وصول العديد من المهاجرين إلى بيلاروسيا من الشرق الأوسط وأفغانستان وبأعداد أقل من القارة الإفريقية، في محاولة منهم لبلوغ أراضي بلدان الاتحاد الأوروبي، أعاد ملف الهجرة غير الشرعية إلى واجهة الأحداث العالمية لكن من منظور مكافحة هذه الظاهرة على مستوى بلدان الوصول لا بلدان المنشأ، بما يعني استمرار اعتماد المقاربة الأمنية التي لا تراعي المعطى الإنساني والتهديدات المحيطة بتلك الفئة الفارة من جحيم الفقر والحروب.
أزمة بيلاروسيا
مع وجود عدة آلاف من المهاجرين الذين تقطعت بهم السبل في شرق أوروبا، قرر الاتحاد الأوروبي توسيع العقوبات المفروضة على بيلاروسيا لتشمل شركات طيران ومسؤولين وراء موجة المهاجرين على الحدود مع بولندا، فيما أكدت الأخيرة أن قواتها مستعدة لأي سيناريو.
وتعني خطوة التكتل التي جاءت ردًا على الأزمة الجارية عند الحدود البولندية البيلاروسية أنه يمكن إدراج الشركات، وهي الخطوط الجوية التي تنقل الأشخاص الطامحين للحصول على اللجوء، من الآن فصاعد على القائمة السوداء وبالتالي لا يمكنها القيام بأعمال مع شركات الاتحاد الأوروبي.
بالتوازي مع ذلك، تجمعت حشود المهاجرين عند معبر حدودي مغلق بين بولندا وبيلاروسيا، وفق ما أظهرت مقاطع فيديو نشرها حرس الحدود، وقالت وزارة الدفاع البولندية على تويتر: “ترسل القوات البيلاروسية أعدادًا متزايدة من المهاجرين إلى معبر كوزنيكا الحدودي”، مرفقة تغريدتها بمقاطع فيديو تظهر مئات المهاجرين أمام عناصر من الشرطة والجنود البولنديين.
بولندا أشارت إلى أن ما بين ثلاثة وأربعة آلاف مهاجر، معظمهم من الشرق الأوسط، يخيّمون حاليًّا على طول الحدود، في أزمة حرضت دول غربية على بيلاروسيا وحليفتها روسيا، رغم نفيهما المتكرر لاتهامات الوقوف وراء الرحلات المنظمة للمهاجرين، وهو ما دعا الناقلة الوطنية لبيلاروسيا “بيلافيا” لإعلان منع المسافرين السوريين والعراقيين واليمنيين والأفغان من الصعود على متن رحلاتها القادمة من الإمارات بطلب من الأخيرة.
عودة اللاجئين
مؤخرًا، كشف نائب وزير الخارجية البولندي باويل جابلونسكي أن بلاده تجري مباحثات موسعة مع المسؤولين الأوروبيين إضافة للعراق بشأن بدء فوري للرحلات الجوية لإعادة المهاجرين الذين عبروا الحدود من بيلاروسيا إلى أوطانهم في الشرق الأوسط.
ونقلت وكالة بلومبرج للأنباء عنه قوله: “بولندا تسعى لتعزيز الضغط وفرض مزيد من العقوبات على بيلاروسيا لبدء مثل هذه الرحلات الجوية من مينسك”، مضيفًا “ليتوانيا بدأت تسيير مثل هذه الرحلات الجوية، وإغلاق جميع الحدود بين بولندا وبيلاروسيا أحد السيناريوهات المطروحة في حال لم يكن الضغط الحاليّ كافيًا”.
في سياق متصل، أعلن العراق نيته تنظيم رحلة طيران لإعادة مواطنيه العالقين على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا وكانوا يأملون في العبور إلى الاتحاد الأوروبي، وقال المتحدث باسم الخارجية أحمد الصحاف، إن بلاده ستسيّر “رحلة أولى للراغبين بالعودة الطوعية من بيلاروسيا يوم 18 من الشهر الحاليّ”.
DIRECT ? Crise des migrants en Biélorussie : des Irakiens “volontaires” vont être rapatriés jeudi à Bagdad
Suivez le live ⤵https://t.co/tGrPglXh4E pic.twitter.com/jNhEQejVtw
— franceinfo (@franceinfo) November 15, 2021
غير بعيد عن ذلك، أعلن الكرملين أن روسيا مستعدة للوساطة في أزمة اللاجئين بين حليفتها الوثيقة بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي، موضحًا أن موسكو تقوم فعليًا بذلك إلى حد ما، نافيًا أي دور لروسيا في أزمة المهاجرين الحاليّة.
أوضاع مأساوية
في الوقت الذي يتفاوض فيه الأوروبيون لمكافحة تدفق الوافدين الجدد الساعين لبلوغ المجال الغربي للتكتل، يُعاني المهاجرون العالقون على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا من ظروف إنسانية صعبة، وسط حالة من الترقب لما ستؤول إليه المفاوضات.
إلى الآن، يصعب التحقق من أوضاع المهاجرين على الحدود خاصة في ظل محدودية التغطية الإعلامية، ومن مقاطع الفيديو بشكل مستقل، لأن بولندا حظرت دخول الصحافيين إلى تلك المناطق بموجب قواعد حالة الطوارئ التي فرضت كجزء من الجهود المبذولة لمنع وصول المهاجرين.
الصور القادمة من الحدود البلاروسية البولندية على قلتها تُظهر المهاجرين وهم يقيمون في الخيام هربًا من درجات الحرارة المتدنية التي أدت لوفاة عدد منهم، فيما أشارت تقارير إعلامية دولية إلى أن المهاجرين يواجهون كارثة إنسانية بسبب نقص الطعام والشراب، وأن عددًا كبيرًا من الأطفال والنساء يبيتون في العراء ولا يجدون ما ينامون عليه في درجة حرارة منخفضة تصل إلى 2 تحت الصفر.
معاناة المهاجرين مع الظروف المأساوية، تفاقمت مع إقدام القوات البولندية على ترويع العائلات المهاجرة وإطلاق الغاز المسيل للدموع واستعمال خراطيم المياه وضرب الأطفال، إضافة إلى المعاملة السيئة من فيالق الحرس خلال محاولة اجتيازهم الحدود.
هذه الأوضاع دفعت منظمة الصحة العالمية، لإعلان “قلقها البالغ” حيال الوضع الصحي لآلاف المهاجرين العالقين بين بيلاروسيا وجارتها بولندا في ظل خلاف حدودي بين البلدين، فقد دعا المدير الإقليمي في المنظمة الدولية لمنطقة أوروبا، هانس كلوغه، جميع الدول إلى “حماية حق الصحة للاجئين والمهاجرين عند الحدود البيلاروسية، الذين يحتاج العديد منهم إلى مساعدة طبية”، مؤكدًا “برودة الطقس والظروف المعيشية الصعبة ونقص الغذاء والتدفئة تزيد من تعقيد وضع هؤلاء البشر”.
Biélorussie. L’OMS s’inquiète pour la santé des migrants à la frontière avec les pays de l’UE https://t.co/LgkoCUyXWo
— Ouest-France (@OuestFrance) November 12, 2021
مسالك الهجرة
بعد قوارب الموت التي تنطلق من ليبيا وتونس إلى أوروبا، بات الطريق الشرقي عبر البحر المتوسط من أكثر الطرق التي يسلكها المهاجرون للوصول إلى القارة العجوز، وتأتي أعداد هائلة من هؤلاء من دول مزقتها النزاعات وأعمال العنف وأثقلتها الأزمات الاقتصادية ومنها أفغانستان والعراق وسوريا إلى جانب دول أخرى من إفريقيا.
خلال رحلات الموت هذه، يقطع المهاجرون عادة مسالك مختلفة وطرقًا متنوعةً بين السير مئات الكيلومترات على الأقدام في شكل مجموعات صغيرة، معرضين أنفسهم وأسرهم إلى الخطر والمشقة، أو التكدس داخل سيارات التهريب.
في رصد لـ”نون بوست” لمسالك الهجرة غير الشرعية، يوجد حاليًّا أكثر من طريق يعتمده المهاجرون لبلوغ أراضي الاتحاد الأوروبي من بينها الجوازات المزورة وتسلق الجدران الحدودية (المغرب وإسبانيا) والتسلل من الأنفاق (المكسيك وأمريكا) لكن يبقى أهمها:
قوارب الموت: يُغامر المهاجرون بعبور المتوسط في قوارب مطاطية أو سفن صغيرة متهالكة (شقف)، معرضين أنفسهم وأحيانًا أطفالهم ونسائهم للهلاك، ويمر الطريق البحري الرئيسي إلى أوروبا عبر المتوسط من ليبيا بشكل خاص، وذلك بسبب الفراغ الأمني والسياسي في بوابة المتوسط الجنوبية خاصة منذ عام 2011.
The majority of migrants arrived in Italy in 2021 departed from #Libya,where many face terrible abuses
Those intercepted at sea by the Libyan Coast Guard and returned to Libya have been 28636,sent back to a place where they can become once again victims of human rights violations pic.twitter.com/x1uTILq7ci
— OIM Italia (@OIMItalia) November 11, 2021
من هذه البوابة يحاول آلاف الأفارقة العبور إلى أوروبا عبر إيطاليا، وهي طريق ثانية موازية لتلك التي تمر عبر سواحل تونس إلى جزيرة لامبيدوزا، وفي الغالب يكون معظم المهاجرين مواطنين محليين.
في شمال غرب القارة الإفريقية، يتجه المهاجرون المغاربة إلى السواحل الإسبانية انطلاقًا من سواحل سبتة، أمّا إلى الغرب من منطقة جبل طارق، فيمر طريق الهجرة بالمحيط الأطلسي، وأحدها قصير يبدأ من إقليم الصحراء الغربية باتجاه جزر الكناري الإسبانية، والآخر ينطلق أصحابه من سواحل غرب القارة الإفريقية نحو الهدف ذاته.
What is behind the Spain-Morroco migrant dispute? pic.twitter.com/johsyH6ZGF
— TRT World (@trtworld) May 21, 2021
المهاجرون يغامرون أيضًا للوصول إلى اليونان عبر بحر إيجة وأيضًا إلى قبرص، وينطلقون في الغالب من السواحل التركية التي يصلونها برًا بعد قدومهم في رحلات جوّية من بلدان مختلفة، وذلك لأن أنقرة لا تشترط الحصول على تأشيرة لدخول أراضيها.
طرق برية: تحولت دول مثل اليونان وبلغاريا المجاورتين لتركيا وكرواتيا التي يحاول اللاجئون العبور من خلالها إلى قلب أوروبا، إلى مناطق تجميع عازلة، والأمر ذاته يسري على البوسنة والهرسك وصربيا، وهي محطات يُطلق عليها دول “الترانزيت”.
في هذا الاتجاه، تقع بلغاريا مثلًا على أحد المسالك الرئيسية التي يستخدمها المهاجرون ومهربو البشر للوصول إلى أوروبا من الشرق الأوسط وأفغانستان، وفي عامي 2013 و2018 أقامت سياجًا من الأسلاك الشائكة على طول حدودها مع تركيا التي تمتد على طول 260 كيلومترًا، لكن نقص الصيانة أدى إلى ثغرات جعلت الحدود غير مغلقة تمامًا.
من المعلوم أيضًا أن مئات الأشخاص الوافدين من الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، يتخذون من المناطق الصربية المتاخمة لحدود المجر ورومانيا، مقرًا لهم إلى حين توافر الفرصة الوصول إلى أوروبا الغربية عبر رومانيا.
وفي عام 2015، اختار معظم المهاجرين الذين عبروا إلى أوروبا التنقل عبر منطقة البلقان مباشرة من صربيا إلى المجر، وذلك بعد أن أصبحت الحدود إلى كرواتيا والمجر تخضع لرقابة مشددة ومحصنة بالأسلاك الشائكة وغير قابلة للاختراق، وبالتالي فإن رومانيا الخيار أفضل.
The EU frontier, the double-fenced border between Hungary and Serbia. This is where the road ends for a lot of refugees and migrants. pic.twitter.com/Wd4ZZ2jGhP
— Alastair Jamieson (@alastairjam) April 21, 2018
في الآونة الأخيرة، ظهر طريق جديد للهجرة إلى أوروبا عبر بيلاروسيا، حيث يصل مهاجرون من دول آسيوية وإفريقية عبر رحلات جوية منظمة تنطلق من العراق وتركيا والإمارات، في محاولة للعبور إلى ليتوانيا المجاورة أو بولندا.
الرحلة للفرد الواحد قد تصل إلى ما بين 4 و5 آلاف دولار، تشمل تأشيرة الدخول إلى بيلاروسيا والطيران والفندق ومصاريف الطعام، فيما تكلف رحلة الطيران وحدها 3 آلاف و500 دولار شاملة محطة انتظار بأحد الفنادق لمدة 3 أيام وحتى الوصول إلى بيلاروسيا، وكل ذلك عن طريق سماسرة.
قصة ناجٍ
في مسار بحث “نون بوست” بشأن أزمة المهاجرين الحاليّة في بيلاروسيا، أكد أحد الواصلين إلى أوروبا وبالتحديد إلى إيطاليا، أن الطريق الجديدة التي تمر عبر أوروبا الشرقية أكثر خطورة من المسالك التقليدية الأخرى، على اعتبار أن المهاجر يمر عبر طرقات وممرات عبور وعرة ومغامرات لا تنتهي في غالب الأحيان بوصوله إلى محطته النهائية.
التونسي محمد علي الغزواني (حارق) أكد في حديث لـ”نون بوست” أن التهديدات التي تواجه المهاجر غير الشرعي تبدأ من نقطة انطلاقه، فقبل الرحلات المنظمة إلى بيلاروسيا، كان على المهاجرين الوصول إلى أي دولة واقعة في شرق أوروبا لا تشترط التأشيرة من تركيا، أين يجد المهاجرون أنفسهم أمام خيارين لبلوغ اليونان فإما سلك طريق إدرنة البري وقطع الوادي الصغير عند تغيير الحراسة الحدودية وإما عن طريق إزمير وهو أشد خطورة.
في حال تجاوز المهاجرون تلك الحدود يتعين عليهم السير على الأقدام ليومين أو أكثر للوصول إلى منطقة (alexandroupolis) وهي مركز لتجمع اللاجئين والمهاجرين، ثم التوجه إلى (thesaloniki) ومنها إلى أثينا وهناك عليهم شراء جواز سفر مزور حال رغبوا في التوجه مباشرة إلى أوروبا، لكنه بات خيارًا صعبًا بعد تشديد الإجراءات، أو التوجه مجددًا إلى الحدود.
عادة ما يتوجه المهاجرون، وفق شهادة الغزواني، إلى الحدود اليونانية المقدونية وهي طريق خطرة للغاية، ففي حال تم التفطن إليهم فإنه سيتعرضون إلى أشكال وألوان من التعذيب والعنصرية (ضرب وافتكاك أموال) من حرس الحدود المقدوني.
يكشف محدثنا الذي نجح في تجاوز الحدود المقدونية رفقة مهاجرين من اليمن والصومال وسوريا والجزائر والعراق ومنهم نساء ورجال وأطفال، أن الرحلة كانت محطات موت مؤجل، فبعد الوصول إلى العاصمة (Skopje) يتعين عليهم التواصل مع المهربين لإيصالهم إلى الحدود مع صربيا من أجل بلوغ محطة القطار في منطقة (binaçko).
في صربيا يتعرض المهاجرون إلى أشكال من العذابات فبالإضافة إلى الجوع والبرد ونقص الأموال، يُواجهون العنصرية والعداء من رجال الشرطة وحرس الحدود إضافة إلى السكان المحليين، لذلك يتعين عليهم عدم المكوث طويلًا فيها، والتوجه سريعًا من بلغراد إلى المجر ومنها إلى المنطقة الحدودية (subotica) أو إلى رومانيا عند منطقة (timisoara) ومنها إلى النمسا الدولة التابعة للاتحاد الأوروبي.
يؤكد الغزواني الذي قضى أكثر من 6 أشهر في أوروبا الشرقية لبلوغ إحدى دول التكتل أنه عايش فظاعات وقصص مروعة من معاناة اللاجئين الذين تقطعت بهم السبل، فمنهم من عاد قسرًا إلى بلده ومنهم من توفاه الأجل في الغابات والوديان ومنهن من فقدت ابنها في أثناء هروبها من دوريات حرس الحدود، وآخرون فقدوا ولم يعثر على أثر لهم إلى اليوم.
الأزمة الأخيرة على الحدود البيلاروسية البولندية كشفت ادعاءات الاتحاد الأوروبي الزائفة باهتمامه بحقوق الإنسان وبالوافدين الفارين من أتون الحرب والأزمات بأنواعها، وهي في المجمل خطابات سياسية لا تنسجم مع الواقع والصور القادمة من تلك المناطق، حيث يتجاهل التكتل معاناة اللاجئين والإساءة التي يتعرضون إليها من حرس الحدود، ما يعني تنصله من واجباته المتمثلة في توفير الحماية والحفاظ على كرامة آلاف الأشخاص وعائلاتهم.