من المعروف أننا نرثُ من آبائنا وأجدادنا الجينات الوراثية التي ترسم أشكالنا ولربما طباعنا، بالإضافة إلى توريث اسم العائلة والمال وفي بعض الأحيان السلطة، ولكن ما لا يعرفه البعض هو أن هذه الحزمة من الموروثات تشمل أيضًا وراثة الصدمات العاطفية وآثار الظروف النفسية الشاقة التي عاشها أسلافنا.
لا تزال الصدمات المتوارثة عبر الأجيال (المعروفة أيضًا باسم الصدمة بين الأجيال) مجالًا جديدًا للدراسة نسبيًّا، ما يعني أن رحلة الباحثين طويلة للوصول إلى تأثير هذه الصدمات وكيفية تجلّيها في كل جيل حتى تتلاشى في النهاية بشكل كامل.
الصدمة بين الأجيال
نستخدمُ عادةً مصطلح الصدمة أو Trauma للتعبير عن الأثر النفسي الذي تتركه التجارب المؤلمة عند الأشخاص، كما يوجد مصطلح آخر في علم النفس يُدعى “الصدمة المعقّدة” التي تعني تعرُّض الشخص لسلسلة من الأحداث المؤلمة أو المتكررة، ويؤدي حدوث الصدمات المعقّدة في سنٍّ مبكرة إلى إلحاق الضرر بجوانب متعددة من نمو الطفل، وقد تشمل نتائج الصدمات المعقّدة عائلات بأكملها، كما هو الحال في حالات العنف أو الإدمان أو الفقر الشديد.
صدمة الأجيال هي بالضبط كما يمكن أن نستنتج من اسمها، هي صدمة لا يتعرض لها شخص واحد فقط ولكنها تمتدُّ من جيل إلى آخر؛ من الناحية النظرية يمكن أن يكون لأي نوع من الإجهاد الشديد والطويل آثار نفسية ضارّة على الأطفال أو الأحفاد، ما قد يؤدّي إلى حالات القلق المزمن والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.
الصدمة بين الأجيال تنتقل من أولئك الذين يتعرضون مباشرة لحادث مؤسف أو اضطهاد إلى الأجيال اللاحقة، وقد تبدأ الصدمة بين الأجيال بحدث صادم يؤثر على فرد، أو أحداث صادمة تؤثر على العديد من أفراد الأسرة، أو صدمة جماعية تؤثر على المجتمع ككُلّ، أو على المجموعة الثقافية أو العرقية أو الإثنية أو الدينية.
تمَّ تحديد الصدمة بين الأجيال لأول مرة بين أطفال الناجين من الهولوكوست، لكن الأبحاث الحديثة عملت على توسيع البحث ليشمل مجموعات أخرى مثل السكان الأصليين في شمال أمريكا وأستراليا، في حين تمَّ توثيق وجود هذا النوع من الصدمات بشكل جيد في دراسات متعدِّدة، إلا أن آليات انتقال الصدمات من جيل إلى آخر لا تزال غير واضحة.
من هم الأكثر عرضة للصدمات عبر الأجيال؟
كل إنسان معرّض لهذا النوع من الصدمات، ولكن هناك مجموعات سكانية محددة معرضة لهذا الخطر بشكل أكبر بسبب تاريخها.
وفقًا للباحثين في هذا المجال، التعرض للاستغلال المنهجي والتحمل المتكرر والمستمر للانتهاكات والعنصرية والفقر، كلها عوامل مؤلمة ومؤثرة بما يكفي لإحداث تغييرات جينية، لذا إن الأمريكيين الأفارقة في الولايات المتحدة وحول العالم معرّضون لهذا لخطر بشكل خاص، والأسر المتضررة من الكوارث مثل تسونامي عام 2004 في آسيا، ستكون في مرمى هذا الخطر أيضًا.
كما أن الشعوب في البلدان التي تحملت سنوات بل عقودًا من الحرب، قد يعانون أيضًا من صدمة الأجيال، أيضًا العنف المنزلي والاعتداء الجنسي وجرائم الكراهية هي أفعال أخرى يمكن أن تؤدي إلى حدوث صدمة الأجيال.
قد ينقل الآباء نقاط الضعف الوراثية الفطرية الناجمة عن تجربتهم المؤلمة، أو قد ينقلون صدماتهم العاطفية بأساليب الأبوة والأمومة التي تأثّرت بالمصاعب التي مرّوا بها، حيث يواجه الناجون العديد من التحديات عندما يكونون آباء، بما في ذلك صعوبة الارتباط بأطفالهم وخلق روابط عاطفية صحية معهم.
كيف تظهر صدمة الأجيال؟
صدمة الأجيال هي عبارة عن أحداث مفجعة حدثت قبل عقود من وجود الجيل الحالي، ومع ذلك لها أثر على طريقة فهمهم للحياة والصدمات والتعامل معها والشفاء منها.
يمكن أن تتجلّى هذه الآثار النفسية العميقة في العائلات بطرق مختلفة، ومنها أن تبدو الأسرة مخدَّرة عاطفيًّا، أو شديدة الحذر فيما يخص التعبير عن المشاعر، أو قد تعتبر الأسرة مناقشة المشاعر علامة على الضعف.
من علامات وجود صدمة الموروثة أيضًا، هي وجود مشكلة الثقة بالغرباء والحذر منهم بشكل مبالغ به، كما يمكن أن تبالغ العائلة بمحاولة حماية أطفالها أو أفرادها حتى بحالة غياب الخطر بشكل كامل.
من الممكن أن تشمل أعراض صدمة الأجيال أيضًا الحذر المفرط وانعدام الثقة ومحاولة الانغلاق، واحتمالية وجود القلق الشديد والاكتئاب ونوبات الهلع والكوابيس والأرق، بالإضافة إلى قضايا تدنّي احترام الذات والثقة بالنفس.
كما يمكن أن تؤثر هذه الصدمة الموروثة على عمل جهاز المناعة، إما أن يكون نشطًا جدًّا وإما غير نشط بدرجة كافية؛ ووفقًا لإحدى الدراسات، عندما تكون الخلايا الدبقية الصغيرة في حالة ردة فعل عالية للصدمة، يؤدي ذلك إلى حدوث تآكل في النهايات العصبية بدلًا من تعزيز النمو، ويمكن أن يؤدي تعثر عمل الخلايا الدبقية الصغيرة الموجودة في الدماغ إلى الاكتئاب والقلق والخرف، ومن ثم حدوث تغيُّرات وراثية يمكن أن تنتقل إلى أجيال أخرى.
هل هناك علاج لصدمة الأجيال؟
نحتاج إلى علاج هذا النوع من الحالات النفسية وإلى تدخُّل المختصين بشكل شامل ومكثف، غالبًا ما يتضمن هذا العلاج الفرد، مع وجود خيار العلاج الجماعي أو ما يُعرف بالعلاج الأسري.
وفقًا لأحد الباحثين في هذا المجال: “إن معرفة أنك لست وحيدًا أو عاجزًا، ومعرفة أنه قد تكون هناك عوامل خارجة عن إرادتك أدّت إلى هذا الوضع، قد يساعد في معالجة الصدمة، فعندما نعالج الأشياء ونفهمها يمكننا إيجاد آليات للتكيُّف معها، وعندما نجد آليات للتكيف يمكننا أن نشفى، ونعيد تعريف أنفسنا، واستعادة جزء من حياتنا”.
من الضروري جدًّا إيقاف حلقة صدمة الأجيال، الأمر الذي قد يتطلب قدرًا كبيرًا من التشجيع والدعم، ولذلك تعمل بعض الدول المتقدِّمة على تقديم شتى أنواع الدعم التي تشمل الدعم المالي ودعم الإسكان والرعاية الصحية والتعليم والدعم الغذائي والعلاج الفردي وغيرها من الموارد، لأنها جميعها تساهم بوقف ناجح لصدمات الأجيال.