ترجمة حفصة جودة
عندما تشتري لشريكك العطر غير المناسب، أو تضيف أحدهم إلى سلسلة رسائل إلكترونية بالصدفة، فهذا خطأ غير مقصود، لكن إطلاق صاروخ من طائرة دون طيار على سيارة وقتل 10 مدنيين رغم رؤية طفل صغير بوضوح قبل ذلك، ليس خطأ غير مقصود على الإطلاق.
ومع ذلك، يدعي تحقيق البنتاغون – الذي من المفترض أن يكون مستقلًا – هذا الشهر أنه خطأ بحسن نية بعد أن سمح القادة الأمريكيون بإطلاق صاروخ في أواخر أغسطس/آب تسبب في قتل عائلة أفغانية تضم 7 أطفال، قال جنرال في سلاح الجو الأمريكي إنه لم يكن هناك أي إهمال أو سوء إدارة ولا ينبغي اتخاذ أي إجراءات تأديبية.
في نهاية الأسبوع، برّأ البنتاغون نفسه مرة أخرى، فقد وصف الضربة الجوية عام 2019 في باغوز بسوريا التي قتلت عشرات النساء والأطفال بأنها “مبررة”، قال البنتاغون ذلك حتى بعد أن كشف تحقيق نيويورك تايمز أن مجموعة من المدنيين الذين تعرضوا للقصف جرى تحديد بالفعل أنهم مجموعة هاربة من القتال بين الميليشيات المدعومة من أمريكا وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
وصف المحامي العسكري في الولايات المتحدة دين كورساك هذا الحادث في ذلك الوقت بأنه جريمة حرب محتملة، لكن البنتاغون لم يحقق في الأمر، ولم يثر الحادث انتباه العامة إلا عندما أرسل كورساك التفاصيل إلى لجنة الإشراف في مجلس الشيوخ.
عند إعلان نتائج التحقيق الأفغاني أوضح البنتاغون تمامًا أولوياته الحقيقية عقب خروجه السريع – على غرار سايغون – من أفغانستان بعد عقدين من الاحتلال الفاشل، كان في الحقيقة مهتمًا بصورته وليس مسؤوليته.
على النقيض من رفضه اتخاذ أي إجراء ضد مشغلي الطائرات دون طيار أو القادة الذين أطلقوا النار على مركبة مدنية، أدار البنتاغون حملة فورية ضد أحد جنوده الذي انتقد طريقة التعامل مع عملية الانسحاب، فقد حوكم جندي البحرية المخضرم ستيوارت شيلر عسكريًا الشهر الماضي بعد أن استخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتوبيخ رؤسائه علنًا.
أي الحادثين – تعليق شيلر أم عقاب من قتلوا عائلة بريئة – سيشوه سمعة دور الجيش الأمريكي أكثر، في أفغانستان أو غيرها من دول العالم حيث تدير الولايات المتحدة عملياتها؟
الرواية الاستعمارية
ليس البنتاغون وحده من يتوقع إعفاءه من الفحص الدقيق بشأن جرائم حربه، فالخطأ غير المقصود رواية استعمارية تستمر الدول الغربية في سردها لنفسها ولنا عند قتلهم المدنيين، عندما غزت القوات الغربية واحتلت أراضي الآخرين، وربما ساعدت نفسها ببعض الموارد التي وجدتها في طريقها، كأن تفعل ذلك باسم نشر الديمقراطية وإحلال الأمن، فنحن الطيبون وهم الأشرار، نحن نقع في الأخطاء وهم يرتكبون الجرائم.
هذه الاستقامة الذاتية مصدر غضب الغرب من أي اقتراح بضرورة تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي في أي جريمة، ناهيك بمقاضاة القادة والسياسين الأوروبيين والأمريكيين والإسرائيليين بسبب ارتكابهم جرائم حرب أو الإشراف عليها.
قادة إفريقيا فقط وأعداء الناتو هم من يجب أن يُقتادوا إلى المحاكم ويدفعوا الثمن، لكن لا شيء من تحقيق البنتاغون الأخير يؤكد رواية “الخطأ غير المقصود” رغم أن تغطية وسائل الإعلام الغربية المتساهلة تشير إلى تلك الضربة بأنها “فاشلة“.
وحتى لو لم يكن التحقيق نزيهًا، كيف يكون الأمر مستقلًا عندما يحقق جنرال من البنتاغون في حوادث تشارك فيها القوات الأمريكية؟
كان تفجير المطار آخر إذلال عسكري – ذلك الذي نفذته داعش – بعد أن طردت طالبان القوات الأمريكية خارج أفغانستان، لذا فالانتقام – حتى لو كان في هيئة استعادة الردع أو الشرف العسكري – ليس خطأ غير مقصود
تلقى مشغلو الطائرة من دون طيار التي قتلت عائلة زيميراي أحمدي – الموظف في هيئة إغاثة أمريكية – أوامرهم لأن سيارته “تويوتا كورولا” البيضاء تشبه سيارة تنتمي للسيارات المحلية التي يمتلكها أفراد داعش، لكن هذه السيارات منتشرة بشكل كبير في أفغانستان.
يقول رئيس هيئة الإغاثة التي يعمل بها أحمدي: “لا أفهم كيف لأقوى جيش في العالم أن يتتبع السيد أحمدي في سيارة شائعة الاستخدام لمدة 8 ساعات ولا يستطيع أن يكتشف الشخص الذي يقودها، ولماذا كان في مقر قيادة هيئة إغاثة أمريكية”.
على أحسن الأحوال، كان القرار لا مبالٍ بشكل متهور سواء كان أحمد هو الهدف الحقيقي وهل يجب أن يموت أطفال نتيجة لذلك، الأكثر من ذلك أنه عندما هاجموا سيارة أحمدي كان النظام العسكري الأمريكي كله متعطشًا للانتقام، فقبل 3 أيام من ذلك قُتل 13 جنديًا أمريكيًا و169 مدنيًا أفغانيًا عندما انفجرت قنبلة قرب مطار كابول حيث تجمع الأفغان هناك أملًا في الحصول على مقعد في آخر طائرات الإخلاء.
كان تفجير المطار آخر إذلال عسكري – ذلك الذي نفذته داعش – بعد أن طردت طالبان القوات الأمريكية خارج أفغانستان، لذا فالانتقام – حتى لو كان في هيئة استعادة الردع أو الشرف العسكري – ليس خطأ غير مقصود.
سلوك نمطي
هناك سبب أعمق للتشكيك في تحقيق البنتاغون، لا دفاع عن “خطأ غير مقصود” إذا استمر وقوع هذا الخطأ، لا يمكن للخطأ غير المقصود أن يصبح سلوكًا نمطيًا، لكن سنوات طويلة من الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق والتدخل في سوريا كانت مليئة بالضربات الجوية التي تقضي على عائلات وتقتحم حفلات الزفاف.
هذه المعلومات نادرًا ما تتصدر الأخبار، إذ تخفيها مزاعم البنتاغون الخاطئة وتدعي أنها عمليات ناجحة لتحييد الإرهابيين، لكن هذه الأخطاء هي السبب في فشل الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، فالقتل العشوائي الذي ينفذه البنتاغون ضد الأفغان خلق الكثير من الأعداء بين السكان المحليين، ما أفقد الحكام المحليين المدعومين من أمريكا شرعيتهم.
أظهر الفيديو أنه لا خطأ أو شيء غير مقصود في طريقة قتل هؤلاء العراقيين، حتى لو لم يكن هناك نية محددة لقتل مدنيين، لقد قُتلوا لأن القادة الأمريكيين غير مهتمين بأمان من تحتلهم، لأنهم لا يبالون إذا كان العراقيون أو أطفالهم أحياءً أم أمواتًا
حدث أمر مشابه في أثناء احتلال أمريكا وبريطانيا للعراق، لذا أي شخص يعتقد أن البنتاغون يرتكب أخطاءً غير مقصودة عند قتله المدنيين يجب أن يشاهد فيديو “القتل العمد” الذي أصدرته ويكيليكس عام 2012.
في الفيديو، يظهر المشهد الجوي لطياري هيلكوبتر عام 2007 وهم يناقشون بمزيج من اللامبالاة والبهجة المخيفة ضرباتهم الجوية على حشد من العراقيين من بينهم صحفيين في رويتزر يتنقلون في شوارع بغداد.
عندما حاولت شاحنة عابرة مساعدة أحد الجرحى أطلق الطيارون النار ثانية رغم رؤيتهم لطفل يجلس في المقعد الأمامي، في الحقيقة وُجد طفلان بعد ذلك في الشاحنة، عندما وصل الجنود الأمريكون إلى المشهد اتخذوا قرارًا بعدم علاجهم لدى أطباء أمريكيين، وعندما أخبروا الطيارين بالخسائر، قال أحدهم: “حسنًا، إنه خطأهم لجلب أطفالهم إلى المعركة”، وقال الآخر: “نعم هذا صحيح”.
قبل تسريب الفيديو، ادعى الجيش أن المدنيين الذين قُتلوا هذا اليوم كانوا في مرمى تبادل إطلاق النار، فقد قال البيان: “لا شك أن قوات التحالف كانت في خضم معارك قتالية ضد قوات معادية”.
لكن الفيديو أظهر أنه لا خطأ أو شيء غير مقصود في طريقة قتل هؤلاء العراقيين، حتى لو لم يكن هناك نية محددة لقتل مدنيين، لقد قُتلوا لأن القادة الأمريكيين غير مهتمين بأمان من تحتلهم، لأنهم لا يبالون إذا كان العراقيون أو أطفالهم أحياءً أم أمواتًا.
قتل الأبرياء
إن الدول التي تصرخ بأعلى صوتها بأنها تقتل الأبرياء عن طريق الخطأ ودون قصد أو لأن الإرهابيين يختبئون ورائهم، هي نفسها التي تواصل قتل الأبرياء، النسخة الإسرائيلية من ذلك هي “الخطأ المأساوي“، ذلك العذر الذي استخدمته في 2014 عندما أطلقت قواتها البحرية صاروخين دقيقين على شاطئ غزة في المنطقة التي كان يلعب فيها 4 صبيان كرة القدم، فماتوا على الفور، وفي 7 أسابيع من قصف غزة في 2014، قتلت “إسرائيل” أكثر من 500 طفل فلسطيني وأكثر من 850 مدنيًا بالغًا، ومع ذلك يبدو أن ذلك كله كان خطأ غير مقصود، فلم يخضع أي جندي أو قائد أو سياسي للمساءلة عن كل هذه الوفيات.
هناك قوانين للحرب والاحتلال وهناك قانون دولي، لقد خالفت الولايات المتحدة كل هذه القوانين مرارًا وتكرارًا في أفغانستان والعراق، وكذلك “إسرائيل” بحكمها للشعب الفلسطيني أكثر من 5 عقود ومحاصرة أجزاء من أراضيها
ما زال المدنيون الفلسطينيون يموتون عامًا بعد عامٍ وعقدًا بعد عقدٍ ومع ذلك فهو دائمًا “خطأ غير مقصود”، الأعذار الإسرائيلية غير مقنعة تمامًا لنفس السبب الذي يجعل أعذار البنتاغون لا وزن لها.
كلاهما ارتكب جرائمه على أراضي آخرين لم يتم دعوتهما حتى لدخولها، كلا الجيشين يحكم هؤلاء الناس دون سبب وجيه ويعامل السكان المحليين كأنهم أعداء، وكلاهما يعلم أن جنودهما يتمتعون بحصانة مطلقة.
قال البنتاغون عند التوصل إلى قراره بشأن قتل العائلة الأفغانية إنه لم يخالف القانون، هذا القرار ليس نزيهًا، ما يعنيه الجيش الأمريكي أنه لم ينتهك قواعد الاشتباك التي تخدم مصالحة، القواعد التي تسمح للجيش الأمريكي بالقيام بأي شيء يرغب فيه، إنه يتصرف كما لو أن القانون لا ينطبق عليه عندما يغير على أراضي الآخرين ولا حتى قوانين الأراضي التي يحتلها.
هذه الحجة مخادعة أيضًا، فهناك قوانين للحرب والاحتلال وهناك قانون دولي، لقد خالفت الولايات المتحدة كل هذه القوانين مرارًا وتكرارًا في أفغانستان والعراق، وكذلك “إسرائيل” بحكمها للشعب الفلسطيني أكثر من 5 عقود ومحاصرة أجزاء من أراضيها.
المشكلة أنه لا توجد رغبة في تطبيق القانون على أقوى جيش على وجه الأرض وحلفائه، بدلًا من ذلك نسمح له بممارسة دور الشرطي العالمي المحب للخير.
بلا تدقيق
رفضت كل من أمريكا و”إسرائيل” التصديق على قانون روما الذي قامت على أساسه المحكمة الجنائية الدولية التي تحكم في جرائم الحرب، هذا الرفض ليس خطأً غير مقصود أيضًا، فمن المتوقع أن يتجنب كلاهما الفحص الدقيق للمحكمة.
يعلم قادة أمريكا و”إسرائيل” أن جنودهم يرتكبون جرائم حرب، وأنهم أيضًا يرتكبون جرائم حرب بموافقتهم على الحروب العدوانية التي سيشنها هؤلاء الجنود، أو الاحتلال الحربي الفوضوي طويل المدى الذي من المفترض أن ينفذوه.
لكن أيًا كانت آمالهم، فعدم التصديق على القانون لن يعمل بمثابة بطاقة الابتعاد عن السجن، ما زال قادة أمريكا و”إسرائيل” يخاطرون بالوقوع تحت قضاء المحكمة الجنائية الدولية إذا صادقت الدول التي يحتلونها على القانون كما هو الحال مع أفغانستان وفلسطين.
الفكرة أن محكمة لاهاي تُستخدم كملاذ أخير، بمعنى آخر، يجب أن تكشف الدولة المتهمة بارتكاب جرائم حرب أنها فشلت في التحقيق بجدية في تلك الجرائم.
إعلان أمريكا و”إسرائيل” أنه “خطأ غير مقصود” كل مرة يقتلون فيها المدنيين دليل على ذلك، إنه يكشف أن أنظمة القانون الأمريكية والإسرائيلية غير قادرة تمامًا على دعم قوانين الحرب أو إخضاع المسؤوليين السياسيين والعسكريين للمساءلة، لذا يجب أن تكون هذه وظيفة المحكمة الجنائية الدولية.
لكن المحكمة خائفة، فقد شنت إدارة ترامب حربًا ضدها العام الماضي لمنع مسؤوليها من التحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان، فجُمدت أصول موظفي المحكمة ومُنعوا من دخول الولايات المتحدة.
لهذا السبب تفشل المحكمة باستمرار في الدفاع عن ضحايا جرائم الحرب الغربية مثل أحمدي وأطفاله، لقد تلكأت المحكمة 15 عامًا قبل أن تعلن أخيرًا العام الماضي أنها ستحقق في مزاعم ارتكاب الولايات المتحدة جرائم حرب في أفغانستان، وسرعان ما تلاشى هذا القرار تحت حملة الضغط التالية.
في سبتمبر/أيلول، بعد أن قُتلت عائلة أحمدي بطائرة دون طيار أمريكية، أعلن المدعي العام للمحكمة أن التحقيقات في جرائم الولايات المتحدة في أفغانستان – ومن بينها الادعاءات الواسعة بتعذيب الأفغان – لم تعد أولوية، وأن التحقيق سيركز بدلًا من ذلك على طالبان وداعش.
مرة أخرى، سيُحاسب أعداء الولايات المتحدة وليس الولايات المتحدة نفسها، هذا أيضًا ليس “خطأً غير مقصود”.
المصدر: ميدل إيست آي