في إحدى ليالي شتاء نوفمبر/ تشرين الثاني 1914، تلقّت القوات الفرنسية المستعمِرة للمغرب هزيمة مدوية على أيدي قبائل زيان التي استطاعت أن تفرض أسلوبًا قتاليًّا مغايرًا تمامًا لما عرفه المستعمر الفرنسي، الأمر الذي أفقدهم توازنهم في ساعات معدودة، ليتساقطوا واحدًا تلو الآخر على أيدي المقاتلين العرب بقيادة محمد بن حمو الزياني الشهير بـ”حمو”.
وعُرفت تلك المعركة حامية الوطيس باسم “معركة الهري”، نسبةً إلى أرض الهري جنوب مدينة خنيفرة بمنطقة الأطلس المتوسط المغربية، ويعتبرها المؤرِّخون أول هزيمة تتكبّدها القوات الفرنسية في مستعمراتها في القارة الأفريقية، فيما وصفها جنرالات فرنسا بأنها هزيمة مفجعة لم تُمنَ الدولة الأوروبية بمثلها قط في شمال القارة السمراء.
ورغم مرور قرابة 106 أعوام على تلك المعركة إلا أنها لا تزال خالدة في ذاكرة المغاربة، إذ تشكّل مدرسةً للوطنية للعديد من الأجيال، صغارًا وكبارًا، كونها تجسيدًا تاريخيًّا لبطولة الشعب العربي وقدرته على دحض المستعمر، بجانب أنها تعدّ أول مسمار في نعش الاستعمار الفرنسي الغاشم للقارة الأفريقية، والذي دام لعقود طويلة دفعت فيها شعوب القارة عشرات الآلاف من حياة أبنائها ومقدراتهم الاقتصادية ثمنًا للاستقلال.. فماذا نعرف عن تلك المعركة؟
أطماع فرنسية
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في يوليو/ تموز 1914، تصاعدت أطماع المستعمر الفرنسي في إحكام السيطرة على الأطلس المتوسط وبلاد المغرب العربي كإحدى الاستراتيجيات الهامة لمحاربة دول المحور بزعامة ألمانيا، كون أن تلك البقعة الساحرة تمتلك أهمية استراتيجية بالغة الخطورة، بصفتها الممرّ الذي يفصل الشمال عن الجنوب والشرق عن الغرب، وأن احتلاله سيرجّح كفة المحور الفرنسي في الحرب.
كان الفرنسيون يوقنون أن ترك الأطلس دون احتلال ربما يهدِّد وجودهم بالجزائر والمناطق المتاخمة لحدودها، وبعض مدن المغرب الشرقي الجنوبي، خاصة في وجدة، ومن ثم بدأ التفكير في شنّ حملة عسكرية كبرى لإخضاع تلك المنطقة الجبلية للسيطرة الفرنسية خوفًا ممّا قد تسبّبه من مفاجآت غير سعيدة للفرنسيين.
كان الاقتصاد حاضرًا وبقوة وراء مساعي فرنسا لاحتلال الأطلس، كونه منبعًا للأنهار والمصبّات الثلجية التي تتحول إلى مجاري مياه تعزز من الفرص الزراعية بجانب إنشاء السدود وتوليد الكهرباء.
بُعد عسكري آخر وراء إقدام الجيش الفرنسي على احتلال الأطلس، يتعلق بمحاولة كسر شوكة المقاومة المغربية التي بدأت بتصعيد عملياتها ضد التواجد الفرنسي في تلك الأثناء، إذ إن معظم فصائل المقاومة كانت تحتمي بجبال الأطلس خاصة مقاتلي قبائل زيان، إحدى كبريات قبائل المقاومة المغربية في ذلك الوقت.
كان الاقتصاد هو الآخر حاضرًا وبقوة وراء مساعي فرنسا لاحتلال الأطلس، كونه منبعًا للأنهار والمصبّات الثلجية التي تتحول إلى مجاري مياه تعزِّز من الفرص الزراعية بجانب إنشاء السدود وتوليد الكهرباء، ومن أشهر الأنهار المتواجدة في تلك الجبال نهر أم الربيع ونهر ملوية ووادي العبيد.
وقد لخّص الجنرال الفرنسي ليوطي دوافع احتلال بلاده لجبال الأطلس خلال تصريحاته التي أدلى بها في 2 مايو/ أيار 1914، حين قال: “إن بلاد زيان تصلح كسند لكل العصاة بالمغرب الأوسط، وأن إصرار هذه المجموعة الهامة في قلب منطقة احتلالنا وعلاقتها المستمرة مع القبائل الخاضعة هو خطر فعلي على وجودنا. فالعصاة والمتمردون والقراصنة مطمئنّون لوجود ملجأ وعتاد وموارد، وقربها من خطوط محطات الجيش ومناطق الاستغلال جعل منها تهديدًا دائمًا بالنسبة إلى مواقعنا، فكان من الواجب أن يكون هدف سياستنا هو إبعاد الزيانيين الساكنين بالضفة اليمنى لأم الربيع”.
انتصار فرنسي وهمي
في ليلة 12 يونيو/ حزيران من العام نفسه، جهّز الفرنسيون جيشًا قوامه 30 ألف مقاتل، بقيادة الكولونيل هنريس سيّئ السمعة، وشنّوا هجومًا شرسًا على مدينة خنيفرة الأطلسية، وكان الفارق الهائل في الإمكانات والقدرات لصالح الفرنسيين الذين نجحوا بداية الأمر في تحقيق انتصار مبدئي.
غير أن المعركة لم تكن نزهة كما كان يتوقع قادة الجيش الفرنسي، حيث أبلت المقاومة بلاء حسنًا، كبّدت خلالها صفوف المستعمر خسائر بشرية ومادية كبيرة، لكن المواجهة المفتوحة في ظل الفارق في الإمكانات لم يكن في صالح المغاربة، ما دفع المناضل حمو الزياني إلى الانسحاب تدريجيًّا والاحتماء بالجبال المجاورة للمدينة.
كان الانسحاب فرصة جيدة لالتقاط الأنفاس بالنسبة إلى المقاومين، حيث جمع الزياني قبائل الأطلس ودشّن معهم تحالفًا موسّعًا وبدأت مرحلة التدريب على فنون القتال المختلفة، مستخدمين في ذلك العديد من الأسلحة المتاحة، واستطاع القائد الفذّ تكوين جيش قوي مدرَّب، قادر بنسبة كبيرة على الصمود والمواجهة.
المعركة بداية الأمر كانت مغرية للفرنسيين، فالصمود الذي أبلاه المقاومون لم يقنع الجيش الفرنسي بالانسحاب إلى مواقعه أو التوقف عن الزحف.
وكعادتهم في معظم الدول التي استعمروها، حاول الفرنسيون استمالة الزياني وكبار قادة المقاومة بالإغراءات المادية والوعود الزائفة في محاولة لتفتيت اللحمة الوطنية، وبث روح الفتنة، لكن سرعان ما عاد الكولونيل هنريس بخفي حنين، حيث فوجئ بثبات غير مسبوق، وإصرار كامل على المقاومة حتى تحرير البلاد من الاستعمار الوحشي.. وهنا كان رد الفعل الانتقامي.
باغت الكولونيل وفرقته المدجَّجة بكافة أنواع الأسلحة المقاومين داخل مخيماتهم الجبلية، فجر 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1914، بعد أن أبادوا الأطفال والشيوخ والنساء في القرى المجاورة، وحرقوا المنازل وهدموا البيوت، ومارسوا كافة أنواع التعذيب والتنكيل بحق العرب العزّل، ثم بعد ذلك استولوا على الأغنام والأبقار وكافة الموارد الموجودة، كما خطفوا النساء والأطفال.
المعركة بداية الأمر كانت مغرية للفرنسيين، فالصمود الذي أبلاه المقاومون لم يقنع الجيش الفرنسي بالانسحاب إلى مواقعه أو التوقف عن الزحف، فيما كان الانسحاب التكتيكي للجبال رسالة طمأنة مكتملة الأركان للمستعمر الأوروبي الذي توهّم أن النصر حليفه، وأن الأمر ليس أكثر من ساعات محدودة ليخرج الزياني رافعًا رايته البيضاء مستسلمًا، بعدما أحيط بالمقاتلين الفرنسيين من 3 جهات.
نقطة التحول
تحولت منطقة الهري الجبلية إلى قطعة من الجحيم، بعدما تفحّمت جراء لهيب النار الذي شبَّ بها جرّاء هجمات الفرنسيين، في محاولة لوأد المقاومة من جذورها، لكنه الوهم الذي سرعان ما تبخّر على صخور النضال والصمود للمقاتلين المغاربة، الذين وضعوا نصب أعينهم تحرير قريتهم مقابل حياتهم.
وما هي إلا ساعات قليلة حتى تواصل الزياني مع شيوخ القبائل المغاربة الأطلسية، الذين لم يفكّروا ثانية واحدة في التحالف ودعم المقاومة، فانضمّت عشرات القبائل لصفوف المقاومة، أبرزها إشقرين وآيت نوح وآيت بويشي وآيت شارط وآيت بومزوغ وآيت خويا وآيت إحند وآيت يحيى وآيت سخمان وآيت إسحق تسكارت وآيت بوحدو والمرابطين.
وقد أعلنت تلك القبائل مبايعتها للزعيم موحا، والانصياع لأوامره في المعركة الفاصلة في مواجهة المستعمر الفرنسي، وعلى الفور تمَّ تشكيل وحدات قتالية متنوِّعة، فيما تمَّ تزويدها بالعديد من الأسلحة التي جاءت بها القبائل، مدعومة ببعض الجبهات المسلحة والقتالية التي تقاوم على عدة مسارات أخرى، ما ساهم بشكل كبير في تعزيز تواجدها على أرض الميدان.
وعلى الفور بدأت المقاومة في التحرك عبر تشكيلات متعددة، مستخدمين ما لديهم من أسلحة، بعضها كان عبارة عن أسلحة بيضاء وفؤوس ومطارق وعصي، حيث حاصرت الجنود الفرنسيين من كافة الجهات، ما أصابهم بالفزع والذهول في الوقت نفسه، لا سيما أن الجيش الفرنسي كان قد بدأ بالفعل مراسم الاحتفال بالانتصار السهل الذي تحقق على المقاومة في الهري، وهنا كانت المفاجأة.
هزيمة مذلّة لفرنسا
اللحمة الوطنية والتنسيق الجيد والروح القتالية العالية والإيمان بالقضية، كانت عوامل الحسم الأبرز التي منحت النصر للمقاومة المغربية، ليجد الفرنسيون أنفسهم تحت مخرطة المقاتلين العرب، يتساقطون واحدًا تلو الآخر، فيما فُتك بالكولونيل لافريدور وبعض كبار قادة الجيش الفرنسي.
المؤرِّخ محمد المختار السوسي في كتابه “المعسول“، يستعرض أبرز الخسائر التي مني بها الفرنسيون خلال معركة الهري، قائلًا: “ومن أكبر الوقائع في الحروب وقعة الهري التي استوصل (قتل) فيها رؤساء جنود الفرنسيين أكثر من 20 فيهم الكولونيلات والقبطانات والفسيانات، وتفصيلها أن العسكر الفرنسي تقدم بقوة عظيمة وتوغّل في تلك الجبال إلى أن وصل الهري المذكور، فانقضَّ عليه عسكر زيان (بزعامة موحا أو حمو الزياني) ومن معهم وسدوا عليهم المسالك التي سلكوها وجعلوا يقتلونهم كيف يشاؤون ويأسرون إلى أن أفنوهم”.
أما الجنرال كيوم، وهو أحد الضبّاط الفرنسيين الذين شاركوا في تلك المعركة، فيصف في مؤلفه “البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المتوسط (1912-1939)” هزيمة بلاده في موقعة الهري قائلًا: “لم تمنَ قواتنا قط في شمال أفريقيا بمثل هذه الهزيمة المفجعة”، فيما قدّرت بعض المصادر الأخرى حجم الخسائر البشرية بين صفوف المستعمر الفرنسي بـ 33 قتيلًا من الضباط و650 قتيلًا من الجنود و176 جريحًا، وغنمَ المقاومون المغاربة كثيرًا من الأسلحة والمؤن. وهكذا ظلت معركة الهري إحدى العلامات المضيئة في تاريخ المغرب خصوصًا والعرب بوجه عام.