم لإسبانيا بشكل سرّي، وحزبه قلب تونس.
إلى جانب إيقاف شركة خاصة للإنتاج واعتقال صحفية عاملة بها هي شذى مبارك، وكذلك الإعلامي عامر عياد بسبب برنامج تلفزيوني على قناة “الزيتونة”.
كل تلك التجاوزات كانت تجري تحت أعين مراقبين في الداخل والخارج، حيث أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا مفصّلًا مؤخّرًا عن تراجع وضعية الحقوق والحريات في تونس، وتنامي التضييقات التي شملت أيضًا صحفيين وإعلاميين.
ويُذكر إجراءات الإقامة الجبرية التي فرضها الرئيس سعيّد على عدد من الشخصيات السياسية والعامة في البلاد، أبرزهم عميد المحامين السابق شوقي طبيب، وبعض الوزراء السابقين منهم أنور معروف، ما أثار موجة من الاستياء لدى الأوساط العامة والحقوقية في البلاد، ما أجبرَ السلطات بعد ذلك على رفع هذا الإجراء السياسي الذي لا يستند إلى أية مسوّغات قانونية أو أحكام قضائية.
حلٌّ أمني
كل ذلك إلى جانب منع المئات من السفر لأكثر من شهرَين وبصفة اعتباطية ودون أدنى تبرير، منهم العديد من رجال الأعمال والنواب والسياسيين، إلا أنه تمَّ رفعه لاحقًا.
كذلك ما وقع قبل أيام في الجنوب التونسي، وتحديدًا في جهة عقارب التابعة لولاية صفاقس، من تدخل أمني فظّ وعنيف ضد أهالي المنطقة، الذين خرجوا محتجّين على إعادة فتح مكبّ النفايات بجهتهم، ما أدّى إلى سقوط حالة وفاة وعشرات المصابين جراء الغازات التي تمَّ إطلاقها على الرافضين للقرار.
لم يتوقف شريط الانتهاكات الحقوقية عند هذا الحدّ، بل وصل مؤخّرًا إلى منع المواطنين من التنقل في البلاد بين المدن والالتحاق بالعاصمة، الأحد الماضي، للمشاركة في وقفة احتجاجية يوم 14 نوفمبر/ تشرين الثاني دعت إليها مجموعة “مواطنون ضد الانقلاب” أمام مجلس نواب الشعب، الذي تمَّ إغلاقه منذ أول أيام الانقلاب.
أثار ذلك موجة استياء كبيرة في الأوساط السياسية المعارضة، حيث اعتبرها العديد ضربًا لما تبقّى من الدستور، وبالتحديد البابَين الأول والثاني، اللذين أكّد سابقًا قيس سعيّد أنه لا مساس بهما في الدستور، وبالتالي لا مساس بالحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان في البلاد.
التضييق على المتظاهرين
هذا إضافة إلى المضايقات بحقّ منظّمي الوقفة الاحتجاجية التي تجاوزت العنف اللفظي، لتصلَ حد العنف المادي ضد أحد المحامين، قام بإيداع الإعلام الخاص بالتظاهرة للسلطات بمقرّ وزارة الداخلية.
إلى جانب منع مجموعة “مواطنون ضد الانقلاب” من إجراء ندوة صحفية بداية الأسبوع الماضي، ما اضطرهم إلى القيام بها في الشارع العام.
في المقابل، يمكن حقيقة تسجيل الكثير من التجاوزات الخطيرة التي تثير الانشغال، كأن يتم منع المحتجين من التجمع في مكان واحد وتفريقهم بالحواجز الحديدية، أو حصرهم والتضييق عليهم كما يحدث في مظاهرات شارع الحبيب بورقيبة، أو قطع الطرق من الولايات للحلول دون وصولهم إلى العاصمة.
كل هذا يقيم الحجّة على أن سلطة الانقلاب في تونس بدأت تقلِّص من مستوى الحريات التي كانت تعيشها تونس قبل تاريخ 25 يوليو/ تموز، رغم بعض التحفُّظات التي قد تحدث حتى في أعرق الديمقراطيات.
وفي المحصّلة لا شك أن تونس التي عاشت الـ 10 سنوات الماضية في مناخ من الحريات، باتت مضرب المثل كتجربة رائدة في محيطها، وكديمقراطية فتية طالبت دول كبرى كالولايات المتحدة بدعم تجربتها، فكانت تحتل المراتب الأولى عربيًّا في حرية الصحافة والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وأظهرت مدى تأقلم وانسجام “الإسلاميين” فيها مع الواقع التونسي الحديث، بشهادة الرئيس السابق الباجي قايد السبسي، رغم محاولات الإغراء باعترافه وبعض السياسيين بقلب الطاولة عليهم.
لكن قبول البعض اليوم بمقتضيات مرحلة تونس ما بعد 25 تموز/ يوليو، لا يعني حتمًا التفريط بمرحلة ما بعد 14 يناير/ كانون ثاني 2011، بعد ثورة أعادت للتونسيين وكل العرب الأمل في الحرية والتحرّر والسير نحو بناء دولة مدنية راسخة وديمقراطية، لا سيادة فيها لغير القانون والمؤسسات، لا الأشخاص والعائلات، ومقاومة الفساد المطلب الكبير لثورة الحرية والكرامة، وهو العنوان نفسه الذي جاء به الانقلاب الدستوري.