ما سبب ارتفاع معدل الاستقالات خلال العقد الماضي؟

ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال هذه السنة، تساءل العديد من أرباب العمل عما إذا كان موظّفوهم يفكّرون في الاستقالة أم أن ما يحدث عبارة عن “موجة استقالات كبرى” – حسب المصطلح الشائع. هل يترك الناس وظائفهم بنسق وعدد لم نشهده من قبل؟ ليس تماما. لقد أجريت مؤخرًا دراسة لفهم هذه الظاهرة بشكل كامل، ويبدو أن ما يحدث في الواقع هو عملية “إعادة ترتيب كبرى للأولويات”.
ترك حوالي أربع ملايين شخص وظائفهم في شهر نيسان/ أبريل. ولكن الارتفاع الحاد في معدل الاستقالات يرجع جزئيًا إلى ارتفاع الطلب على اليد العاملة بعد عامين من تشبث الناس بوظائفهم في ظروف اقتصادية متقلّبة. إننا نسير في اتجاه نسبي مقارنة بارتفاع معدل الاستقالات على امتداد العقد الماضي. أما الإحصاء الآخر الذي من الشائع الاستشهاد به لتفسير فرضية “موجة الاستقالات الكبرى” هو أن ما يصل إلى 95 بالمئة من القوى العاملة يفكرون في ترك وظائفهم. وفي هذه الحالة لابد من الإشارة إلى أن “التفكير” في ترك العمل لا يعني “ترك” العمل فعليًا، هذا إلى جانب حقيقة أن تطلع الموظفين إلى فرص جديدة ساد منذ أن أصبح استعمال “لينكدإن” أكثر شعبيّة.
أنا أعتقد أن معرفة ما إذا كان الموظفون يُفكّرون في ترك وظائفهم ليس بقدر أهمية فهم سبب تفكيرهم في الاستقالة في المقام الأول. في هذا الصدد، عملت مؤخرًاعلى تجميع بيانات كشفت العديد من الاتجاهات التي قد تساعد في فهم هذه المعضلة. وتظهر النتائج فهمًا أكثر واقعية لما يجب على أرباب العمل التفكير فيه ومعالجته.
دوافع اتخاذ قرار الاستقالة
أولًا، راجعت عددا من البحوث المنشورة في مجلات مراجعة النظراء في مجال السلوك التنظيمي. وقد كشفت المراجعة أنه يقف وراء رغبة الموظفين في ترك وظائفهم 14 سببًا شاملًا. بعد ذلك، اخترت مشاركين لإكمال الاستطلاع باستخدام لوحة خدمة البيانات عبر الإنترنت. وتتألف العينة من مجموعة متنوعة ديموغرافيا (العمر، والجنس، والحالة الاجتماعية، وما إلى ذلك) مكوّنة من 233 موظفًا يعملون بدوام كامل عبر مجموعة متنوعة من الصناعات (التصنيع، والرعاية الصحية، والعقارات، والتعليم، وتكنولوجيا المعلومات).
وقد أجاب كل مشارك على السؤال التالي: ماذا تفعل إذا افترضنا أن ظروف العمل “سيئة للغاية”؟ وكان على المشاركين اختيار إجابة من بين ثلاث فئات: أ) عدم البدء في البحث عن وظيفة، ب) بدء بحث سلبي عن وظيفة (على سبيل المثال، الاستمتاع بخيارات بديلة)، ج) بدء بحث نشط عن وظيفة (أي مغادرة مكان العمل حتمًا).
وتشير الفئات أدناه إلى الأسباب الخمسة التي من المرجح أن تدفع الموظف إلى بدء بحث نشط أو سلبي عن عمل جديد:
1- الاحتياجات المالية: المقابل المالي غير تنافسي.
2- التوازن بين العمل والحياة الشخصية: يستنزف العمل كل وقتك أو طاقتك بشكل يمنعك من الاستمتاع بالأنشطة غير المتعلقة بالعمل.
3- سياسات العمل عن بعد: عدم توافق في تفضيلات العمل عن بُعد والسياسات التنظيمية.
4- عدم الاهتمام بالوظيفة الحالية: لا تحب المهام اليومية الموكلة إليك.
5- القلق بشأن استقرار العمل والمؤسسة: أنت قلق من أن تفقد عملك.
وفيما يلي الأسباب الخمسة التي قد تكون أقل تحفيزًا للموظف حتى يبحث عن وظيفة جديدة:
1- الركود: محدودية فرص التقدم والترقية.
2- الحاجة إلى الاستقلالية: لا تسمح لك الوظيفة/ المؤسسة باتخاذ قراراتك الخاصة.
3- انعدام النمو: محدودية فرص التحدي أو تعلم شيء جديد.
4- الإدماج أو الانتماء: لا تشعر بأنك جزء من “المجموعة”، أو لا تشعر بالتقدير لتفردك.
5- التأثير الاجتماعي: لا تؤمن بالقيمة التي تقدمها مؤسستك للعملاء أو المجتمع ككل.
في جميع الفئات الـ 14 التي تمت دراستها، قال حوالي ثلث المشاركين إنه إذا كانت هذه الفئة سيئة للغاية، فإنهم سيبدأون بحثًا سلبيًا عن وظيفة. وكان الفارق الحقيقي في الفئات التي من شأنها أن تدفع الموظف إلى البحث بنشاط عن وظيفة جديدة.
في هذا الإطار، أفاد 50 بالمئة من المستجوَبين أو أكثر بأنهم سيبحثون بنشاط عن عمل لتلبية هذه الاحتياجات الرئيسية الثلاثة وهي: الاستقرار المالي والقدرة على تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية ووجود سياسات تنظيمية واضحة للعمل عن بُعد. وإذا كانت المؤسسات قلقة بشأن موجة الاستقالات، فعليها أن تهتم بهذه الجوانب.
مشاعر العمال واحتياجاتهم
دائمًا ما تلعب الاحتياجات المالية دورًا في زيادة عدد الاستقالات، وهذا الأمر ليس جديدا. فإذا شعر الموظفون بأنهم لا يتلقون الأجر الذي يستحقونه، فسوف يبحثون عن عمل آخر. لكن حقيقة أن الموظفين يولون القدر ذاته من الأهمية للتوازن بين العمل والحياة الشخصية وسياسات العمل عن بُعد هو الجانب الأكثر الأهمية الذي كشفته الدراسة.
في الوقت الحالي، يهيمن هذان الجانبان بشكل كبير على محادثات الموظفين المتعلقة بالعودة إلى العمل. ويكافح أصحاب المؤسسات لتقبل حقيقة أن الموظفين ليسوا مستعدين للعودة إلى المكتب والعمل بالنظام القديم. بات الموظفون أكثر ميلًا نحو تجنب التنقل والمشاكل التي تنشأ عن العمل في المكتب، ويبحثون عن استراتيجيات تمكنهم من إدارة وقتهم بين العمل والمنزل. لكن هذا ينبغي ألا يفاجئ أرباب العمل: فعلى مدار السنتين الماضيتين، كان الموظفون مطالبين بتحمّل أعباء العمل في ظل التعامل مع حالة عدم اليقين والتحديات التي تفرضها جائحة كوفيد-19. ومع الاحتراق النفسي يصبح الموظفون أكثر توقًا إلى تحقيق التوازن بين حياتهم المهنية والشخصية.
تتباين مواقف أرباب العمل حول ما إذا كانوا سيطلبون من الموظفين العودة إلى العمل من المكتب. تطلب أقلية من الشركات من الموظفين الحضور إلى مقراتها والعمل بدوام كامل، وذلك على الرغم من أن الغالبية العظمى من الشركات تتجه نحو نظام العمل الهجين. في هذه الحالة، ينبغي أن يتمعّن أرباب العمل في القرارات المتخذة بشأن مكان العمل وأن يدركوا مدى أهمية توفير خيارات عمل مرنة للموظفين.
أصبح نمط العمل الهجين سائدًا حاليًا، ولكن هناك اختلاف واضح حول تصورات العمل الهجين. في الحالات المتطرفة، يكون أفضل خيار بالنسبة للموظفين هو أن تكون مسألة العمل من المنزل أو في المكتب اختيارية بالكامل: أي أن اللجوء إلى العمل من المكتب لا يكون إلا في الحالات الضرورية وليس إلزاميًا. في المقابل، يعد إيجاد حل وسط يشمل اعتماد أيام محددة للعمل من المنزل وفي المكتب من الحلول التي لم يقع اختبار مدى نجاعتها في السابق. لكن من غير الواضح ما إذا كان الموظفون سيعتبرون هذه القرارات مرْضية فيما يتعلق بتفضيلاتهم للتوازن بين العمل والحياة الشخصية ورغبتهم في خيارات العمل عن بُعد.
المرونة ضرورية، لكنها لا تقل أهمية عن التنظيم
توصلت الدراسة إلى ثلاث نتائج جديرة بالاهتمام لكنها غير متوقعة نسبيًا. أولاً، لم تكن تفضيلات الموظفين الخاصة بالمرونة – الأيام والأوقات المتوقعة التي يجب أن يكون الموظف متاحًا فيها للعمل – من أولوياتهم القصوى. ويشير هذا إلى أن الموظفين أقل اهتمامًا بالتواجد أو تسجيل الدخول في أيام وأوقات محددة مسبقًا، لكنهم يميلون نحو خيار القيام بذلك عن بُعد إذا لزم الأمر. يتماشى هذا مع ما اقترحته مؤخرًا على بعض المؤسسات التي تتبنى سياسة العمل الهجين الذي يرتكز على “استبدال التفاعل غير الرسمي وغير المخطط له داخل المكتب بجلسات بناء الفريق شبه المنتظمة والمنظّمة لضمان استمرار التعاون والثقة والألفة بين أعضاء الفريق كما في السابق”.
أما الاستنتاج الثاني غير المتوقع الذي توصلت له الدراسة يشمل الفئات الثلاث المتعلقة بفرص التعلم والنمو والتطوّر. وقد كانت هذه الفئات على رأس اهتمامات الموظفين. عموما، يؤكد الموظفون أنهم يريدون توسيع مهاراتهم وصقلها باستمرار لأنها تُترجم إلى تعويضات أو ترقيات أو فرص أعلى للعمل في مناصب أكثر إرضاءً لطموحهم الوظيفي. ومن المثير للاهتمام أن نتائج هذه الدراسة تظهر أن الركود الاقتصادي وانعدام الاستقلالية وتراجع النمو من الأسباب الأقل أهمية في دفع الموظفين إلى البحث عن عمل.
أما الجانب الثالث غير المتوقع هو التوجهات الديموغرافية، التي تبين أن لها تأثيرًا على تفضيلات الموظفين. قمت بتحليل ما إذا كانت هناك اختلافات بين مجموعات فرعية محددة، مثل الفروق بين الجنسين ومختلف الأعراق وإنجاب الأطفال أو عدم وجود أطفال، والشريك العامل والأعمار، والمراحل المهنية. قد يفترض المرء أن أولوياتنا، لاسيما تلك المتعلقة بالتوازن بين العمل والأسرة أو تفضيلات العمل عن بُعد، ستتأثر ببعض العوامل السالف ذكرها، ولكن التأثير لم يكن جوهريًا كما هو متوقع. كان الاختلاف الطفيف الوحيد هو أن الموظفين في بداية حياتهم المهنية يفضلون العمل عن بعد باعتباره أفضل خيار لهم، ثم تأتي الاحتياجات المالية؛ لكن التوازن بين العمل والأسرة لم يكن من الخيارات الخمسة الأولى لتفضيلات الموظفين.
تظهر هذه النتائج أن الموظفين يستغرقون وقتًا لإعادة ترتيب أولوياتهم، وهو الأمر الذي قد يحول دون تفكيرهم في الاستقالة. إذا تعامل أرباب العمل مع الموقف بحكمة، فمن المحتمل أن تكون المؤسسات حينئدٍ قادرةً على الاستفادة من هذه الأولويات الجديدة ليس فقط للاحتفاظ بموظفيها الحاليين بل لجذب موظفين جدد أيضًا. ومع عودة الموظفين إلى مزاولة العمل من المكتب، ينبغي على أرباب العمل التفاعل مع موظفيهم بحذر شديد وشفافية وعقلية منفتحة. ومن المرجح أن فشلهم في القيام بذلك سيؤدي إلى هجرة جماعية للموظفين الراغبين في الحصول على فرص عمل ملائمة.
المصدر: سايكولوجي توداي