“عملي هو الأسهل، وأنا أفعله عن حب وقناعة، ولكن أنا حزين على مئات الأطفال الذين أجبرتهم الظروف على العمل بمهن شاقة، وما أعمله هو محاولة لتسليط الضوء على معاناة الأطفال السوريين”؛ هذه الكلمات قالها محمد الأسمر (13 عامًا) وهو يساهم برسم لوحة تضامنية للطفلة اليابانية ميجومي يوكاتا، أيقونة المختطفين اليابانيين لدى كوريا الشمالية.
لم يتوقف الأسمر عند الرسم، فالطفل أيضًا يخرج أمام الكاميرا بكل ثقة، متوسِّطًا مجموعة من الأطفال الذين هُجِّروا من قراهم باتجاه مخيمات الحدود السورية التركية في إدلب، ليتكلم بلغة إنكليزية واضحة عن مشاكل في شمال غرب سوريا، وما يعانونه جرّاء ويلات القصف والتهجير وانعكاسات ذلك على جميع مناحي حياتهم اليومية، وكذا مستقبلهم المجهول في المخيمات.
كيس لا حقيبة
عشرات الأطفال لا تتجاوز أعمارهم الـ 15 عامًا يطوفون المناطق السكنية في شمال غرب سوريا، على ظهورهم أكياس تفوق حجمهم، يجمعون فيها القطع البلاستيكية من القمامة ليقوموا ببيعها بغية تأمين قوت يومهم.
في الصباح الباكر حين يتوجّه الأطفال للمدارس، يتوجب على عشرات الأطفال في إدلب التوجُّه باتجاه معاكس يصل إلى الحاويات ومكبّات النفايات.
فرحان (12 عامًا) (اسم مستعار للطفل بناءً على طلب ولي أمره)، هو أحد هؤلاء الأطفال، قال لـ”نون بوست” إنه “علينا التوجه مبكّرًا إلى مكبّ النفايات لنستطيع جمع أكبر قدر من البلاستيك لنبيعه”. لا يخفي فرحان أنه يفضّل الدراسة على العمل، ولكن لا بديل لديه، فوالده عاجز عن الحركة، وعليه مع أخيه الأصغر العمل لإطعام العائلة وتأمين آجار المنزل.
عمل شاقّ وأجور زهيدة
تختلف الأعمال التي يمارسها الأطفال في إدلب، ولكن 80% منها هي أعمال شاقة وصعبة كأعمال البناء والحدادة والنجارة وصيانة السيارات، ومعظمها تكون مقابل أجور زهيدة تصل في أفضل الأحوال لدولار واحد في اليوم.
بثياب ملطخة ببقع الشحم وزيت السيارات، يسير سعد (15 عامًا) على قدمَيه يوميًّا لمسافة طويلة، ليصل إلى ورشة صيانة السيارات التي يعمل بها في المدينة الصناعية على أطراف مدينة إدلب، ويتقاضى مقابل عمله أجرًا ماديًّا لا يتجاوز الـ 10 ليرات (أقل من دولار أميركي).
لم يكن العمل بالصيانة هو عمل سعد الأول، فبعد نزوحه مع عائلته من قريتهم قبل 3 سنوات، اضطرَّ للعمل بعدّة مهن شاقة حيث سبق وعمل بورشة بناء بسبب تأخُّر صاحب عمل بدفع الأجر له.
شرّ لا بد منه
تقف منى (42 عامًا) كل مساء على باب خيمتها تنتظر ابنها جود، الذي يقترب من الخيمة وهو يحمل بعض الحلويات البائتة لأخوته من المخبز الذي يعمل به في ريف إدلب الشمالي.
منى وعائلتها من نازحي ريف إدلب الجنوبي، ويعيشون بمخيمات أطمة على الحدود السورية التركية، بعد هدم منزلهم جرّاء استهدافه بغارة جوّية قبل عامَين أدّت إلى قتل زوجها، وجدت نفسها في أحد المخيمات مع 4 أبناء.
ولإعالة أطفالها حاولت منى مرارًا إيجاد عمل ولكن بلا جدوى، ومع نقص المساعدات الإنسانية من قبل المنظمات والجهات الداعمة، وتردّي أوضاعهم المعيشية، وجدت نفسها مضطرة للسماح لابنها الأكبر جود (14 عامًا) بالعمل من أجل تأمين القوت لباقي أخوته.
تقول منى لـ”نون بوست”: “ابني هو من طلب العمل مني لتأمين مصروف المنزل، رفضتُ بدايةً قبل أن أسمح له بالعمل بعد ان أصبح المنزل خاويًا من الطعام. يكاد قلبي يتقطّع من الحزن عندما أراه يخلد إلى فراشه في أرض الخيمة بعد أن خارت قواه خلال اليوم في العمل، وأحيانًا ينام حتى قبل أن يتناول الطعام من شدة التعب”.
التهجير يفاقم المشكلة
بحسب القواعد الناظمة لعمل المنظمات الإنسانية العاملة في مجال الطفل، فإن عمالة الأطفال هي معيار ينطبق على الأطفال الذين يعانون نقصًا معيّنًا بالرعاية المقدَّمة لهم، ولا يحصلون على حق الحياة طبيعية والرعاية الجيدة التي تسمح لهم بالاستمرار بحياتهم بشكل طبيعي.
ويقول فيصل الحمود، منسِّق منطقة إدلب ضمن برنامج الحماية في منظمة حرّاس الطفولة: “بسبب الظروف المعيشية التي يعاني منها الطفل وعائلته أو ثقافة مجتمع الطفل أو عاداته، يُطلَب من الطفل الانخراط بسوق العمل لمساعدة أهله في تأمين تكاليف المعيشة أو لتعلم مهنة معيّنة عادة تكون متوارثة بين أفراد العائلة، وهنا يجب على المنظمات المهتمة بالطفل التدخُّل لمساعدته، خاصة إذا كان يعمل بمهنة خطيرة غير مناسبة لعمره أو لقوته الجسدية، ما يشكّل خطرًا على حياته”.
وأضاف الحمود: “إن هذه الظروف قد تكون مثالية بالمقارنة بظروف الاطفال في شمال غرب سوريا، فموجات التهجير المتلاحقة وانعدام خدمات التعليم في معظم المخيمات، بالإضافة إلى سوء الأوضاع المعيشية وحالات اليتم وفقدان المعيل، قد ساهمت بزيادة ظاهرة عمالة الأطفال بشكل كبير، حيث إن معدل عمالة الأطفال في سوريا يرتفع سنويًّا، ففي عام 2019 كان لدينا حوالي 100 حالة عمالة أطفال مسجّلة ضمن شبكة حرّاس الطفولة، لكن العدد تضاعف 4 مرات في عام 2020 حيث سجّلنا في الشبكة 395 حالة عمالة أطفال وهذا العدد مرشّح لزيادة كبيرة هذا العام”.
ويؤكد الحمود أن الأرقام السابقة هي فقط للحالات المسجَّلة ضمن منظمة حرّاس الطفولة، عدا الحالات المسجَّلة في منظمات أخرى والحالات التي لم تسجَّل إلى حدّ الآن.
وبحسب تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، إن “4 من بين 5 أشخاص من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، ما يدفع بالأطفال لاتخاذ تدابير قصوى للبقاء على قيد الحياة، مثل التوجّه إلى عمالة الأطفال وزواج القصّر والتجنيد للقتال، وذلك لمساعدة أفراد عائلاتهم في سد الرمق”.
تفرض صعوبة الحياة وسوء الأوضاع المعيشية وطول أمد النزاع شعورًا بعدم جدوى التعليم في الوقت الحالي، لذلك يتوجه الكثير من الأطفال واليافعين لسوق العمل بدل المدرسة لمساعدة أهلهم في مصاريف المعيشة وعدم تحميل أُسرهم تكاليف إضافية بسبب التعليم.