لا تزال أصداء استحواذ السعودية على نادي “نيوكاسل” الإنجليزي، تفرض نفسها على الشارع الكروي هناك، إذ أصابت هذه الخطوة الكثير من المهتمين بالشأن الرياضي البريطاني بالصدمة لما تحمله من مخاوف وتداعيات ربما تلقي بظلالها على سمعة الدوري الإنجليزي لكرة القدم، أحد أقوى الدوريات العالمية في اللعبة.
ومنذ الإعلان عن إنهاء صندوق الاستثمارات العامة السعودي (الصندوق السيادي) الصفقة في 7 أكتوبر/تشرين الماضي، بقيمة قيل إنها تتجاوز 300 مليون جنيه إسترليني (400 مليون دولار) ولا حديث يعلو على الصفقة، مدحًا وذمًا، إذ اعتبرها البعض نقطة سوداء في مسيرة البريميرليغ.
ومن أحدث توابع زلزال هذا الاستحواذ أن بات رئيس رابطة الدوري الإنجليزي غاري هوفمان، على بعد أمتار قليلة من ترك منصبه، بعدما تعرض لموجات عاتية من الضغوط، على مستوى الأندية والنقاد والمشجعين، بسبب تمريره لتلك الصفقة، التي تقضي على مبدأ تكافؤ الفرص وتهدد مستقبل بقية الأندية الإنجليزية بحسب وسائل إعلام بريطانية.
هوفمان.. أول الضحايا
تشير صحيفة The Sun البريطانية، إلى أن رئيس رابطة “البريميرليغ” اقترب من ترك منصبه، على خلفية الصفقة بعدما فقد ثقة أندية الدوري، لافتة إلى أنه خلال الأربعين يومًا المنقضية تعرض لهجوم وانتقاد شرس من رؤساء الأندية وبعض وسائل الإعلام التي وصفته بأنه “يفتقر إلى القيادة”.
مبعث هذا الهجوم بحسب الصحيفة أن هوفمان لم يستشر الأندية عند بيع نيوكاسل للصندوق السعودي، ولأنه همشها بصورة لا تتناسب مع مكانتها وثقلها، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات عن كواليس الصفقة التي تم تمريرها رغم العثرات التي اعترضت طريقها على مدار أكثر من عامين كاملين من المفاوضات.
ورغم أن اجتماع المساهمين الذي عقد الأسبوع الماضي للأندية الإنجليزية العشرين، لم يتطرق إلى مسألة ترك هوفمان لمنصبه، لكن الرسالة وصلت للرجل عبر تسريبات هنا وهناك، في ظل تنامي الغضب ضده، ما جعله على مشارف حمل حقائبه وترك منصبه نهاية الأسبوع الحاليّ، وفق ما ذكرت “ذا صن”.
ومنذ تولي هوفمان منصب رئيس رابطة الدوري الإنجليزي الممتاز في أبريل/نيسان 2020، يواجه هجومًا من أندية الوسط في بريطانيا، التي كانت الأكثر غضبًا من صفقة الاستحواذ السعودية على نيوكاسل، إذ رأت فيها أنها تهدد وجودها في البريميرليغ، وتعدم مبدأ تكافؤ الفرص.
وكان رئيس نادي إيفرتون، بيل كينرايت، ورؤساء أندية آخرون أبرزهم أستون فيلا وكريستال بالاس وبرايتون ووست هام قد طالبوا بإجابات منطقية على قرار الرابطة بالموفقة على استحواذ الصندوق السعودي على 80% من أسهم النادي الإنجليزي رغم علامات الاستفهام العديدة حول تلك الصفقة.
تصاعد الغضب
توقع البعض أنه بإتمام الصفقة بعد أكثر من عامين من المفاوضات، فإن الأمور ستهدأ والشارع الكروي الإنجليزي سيقبل بالأمر الواقع، غير أن الوضع لم يكن كما كان مخطط له، فيوم تلو الآخر تتصاعد مشاعر الغضب والرفض لتلك الخطوة رغم أنها باتت واقعًا لا يمكن تغييره.
فبعد عشرة أيام تقريبًا من الإعلان عن إنهاء الصفقة رسميًا، وخلال مبارة نيوكاسل أمام ضيفه توتنهام، ضمن منافسات الجولة الثامنة من البريميرليغ، فوجئت الجماهير بوضع لافتة كبيرة على مدخل إستاد “سانت جيمس بارك” الذي استضاف المباراة، عليها صورة الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي، الذي قُتل في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول أكتوبر/تشرين الأول 2018، في جريمة يواجه النظام السعودي وعلى رأسه ولي العهد اتهام تخطيطها وتنفيذها.
اللافتة التي كانت موضوعة على حافلة كبيرة أمام الإستاد، وعليها صورة محمد بن سلمان خلف خاشقجي، كُتب عليها بالإنجليزية: “جمال خاشقجي قُتل في أكتوبر/تشرين الثاني 2018″، فيما نقلت وسائل إعلام محلية عن ناشطين في مجال حقوق الإنسان، شاركوا في تلك الفعالية قولهم إنها تهدف إلى تذكير جماهير النادي، بالانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان التي ارتكبها ملاكه الجدد، وفق بي بي سي.
غسل السمعة
لم تكن الانتقادات الحقوقية والكروية الإنجليزية وليدة صفقة نيوكاسل، لكنها تعود إلى بدء التفكير السعودي في وضع أولى أقدامه في البريميرليغ، حين بدأت مفاوضات شراء نادي مانشستر يونايتد، وهي المفاوضات التي فشلت جراء الاعتراض على السجل الحقوقي المشين للمملكة.
ومنذ انطلاق مفاوضات شراء نيوكاسل بدايات 2020 انبرت الجمعيات والكيانات الحقوقية، داخل بريطانيا وخارجها، للتذكير بجرائم الرياض الحقوقية، على رأسها مقتل خاشقجي، تلك الجريمة التي شوهت صورة المملكة دوليًا ووضعتها في مرمى الانتقادات العالمية طيلة العامين الماضيين.
إصرار الرياض على غزو الدوري الإنجليزي فسره نشطاء حقوقيون بأنه محاولة لتبييض المملكة لسجلها الحقوقي، فيما ذهبت “منظمة العفو الدولية” أن صفقة نيوكاسل “تثير مجموعة من الأسئلة المقلقة للغاية بخصوص التبييض الرياضي وحقوق الإنسان والرياضة ونزاهة كرة القدم الإنجليزية”.
رئيسة المنظمة في لندن ساشا ديشموخ، علقت على الصفقة بقولها: “كرة القدم هي رياضة عالمية على المسرح العالمي، وهي بحاجة ماسة إلى تحديث قواعد الملكية الخاصة بها لمنع المتورطين في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان من الانخراط في شغف كرة القدم الإنجليزية وبريقها”، وأضافت لاحقًا بعد إتمامها “منذ بداية الحديث عن هذه الصفقة قلنا إنها تمثل محاولة واضحة من جانب السلطات السعودية لاستغلال الرياضة في تجميل سجلها المروع في حقوق الإنسان بسحر كرة القدم من الدرجة الأولى”.
الرأي ذاته أكده رئيس حملات بريطانيا في المنظمة، فيليكس جاكنز، الذي يرى أن المملكة معروفة منذ سنوات بمحاولاتها “غسل العار عن طريق الرياضة”، مستخدمة في ذلك بريق الرياضة وجماهيريتها العالمية كإحدى أدوات العلاقات العامة والقوى الناعمة للفت الأنظار عن سجلها الحقوقي السيئ.
يذكر أن قرابة 19 ناديًا في الدوري الإنجليزي تقدموا بطلبات عاجلة من أجل الإجابة عن العديد من التساؤلات بشأن الصفقة التي يرفضونها، معربين عن قلقهم من إمكانية تشويهها لصورة البطولة الأشهر عالميًا، بعد سيطرة السعودية التي تعاني من شروخات حقوقية فاضحة على واحد من أعرق أندية البلاد بحسب صحيفة “غارديان”.
سجل حافل بالانتهاكات
ومع توابع زلزال الصفقة أعادت بعض الصحف الإنجليزية نشر العديد من التقارير التي سعت من خلالها للتذكير بانتهاكات السعودية الحقوقية، ولعبت دورًا كبيرًا في تدهور سمعتها الدولية، لعل أبرزها كما أسلفنا مقتل خاشقجي، تلك الجريمة الوحشية التي كسبت تعاطفًا عالميًا لم تكسبه جريمة أخرى، لما تضمنته من تفاصيل إجرامية غير مسبوقة في مثل تلك الجرائم التي تتورط فيها أنظمة بأكملها لإسكات شخص لا يملك سوى رأي خالف رأي ولي العهد.
ومن خاشقجي إلى استهداف الناشطات في حقوق الإنسان، إذ ألقت المملكة القبض على 13 سيدةً في 2018، بعدما قدن حملة لرفع حظر قيادة النساء للسيارات، وفي 2020 واجه بعضهن تهم الإرهاب وجرائم ضد الدولة (وصفها خبراء الأمم المتحدة بالزائفة)، أبرزها لجين الهذلول التي تم الإفراج المشروط عنها مؤخرًا تحت ضغط دولي.
ومنذ 2017 يتعرض النشطاء والمعارضة السعودية لحملات تنكيل غير مسبوقة من السلطات الأمنية، طالت في بعض الأحيان أفراد من الأسرة المالكة، هذا بجانب كوكبة من العلماء ورجال الدين والأكاديميين، ممن لا جرم لهم ولا جريرة إلا آرائهم وكتاباتهم فقط.
ومن انتهاكات الداخل إلى جرائم الخارج، حيث الحرب في اليمن، تلك الحرب التي خاضتها السعودية ضد الحوثيين في 2015، على رأس قوات التحالف المكونة من بعض الدول العربية والإسلامية، وتسببت في مقتل وتشريد مئات الآلاف من الشعب اليمني، أطفال ونساء وشيوخ، في جريمة إنسانية تعد الأقبح منذ عقود طويلة.
بعض الجرائم لا تسقط بالتقادم مهما وضع عليها مساحيق التجميل، أيًا كان حجم ومستوى النفوذ المالي والسياسي، لتبقى سبة في جبين أنظمة بأكملها ربما تُلاحق بلعنتها لمئات السنين، ما لم تنتصر يومًا ما للحق والعدل، بعيدًا عن تلك البرغماتية الميكافيللية التي تضع مصالح النظام فوق كل اعتبارات إنسانية أو أخلاقية.