يُروى عن علامة سوريا ومفتيها الشيخ أبو اليسر عابدين أنه رفض إصدار فتوى تؤيد التأميم الذي أجراه جمال عبد الناصر في البلاد إثر الوحدة بين مصر وسوريا، وكان الأخير قد طلب منه الإفتاء بذلك لكن عابدين لم يجامله بذلك، فتم عزله عن المنصب حتى فرط عقد الوحدة، وعاد أبو اليسر إلى منصبه حتى وفاته.
الكثير من مثل هذه المواقف المشرفة التي تُروى عمن تقلدوا مناصب الإفتاء في سوريا من دعوات للجهاد المقدس من أجل تحرير البلاد من الانتداب الفرنسي والموقف من القضية الفلسطينية والسير في أمر العامة والابتعاد بالمنصب عن التوجهات الحكومية والسياسية، إلا أن عكس هذا الأمر حصل بعد استلام البعث، فأصبح المفتي ناطقًا باسم الحاكم يحرك لسانه بما يفتيه الحاكم ويقول هذا حلال وهذا حرام.
بداية الإفتاء
بدأ منصب الإفتاء رسميًا مع نشوء الدولة السورية بعد خروج العثمانيين من البلاد وتسلم الملك فيصل الحكم، فقد عملت الحكومة وقتها على تعيين الشيخ محمد عطا الكسم مفتيًا للدولة الوليدة، وبعد الكسم تعاقب المفتون على البلاد، وكانت طريقة التعيين تتم عن طريق الانتخاب، حتى أتى عهد بشار الأسد الذي أصدر أول قرار تعيين رئاسيٍّ لمفتٍ وهو أحمد بدر الدين حسون.
ونذكر هنا أننا لم نقف على مراجع خاصة بحالة الإفتاء في سوريا من الناحية التنظيمية والإدارية وطرق التعيين والوصول إلى هذا المنصب، إلا أن مقالًا للباحث والكاتب محمد خير موسى بيّن كيف تمت العملية الانتخابية في تولي الشيخ أحمد كفتارو مفتي سوريا السابق، يقول موسى: “الذين يحق لهم الإدلاء بأصواتهم واختيار واحد من المرشحين في هذه الانتخابات هم المفتون في محافظات الجمهورية السورية والقضاة الشرعيون وأعضاء مجلس الإفتاء الأعلى ونقيب الأشراف لا غير”، يضيف موسى: “كان العدد الكلي للذين يحق لهم الانتخاب خمسة وثلاثين رجلًا ولم يكن بينهم أي امرأة”، ويبدو أن هذه الطريقة كان يتم التعامل بها مع تعيين المفتين السابقين الذين سنتحدث عنهم ضمن هذا التقرير.
يذكر موسى “أول تعيين لمفتٍ حصل في عام 2004 عندما عين بشار الأسد أحمد بدر الدين حسون مفتيًا للبلاد خلفًا للراحل الشيخ أحمد كفتارو”، ويعد كفتارو المفتي الأطول مدة في البلاد، فقد جلس على كرسيه ما يقارب 40 عامًا، وغالبًا ما يرأس المفتي مجلس الإفتاء الأعلى الذي يضم مفتين لكل محافظة وربما يكون في كل محافظة أكثر من مفتٍ.
في عام 2018 أصدر بشار الأسد المرسوم 16 الخاص بتحديد مهام واختصاصات وزارة الأوقاف التابعة لنظامه، ومن أبرز ما جاء في نص المرسوم تحجيم منصب المفتي العام لسوريا، إذ أصبح يعين وتحدد مهامه واختصاصاته بناءً على مرسوم بعد اقتراح الوزير ولمدة ثلاث سنوات قابلة للتمديد، بعد أن كان يسمى بشكل مباشر من رئيس الجمهورية، إضافة إلى تشكيل مجلس يسمى “المجلس العلمي الفقهي الأعلى” برئاسة الوزير وعضوية المفتي ومعاوني الوزير ومستشاريه، وشخصيات وهيئات دينية تضم ممثلين عن المذاهب كافةً.
وقد عرفت سوريا عدة مفتين منذ أن أصبحت دولة مستقلة بذاتها بعد خروج العثمانيين، نسلط الضوء عليهم في السطور التالية.
المفتي الأول محمد عطا الكسم
هو الشيخ محمد عطا الله بن إبراهيم بن ياسين الكسم، ولد في دمشق 1844، علّم مختلف العلوم في عدد من مساجد دمشق مثل الجامع الأموي وجامع يلبغا إضافة إلى مدارس عديدة مثل مكتب عنبر، وعندما قامت حكومة الملك فيصل عُين مفتيًا عامًا للشام في 1918 وبقي فيها حتى وفاته عام 1938.
والشيخ معروف بموقف له قبل خروج العثمانيين وقبل أن يتقلد الإفتاء، فقد حصل خلاف بينه وبين جمال باشا أحد حكام العثمانيين في دمشق، وعارض الشيخ الكسم قرار إعدام عدد من الشخصيات المرموقة في ساحة المرجة وسط مدينة دمشق يوم 6 مايو/أيار 1916، بتهمة بالخيانة العظمى لتواصلهم مع فرنسا والعمل معها بالسر ضد الدولة.
بقي المفتي في منصبه طوال فترة الحكم الفيصلي، ودعا إلى “الجهاد المقدس” في مواجهة الجيش الفرنسي المتقدم نحو مدينة دمشق عام 1920.
شكري الأسطواني
ولد محمد شكري بن راغب الأسطواني عام 1873 في دمشق وهو من علماء المذهب الحنفي المعروفين، عُين في دائرة الفتوى، وأصبح أمينًا للفتوى وعين عام 1941 مفتيًا عامًا حتى وفاته عام 1955.
محمد أبو اليسر عابدين
هو محمد أبو اليسر بن محمد عابدين ولد في دمشق عام 1889 من عائلة اشتغلت بالإفتاء، انتخبته بالإجماع هيئة المفتين والمجلس الإسلامي الأعلى ليكون مفتيًا عامًا للجمهورية العربية السورية وبقي في الإفتاء حتى 1963، ويعتبر الشيخ عابدين من الشيوخ الذين ربطوا العلم الشرعي بالعلوم الكونية، فقد كان طبيبًا يعمل في مهنته بالإضافة إلى تحصيله العلوم الشرعية وإجادته فيها، وساهم في تأسيس الكلية الشرعية وكان عميدًا لها.
شارك الشيخ في الثورة السورية ضد الفرنسيين، وكان يؤمن وصول السلاح والدواء للمقاتلين، بالإضافة إلى أنه شارك بحمل السلاح أيام نكبة فلسطين عام 1948 وكان رئيسًا للجنة التسلح السورية أيام العدوان الثلاثي على مصر، ويذكر له من مواقفه نصيحته للملك فيصل بن الحسين لإقامة دستور البلاد على الشريعة الإسلامية، فقد قال له: “هذه أمانة، أخرجتها من عنقي ووضعتها في عنقك، واعلم أن ملكك زائل إن لم تحكم بالشرع، وسيضحك عليك الغرب كما ضحك على أبيك” فخرج من عنده الملك فيصل غاضبًا دون أن يمد يده ويصافحه.
يقول الكاتب محمد خير موسى: “مع قيام حزب البعث بانقلابه التاريخي في الثامن من آذار/مارس عام 1963 الذي نقل سوريا إلى مرحلة جديدة ما تزال ماكثةً فيها حتى يومنا هذا تمت إحالة المفتي أبو اليسر عابدين إلى التقاعد بعد عشرين يومًا من الانقلاب، والإعلان عن التحضير لإجراء انتخابات على منصب المفتي العام في الرابع من شهر تشرين الثاني “نوفمبر” من عام 1964م”.
عبد الرزاق الحمصي
ولد في دمشق عام 1900، درس على علماء دمشق، سافر إلى مصر وحضر دروس كبار علمائها في الأزهر الشريف، بعد ذلك عين مدرسًا في مناطق قطنا والكسوة وما حولهما في ريف دمشق الغربي، ثم نقل إلى دمشق ليتم تعيينه مدرسًا دينيًا في دائرة الفتوى، بالتوازي مع ذلك عُين خطيبًا في جامع عيسى باشا، ثم تم تعيينه مفتشًا للمعاهد الدينية في دمشق ومساجدها، ومن ثم استلم إدارة المدرسة الشرعية في التكية السليمانية.
بعد عزل الشيخ أبو اليسر عابدين من الفتوى عقب انقلاب البعث عين عبد الرزاق الحمصي مفتيًا للجمهورية العربية السورية بالوكالة عام 1964 لتسيير الفترة الانتقالية التمهيدية للانتخابات العامة، وتوفي عام 1969 ودفن في مقبرة باب الصغير بدمشق.
أحمد كفتارو
يعد أحمد كفتارو أطول المفتين بقاءً في منصبه، فقد جلس على كرسيه ما يقارب 40 عامًا، ولد كفتارو في دمشق عام 1912 وتلقى فيها العلوم الشرعية وعين مدرسًا بدار الفتوى في القنيطرة عام 1948 ثم انتقل للتدريس في دمشق عام 1950 قبل أن ينتخب عام 1964 مفتيًا عامًا للجمهورية.
في مسيرة كفتارو كثير من التقرب من الحزب الحاكم والابتعاد عن الخط العام للحركة الإسلامية التي كانت تعمل على أخذ المواقف السياسية والعمل في المجال العام، وفي حديثه يقول الكاتب موسى أن درجة التقارب “بلغت بين الشيخ كفتارو والنظام الحاكم في سوريا أوجها عام 1957م حين غدا جزءًا من التحالف البعثي الشيوعي التقدمي الاشتراكي في مواجهة التيار الإسلامي والمؤسسة الدينية، هذا التحالف لم يحدث شرخًا في المؤسسة الدينية فحسب بل أحدث استقطابًا مجتمعيًا غير مسبوق، وكان هذا التحالف ضروريًا بين يدي التربع على كرسي الإفتاء العام”.
وبحسب موسى “عقب الإعلان عن موعد انتخابات المفتي العام في سوريا بدأ الحراك المشيخي للترشيح، فاستقر الأمر على اثنين من المرشحين هما: الشيخ أحمد كفتارو المدعوم من حزب البعث الذي يمثل السلطة الحاكمة وبيده مختلف مؤسساتها، والشيخ حسن حبنكة الميداني، شيخ الميدان المشهور بموقفه الحاد من البعث ومن الشيخ كفتارو في الوقت نفسه، الذي يمثل المؤسسة الدينية التي تعد رابطة علماء الشام واجهتها في ذلك الوقت”.
وعن الفرق العلمي الشاسع بين الشيخين يضيف موسى: “لا بد من التأكيد أن هناك فرقًا شاسعًا في القدرة العلمية الشرعية بين الشيخ أحمد كفتارو والشيخ حسن حبنكة، فقد كان حبنكة عالمًا راسخ القدم في علوم الشرع المختلفة، وبالمقابل كان كفتارو هو الأكثر انتشارًا وشعبيةً عند القاعدة الجماهيرية العامة”، في يوم الانتخابات كانت النتائج لصالح الشيخ أحمد كفتارو بفارق صوتٍ واحد، فقد حصل على 18 صوتًا في حين حصل الشيخ حسن حبنكة على 17 صوتًا.
ظهر المفتي كفتارو في الجامع الأموي بعد أسبوع من المجزرة التي ارتكبها سليم حاطوم في الجامع الأموي حين اقتحمه بالدبابات وهاجم المعتصمين فيه وقتل العشرات وجرح المئات، وكان كفتارو في مقدمة من استقبل الرئيس أمين الحافظ لأداء صلاة الفطر، وقد قاطع كل علماء دمشق يومها صلاة الفطر في المسجد الأموي احترامًا لدماء الشهداء وغضبًا واستنكارًا لجريمة سليم حاطوم والرئيس أمين الحافظ.
توفي كفتارو في سبتمبر/أيلول عام 2004، بعد مسيرة حافلة بخدمة نظام الأسد الأب والابن وسكوته عن الظلم الواقع منذ انقلاب البعث مرورًا بأحداث الثمانينيات وغير ذلك من الأحداث.
أحمد حسون
يعتبر أحمد بدر الدين حسون آخر مفتٍ لسوريا بعد صدور قرار من رأس النظام السوري بشار الأسد بتعديل بعض القوانين الخاصة بمجلس الإفتاء ووزارة الأوقاف والمجلس الفقهي التابع لها، وينحدر حسون من مدينة حلب وولد عام 1949، ويعتبر المفتي الوحيد من خارج إطار مدينة دمشق وهو يحمل إجازة في الأدب العربي، ودكتوراة في الفقه الشافعي من جامعة الأزهر، وعين مفتيًا لحلب عام 2002، كما أنه عضو مجلس الإفتاء الأعلى في سوريا.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” ذكرنا أن حسون “عمل منذ بداية الثورة السورية على التحريض ضد المتظاهرين والثائرين السوريين، وهو صاحب الفتوى التي طالب فيها قوات النظام بقصف أحياء المدنيين في حلب، بُعيد استهداف الأحياء المسيحية في المدينة الخاضعة لسيطرة قوات النظام عشية عيد الفصح عام 2013”.
كما يعتبر الكثيرون أن نشاط أحمد حسون في العاصمة دمشق مثيرًا للجدل، إذ “تثير تحركاته الاقتصادية مع أذرع إيران في المدينة الجدل وذلك بغية التسهيل لإيران بإحداث تغيير ديمغرافي ونشر التشيع، وصدرت تقارير توثق أن حسون عمل شريكًا مع الملحق الثقافي الإيراني في حلب، آية الله عبد الصاحب الموسوي، في معظم الفعاليات الدينية والاقتصادية”.
في منتصف الشهر الحاليّ ألغى رئيس النظام السوري بشار الأسد، بموجب مرسوم أصدره منصب “مفتي الجمهورية”، معززًا في الوقت ذاته صلاحيات مجلس فقهي ضمن وزارة الأوقاف، في سابقة اعتبرها البعض خطيرة على مستوى التغيير الذي يطال الدولة السورية على مستوى الهوية والديمغرافيا وإلغاء دور الأكثرية السنية في مجالي الأوقاف وقوانين الأحوال الشخصية، ونص المرسوم على إلغاء المادة رقم 35 من القانون الذي ينظم عمل وزارة الأوقاف ويُسمى بموجبها المفتي العام للجمهورية، فيما تم تعزيز دور ما يسمى “المجلس العلمي الفقهي” في وزارة الأوقاف الذي كان حسون عضوًا فيه، لتنتقل كل صلاحيات المفتي إلى المجلس الذي يضم أعضاء من كل الطوائف، بما فيها العلويين والدروز والإسماعيليين، وحَصَر المرسوم، إصدار الفتاوى “المسندة بالأدلة الفقهية الإسلامية المعتمدة على الفقه الإسلامي بمذاهبه كافة”، ووضع الأسس والمعايير والآليات اللازمة لتنظيمها وضبطها، بعمل “المجلس الفقهي” أيضًا.
ختامًا.. شهدت سوريا خلال 100 عام، تعاقب 6 مفتين اختلفت سيرهم مع تبدل أحوال السياسة والمجتمع ولم تكن السياسة قد أحكمت الأمر على الفتوى كما حصل في زمن كفتارو وحسون اللذين أيدا نظام البعث بكل مجازره وطغيانه.