ترجمة وتحرير: نون بوست
دفع انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أوروبا الشرقية إلى بحث دول المنطقة عن شركاء جدد، من بينها بولندا التي تدرس خيارات تعزيز العلاقات مع تركيا باعتبارها ثقلا موازنًا لروسيا. ومن جهتها، ترى تركيا في انضمامها إلى مشروع “اتحاد إنتيرماريوم” إلى جانب بولندا خطوة مهمة لمد جسر علاقات يمتد من آسيا إلى أوروبا. وفي الواقع، فإن آفاق التعاون التركي البولندي لا يحددها الوضع الراهن لكلا البلدين فحسب، بل أيضًا خطط تشكيل اتحاد جديد يجمع بين بحر البلطيق والبحر الأسود.
إن الهدف من إنشاء تركيا محورًا اقتصاديًا عسكريًا بين الشمال والجنوب، يجمع بين دول حوض بحر البلطيق والبحر الأسود (تركيا وأوكرانيا وبولندا ودول البلطيق)، هو تزويد بولندا وأوكرانيا بأحدث الأسلحة مثل طائرات بيرقدار تي بي 2 وإبرام عقود عسكرية طويلة الأجل. وقد وقّعت كل من تركيا وبولندا في 24 أيار/ مايو خلال الزيارة التي أداها الرئيس البولندي أندجي دودا إلى تركيا، اتفاقًا يقضي بتزويد وارسو بطائرات مسيّرة تركية الصنع.
وفي إرسال بولندا طائرات إلى قاعدة إنجرليك التركية وتحليق طائرات تركية من طراز “إف.16” في سماء بولندا كجزء من مهمة استطلاع لحلف الناتو، دليل على التعاون البولندي التركي في المجال العسكري. كما يشارك ضباط من الجيش التركي في مهمات مختلفة لحلف شمال الأطلسي في بولندا ودول البلطيق.
تلفت وزارة الخارجية البولندية بشكل دوري نظر الأتراك إلى مدى الترابط بين تركيا وبولندا. وفي أوائل 2014، احتفل البلدان بذكرى مرور 600 عام على العلاقات الدبلوماسية التي تسبق فتح العثمانيين للقسطنطينية بـ 40 عاما.
من شأن مشروع “إنتيرماريوم” الذي يقوم على اتحاد بحر البلطيق والبحر الأسود بمشاركة تركيا، أن يجذب عشرات الملايين من مؤيدي “القيم اليمينية المحافظة” ويعود الفضل في ذلك إلى التعبئة الأيديولوجية للإسلاميين الجدد (أنقرة) والمسيحيين الجدد (وارسو، الفاتيكان).
ذكر وزير الخارجية البولندي في مقابلة جمعته مع صحيفة “حريت ديلي نيوز” التركية أن هذه العلاقة طويلة الأمد تمثل علامة فارقة في تاريخ الدبلوماسية، مشيرا إلى أن رفض تركيا الاعتراف بتقسيم بولندا في نهاية القرن الثامن عشر محفور في ذاكرة البولنديين. وتعتبر بولندا نفسها “آخر معقل لأوروبا القديمة”، وهي تحارب التأثير المدمر لليبراليين المتطرفين متعددي الجنسيات الذين استولوا على بقية الاتحاد الأوروبي، باستثناء بولندا والمجر.
من شأن مشروع “إنتيرماريوم” الذي يقوم على اتحاد بحر البلطيق والبحر الأسود بمشاركة تركيا، أن يجذب عشرات الملايين من مؤيدي “القيم اليمينية المحافظة” ويعود الفضل في ذلك إلى التعبئة الأيديولوجية للإسلاميين الجدد (أنقرة) والمسيحيين الجدد (وارسو، الفاتيكان).
في ظل تركيز كل من روسيا والولايات المتحدة على التصدي للنفوذ الصيني المتنامي، يسعى خبراء الاستراتيجية في الاتحاد الجيوسياسي التركي البولندي الجديد إلى تحقيق أقصى استفادة من مشروع “إنتيرماريوم”. ظهر مشروع الشراكة الشرقية في 2008 باقتراح من وارسو بعد فترة وجيزة من فشل العدوان الجورجي في أوسيتيا. وتعتبر بولندا المتعهد الرئيسي للمشروع في الغرب بمشاركة أوكرانيا وبيلاروسيا ومولدوفا، بينما تعتبر تركيا المتعهد الرئيسي للمشروع في الجنوب بمشاركة أذربيجان وجورجيا وأرمينيا.
تلعب كل من بروكسل وواشنطن دورا أيضا باعتبارهما الرعاة الرسميون للمشروع الذي يهدف إلى توسيع دائرة النفوذ السياسي والاقتصادي لتركيا وبولندا وتضييق مجال النفوذ الروسي في جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفيتي، فضلا عن إخراج روسيا من القوقاز وأوروبا الشرقية، وفصل جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفيتي عن روسيا الفيدرالية.
كما يهدف المشروع إلى إعادة توجيه جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفيتي نحو بولندا وتركيا وإنشاء بديل لرابطة الدول المستقلة ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، مع دمج قطاع الطاقة الإقليمي والبنية التحتية والأسواق في جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفيتي مع الاتحاد الأوروبي.
لماذا تم تكليف بولندا وتركيا بدور متعهدي الشراكة الشرقية وإنتيرماريوم؟
هذا السؤال أجاب عنه الرئيس التنفيذي لشركة المخابرات العالمية “ستراتفور” جورج فريدمان، في مقابلة تاريخية جمعته مع صحيفة “الجمهورية” البولندية.
أوضح جورج فريدمان أن “المشكلة الاستراتيجية تتمثل في عودة روسيا إلى الحدود البولندية عبر بيلاروسيا في السنوات القادمة، مع العلم أن بولندا تقع في منطقة شديدة الحساسية بين روسيا وأوروبا. تعد بولندا حليفًا للولايات المتحدة، التي تعتبر الطرف الوحيد القادر على كبح جماح الطموحات الروسية في المنطقة. وبالنظر إلى تقاطع المصالح الروسية والألمانية في مجال الطاقة، يمكن لألمانيا إنشاء تحالف يجمع دول أوروبا الغربية وروسيا – وهو ما لن يسمح بحدوثه الأمريكيون على الإطلاق”.
كانت الإمبراطورية العثمانية والكومنولث البولندي الليتواني الذي شمل قبل تقسيم أراضي أوكرانيا الحالية دول البلطيق وبيلاروسيا ومولدافيا، الخصوم الرئيسيين لروسيا ما بين 1500 و1871.
ويرى فريدمان أن تحول بولندا إلى حليف استراتيجي للولايات المتحدة مدفوع بالرغبة في التصدي لزحف روسيا نحو الغرب والدفاع عن خط الكاربات. وسوف تبذل الولايات المتحدة كل ما في وسعها لتعزيز قوة بولندا. على صعيد آخر، سوف تنخفض قوات ألمانيا وروسيا في المنطقة بشكل كبير في العقود القادمة، لينشأ عن ذلك فراغ لن يملأه سوى لاعب قوي جديد توحي جميع المؤشرات إلى أنه سيكون بولندا، لا سيما بالنظر إلى إمكانية تقهقر روسيا وفقدان ألمانيا إشعاعها”.
فيما يتعلق بإمكانية تحول تركيًا إلى منافس جديد للقوى العظمى في أوروبا في ظل تراجع القوى القديمة، قال فريدمان: “خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر كانت ألمانيا دولة مجزأة وضعيفة ولم تكن أي جهة تولي اعتبارًا لروسيا، بينما كانت بولندا آنذاك دولة قوية وكانت الإمبراطورية العثمانية التي خضنا حروبًا معها على الحدود الجنوبية الشرقية منافسنا الرئيسي. في عملي الجديد بعنوان “كتاب المائة عام القادمة: توقعات للقرن الحادي والعشرين” وضعت خريطة بولندا قبل التقسيم، لأن التاريخ يحب أن يعيد نفسه”.
كانت الإمبراطورية العثمانية والكومنولث البولندي الليتواني الذي شمل قبل تقسيم أراضي أوكرانيا الحالية دول البلطيق وبيلاروسيا ومولدافيا، الخصوم الرئيسيين لروسيا ما بين 1500 و1871.
يفترض المشروع الجيوسياسي البولندي التركي الحالي تحول تركيا إلى بوابة إقليمية تتيح لبولندا الوصول إلى جنوب شرق أوروبا والشرق الأوسط وآسيا. وتحقيقا لهذا المأرب، سيتم افتتاح خط سكة حديد يربط بين بولندا وتركيا في المستقبل القريب. ولعل ذلك ما أكده رئيس غرفة التجارة التركية البولندية ماريك نوفاكوفسكي بقوله: “تتعامل شركاتنا مع تركيا لكونها الدولة المهيمنة في منطقتها، ما يجعلها بديلا عن الصين. كما تعرف المنتجات التركية بجودتها العالية مقارنة بنظيرتها الصينية. وإنشاء خط سكك حديدية مجرد بداية لتعاون سيعود بفوائد جمة على البلدين”.
لم يخف ريتشارد مور المعروف بمعارضته لفكرة إنشاء دولة كردستان المستقلة، اعتباره تركيا والعالم التركي قوة إقليمية يمكنها دحر ألمانيا والصين وروسيا من المنطقة.
من المتوقع أن يغطي مشروع إنتريماريوم التركي البولندي في غرب القارة الأوروبية 30 بالمئة من أراضي الاتحاد الأوروبي، أي ما يعادل 12 دولة و112 مليون نسمة. ووفقا لتقديرات مختلفة، يضخ صندوق الاستثمار الذي أنشأته الدول المشاركة ما بين 300 مليون دولار ومليار دولار في قطاع الطاقة في أوروبا.
وخلال السنة الماضية، أيّد رئيس استخبارات السياسة الخارجية البريطانية “إم آي6” ريتشارد مور – الذي تجمعه علاقات صداقة مع أردوغان – فكرة “طوران العظيم” (مشروع يهدف الى توحيد الشعوب الناطقة بالتركية) ورهاب روسيا. كما تجمع ريتشارد مور علاقة صداقة مع رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، الذي له علاقات مع كبار ضباط إدارة العمليات الخارجية في جهاز الاستخبارات التركي.
شغل ريتشارد مور منصب السفير البريطاني في تركيا ما بين 2014 و2018، وكان من بين الشخصيات التي دعمت أردوغان ونظمت رحلاته إلى لندن بما في ذلك حفل استقبال في القصر الملكي. ورغم الانتقادات الشديدة للرئيس التركي من جانب واشنطن وبروكسل بسبب الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان أثناء حالة الطوارئ، أصبحت لندن أقرب حليف لأنقرة بفضل أنشطة مور.
أدى مور أيضا زيارة إلى باكو للإطلاع عن كثب عن الوضع في شمال القوقاز في أبخازيا. ولم يخف ريتشارد مور المعروف بمعارضته لفكرة إنشاء دولة كردستان المستقلة، اعتباره تركيا والعالم التركي قوة إقليمية يمكنها دحر ألمانيا والصين وروسيا من المنطقة.
ساندت الإمبراطورية العثمانية لعدة قرون بريطانيا على حساب روسيا، وبفضل مساعدتها وصل البريطانيون إلى مبتغاهم في آسيا الوسطى والقوقاز. ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، إذ يستعد البريطانيون لإعادة حرب القرم التي وقعت في القرن التاسع عشر بمساعدة تركيا. أما بالنسبة للبولنديين، فقد شاركوا على مدى السنوات العشرين الماضية مثلهم مثل الأتراك في تقوية الدولة القومية تحت إشراف الأنجلو ساكسونيين وحلف شمال الأطلسي. والآن يسعى الأتراك والبولنديون، بمساعدة الأنجلوسكسونيين، إلى الحد من نفوذ روسيا من خلال تعزيز العلاقات الثنائية التي يعود تاريخها إلى 600 عام.
المصدر: المركز الروسي الإستراتيجي للثقافات