بداية القرن السادس عشر، كان الخطر محدقًا بالكيانات الإسلامية الواقعة في شمال إفريقيا، فضلًا عن مسلمي الأندلس الفارين من محاكم التفتيش في شبه الجزيرة الأيبيرية، بعد سقوط الممالك الإسلامية هناك.
كانت الآمال معلقة على الدولة العثمانية، أكبر دولة إسلامية في ذلك الوقت، فالجميع ينظر إليها كونها الحامي والمنقذ، وما إن تمكن العثمانيون من دحر الإسبان والبرتغاليين، في شمال إفريقيا، حتى بدأوا في إقامة كيان إسلامي قوي في الجزائر أو ما كانت تعرف بـ”المغرب الأوسط”، فأصبحنا نتحدث عن خلافة إسلامية جنوب حوض الأبيض المتوسط، وهو موضوع حديثنا في هذا التقرير الجديد لـ”نون بوست” ضمن ملف الجزائر العثمانية.
تعطيل أهداف البرتغاليين والإسبان
كما قلنا فإنه في بداية القرن السادس عشر، تحالف الإسبان والبرتغاليون لطرد المسلمين من الأندلس، وقد أمكن لهم ذلك، رغم المقاومة الشرسة، فقد ساعدهم في هذا الأمر الصراع على الحكم بين ملوك الطوائف وانتشار الفتن واستعانة بعض ملوك المسلمين بالنصارى ضد أبناء جلدتهم.
في ذلك الوقت كان حكام أوروبا يستمدون قوتهم من ضعف الأندلسيين وتخلي حكام المغرب عنهم، فضلًا عن قوة دولة البندقية المجاورة لهم، التي كانت أهم دولة أوروبية في ذلك الوقت باعتبارها القطب التجاري العالمي.
لم تكن أهداف البرتغاليين والإسبان تقتصر على ضرب أهل الأندلس المسلمين فقط، بل كانت نيتهم السيطرة على شمال إفريقيا أيضًا، فقد كانت سياسة الصليبيين في حقيقة الأمر في تلك الفترة تقوم على أساس القضاء على كل نفوذ إسلامي.
شكَّل العامل الديني أحد أهم الدوافع التي جعلت البرتغاليين والإسبان يشنون حملاتهم العسكرية على شمال إفريقيا، إلى جانب ذلك حركهم الجشع والحصول على المكاسب المادية المتمثلة في الأسلاب والغنائم، ولتلبية رغبة الطبقات البرجوازية الصاعدة في مختلف مدن البلاد في إيجاد أسواق خارجية لبعث تجارتهم، أي أن الدافعين الديني والمادي كانا متلازمين ومتواكبين.
عمل حكام العثمانيين على وقف تقدم البرتغاليين والإسبان وتعطيل أهدافهم، بدءًا من محمد الفاتح الذي كانت عينه صوب الأندلس
في ذلك الوقت، بارك الفاتيكان عمل البرتغاليين، فأصدر البابا عدة مراسيم يأذن فيها لملك البرتغال بمهاجمة المسلمين وإخضاعهم لحكمه ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم، واسترقاقهم، كما بادرت البابوية بالتدخل لفض النزاع بين الدولتين الاستعماريتين البرتغال وإسبانيا، بموجب “معاهدة تورديسلاس” عام 1494، بعد أن كانت الحرب وشيكة الاشتعال بينهما، فقد كان هدفهما إقامة حلفٍ مسيحي من أجل مهاجمة المسلمين من الجنوب.
تمادى الصليبيون في حربهم، فعملوا على مهاجمة المسلمين، وقد كان ضررهم كبيرًا، وعم أذاهم جميع المناطق التي تصلها أساطيلهم الحربية، وعملوا على بسط سيطرتهم العسكرية والتجارية على هذه المناطق ابتغاء احتكار تجارة المتوسط.
هوان المسلمين وضعفهم، فتح أعين هاتين الدولتين على حقيقة مفادها ضرورة التقدم في العمق الجغرافي الإسلامي خشية من عودة المسلمين إلى الأندلس مرة أخرى، فضلًا عن الأهداف الاقتصادية التي كان على رأسها السيطرة على طرق التجارة، والبضائع الباهظة القادمة من الشرق الآسيوي، وعلى رأسها تجارة التوابل.
هذا الأمر جعل مسلمي الأندلس وشمال إفريقيا يستنجدون بالعثمانيين لرفع ضرر الصليبيين عنهم وتواتر أذاهم وضعف جنود المسلمين، ورغم انشغالهم بفتح أعظم مدن أوروبا في ذلك الوقت ”القسطنطينية”، فقد قرر العثمانيون إنقاذ مسلمي شمال إفريقيا والأندلس.
تحالف الجزائريين مع العثمانيين، أثر كثيرًا على مخططات القوى الصليبية في شمال إفريقيا، إذ تراجعت هذه القوى عن القيام بعمليات عسكرية في المنطقة
عمل سلاطين العثمانيين على وقف تقدم البرتغاليين والإسبان وتعطيل أهدافهم، بدءًا من محمد الفاتح الذي كانت عينه صوب الأندلس، وابنه بيازيد الذي قرر إرسال أسطول بحري إلى غرب البحر المتوسط بقيادة البحار الشهير كمال ريس سنة 1487.
سليم الأول أيضًا ساهم في الأمر، فقد أرسل إلى قائد الأسطول الإسلامي عروج وكلفه بمهمة عرفت في التاريخ بالمهمة المستحيلة، وهي الإبحار من أقصى شرق البحر المتوسط في الأناضول إلى أقصى غرب المتوسط في الأندلس ومحاربة أساطيل الجيوش الصليبية مجتمعة وهي عبارة عن جيوش وأساطيل إسبانية وبرتغالية وإيطالية وسفن القديس يوحنا.
الأمر نفسه بالنسبة لسليمان القانوني الذي تولى الحكم خلفًا لأبيه السلطان سليم خان الأول، إذ أرسل السلطان سليمان 80 سفينةً و8 آلاف مقاتل من الجيش الإنكشاري إلى قائد أسطوله في البحر المتوسط خير الدين بربروس، وتواصلت الجهود مع سليم الثاني.
الجزائر ركيزة لحركة الجهاد
تم للعثمانيين ما أرادوا وعطلوا الأهداف البرتغالية والإسبانية جنوب المتوسط، وتحالفوا مع الجزائر في أعقاب فتح عروج وخير الدين لميناء “جيجل”، إذ أرسل الأخوان إلى السلطان سليم الأول مجموعةً من النفائس التي استوليا عليها بعد فتح المدينة، فقبلها السلطان، ورد لهما الهدية بإرسال 14 سفينةً حربيةً مجهزةً بالعتاد والجنود.
كان لوصول الدعم العثماني أثره على الجزائريين والجزائر ككل، فوجود حليف قوي بقوة الإمبراطورية العثمانية إلى جانب الجزائر، مكنها من التصدي للصليبيين وفرض قوتها في البحر الأبيض المتوسط وإحكام سيطرتها عليه دون منازع.
في تلك الفترة، أذن السلطان سليم لمن يشاء من رعاياه المسلمين بالسفر إلى الجزائر والانخراط في صفوف المجاهدين هناك، كما قرر السلطان منح المتطوعين الذين يذهبون إلى الجزائر الامتيازات المقررة للفيالق الإنكشارية تشجيعًا لهم على الانضمام إلى كتائب المجاهدين.
استقبلت الجزائر الآلاف الذين انضموا إلى عمليات الجهاد ضد النصارى، لتصبح بذلك ركيزةً لحركة الجهاد في البحر المتوسط، فقد كانت الجزائر حريصةً على مساعدة العثمانيين على بسط نفوذهم إلى كل أقاليم الشمال الإفريقي لتوحيده تحت راية الإسلام.
طرد الجزائريون الإسبانيين من الجيوب التي أقاموها في الجزائر، كما ساهموا في فتح تونس وتخليصها من الإسبان، فضلًا عن توحيد المغرب الأوسط ووضع دعامات قوية لدولة فتية في الجزائر وكانت المساعدات العثمانية تصلهم باستمرار.
أصبحت الجزائر من أقوى الدول في حوض البحر الأبيض المتوسط، وقادت حركة الجهاد الإسلامي البحري، بهدف محاربة أعداء الإسلام من الصليبيين والرد على اعتداءات سفن إسبانيا والبرتغال وفرسان القديس يوحنا عليهم.
مثلت الجزائر خلال فترة تناهز ثلاثة قرون القاعدة الأولى لقوات الجهاد البحري الإسلامي في بلاد المغرب العربي، إذ قامت البحرية الجزائرية بدورها على خير وجه، فهاجمت السواحل الشرقية لإسبانيا دون أن تجد من يقاومها، وكانت تعود في كل مرة بالأسرى والغنائم، كما هاجمت سواحل سردينيا، وأحكمت سيطرتها على البحر المتوسط.
حماية مسلمي الأندلس وشمال إفريقيا
عقب تحولها إلى قاعدة ومركز للجهاد الإسلامي في البحر المتوسط، أصبح على عاتق الجزائر مهمة حماية مسلمي الأندلس من الأعمال الوحشية التي كان يرتكبها الإسبان النصارى، فضلًا عن حماية مسلمي شمال إفريقيا، وفتح الطريق أمام دعاة الإسلام للولوج إلى العمق الإفريقي لنشر الدين الإسلامي الحنيف.
تحالف الجزائريين مع العثمانيين، أثر كثيرًا في مخططات القوى الصليبية بشمال إفريقيا، إذ تراجعت هذه القوى عن القيام بعمليات عسكرية في المنطقة، واعتبروا الأمر تهديدًا مباشرًا للمسيحية ولتجارتها في البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي.
نتيجة ذلك، عرفت دول شمال إفريقيا مرحلةً جديدةً من الاستقرار النسبي شهدت خلالها نهضةً اقتصاديةً وانتعاشًا للحياة العلمية والثقافية، حيث استقطبت دول المنطقة كفاءات بشرية ماهرة جاءت من أماكن مختلفة من العالم وساهمت في تنشيط المنطقة وإحيائها من خلال بناء المدارس والجوامع والقصور، وكان من بينهم الأتراك والمشرقيون والأندلسيون والأوروبيون واليهود.