متى وجِد الاستعمار وجِد النضال والمقاومة، وقد يستمر الاستعمار – كما الاحتلال الإسرائيلي – لأجيال متلاحقة، وحينها توجد الحاجة لتوثيق النضال والتجارب النضالية لتكون إلهامًا للأجيال في نضالهم، وتأريخًا أن هذا الشعب لم يرض الاحتلال، ولم تهن قضيته في قلبه، بل فداها بدمه وروحه وعمره خلف القضبان، وكذلك الفلسطينيون، منذ بدأت القضية وفي مقاومتهم المستمرة ضد الاحتلال الإسرائيلي، سطروا قصصًا نضالية وعمليات استشهادية وأذاق الاحتلال نار غضبه وغيرته على أرضه.
في هذه الحواريّة من سلسلة “حرّاس الرواية الفلسطينية” يحاور “نون بوست” أنس الأسطة حول مؤسسة قامات لتوثيق النضال الفلسطيني، ودورها في حفظ النضال وتأريخه، القريبة، والأسطة ابن مدينة نابلس المحتلة، ذو الـ 28 عامًا، ويعمل في عدد من المؤسسات الأهلية الفلسطينية، اعتقل الاحتلال والده وهو في عمر الطفولة، وهو المؤسس ورئيس مجلس الإدارة لمؤسسة قامات، وتجد الإشارة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي اعتقل الأسطة بعد يوم واحد من حوارنا معه، في إطار محاربته وملاحقته كل من يقاوم بأي شكل من الأشكال، ونرجو له الحرية.
بداية، لو تخبرنا كيف بدأت فكرة “قامات”؟
فكرة قامات بدأت من خلال تجربة شخصية وثقناها لوالدي عندما وجدنا أرشيفًا حقيقيًا لأول يوم اعتقال له بعد عملية “الشاحنة والسيف” التي نفذها في مخيم عسكر بمدينة نابلس المحتلة، وكانت من أوائل عمليات دهس الجنود الإسرائيليين، وبعد 27 سنة وجدت هذا المقطع المصور بالصدفة، متزامنًا مع وجود مقطع مصور لوالدي بعد خروجه من السجن بعد 15 عامًا، فكرت حينها بتوثيق تجربة والدي في فيلم مدته 17 دقيقةً، وكان فيلمًا وثائقيًا دراميًا.
بعد هذه التجربة رأيت أن هناك آلاف التجارب مثل تجربة والدي التي بحاجة للتوثيق، لحفظ الإرث النضالي للمقاومين الذين كان لهم دور في النضال الفلسطيني، ومن هنا انطلقت فكرة قامات بحفل إطلاق رسمي في 22 أبريل/نيسان 2017 بعرض الفيلم الأول الذي انبثقت منه المؤسسة.
دعنا نسلط الضوء على بناء محتواكم، كيف تبنون رسالتكم؟
المحتوى لدينا يعبر عن أشكال النضال الفردية للمناضلين، وقد أخذنا ميزة المؤسسة الأولى من نوعها في فلسطين لتوثيق التجارب النضالية الفردية عن طريق أفلام وثائقية ومقاطع قصيرة وطرق عرض أخرى، وخلال السنوات الأربعة من عمرنا أصبح لدينا 10 أفلام وثائقية من 10 تجارب نضالية، نراعي خلالها عددًا من المعايير في “قامات”، أولها تعدد الفصائل الفلسطينية كي لا توسم المؤسسة بطابع حزبي معين، انطلاقًا من أن النضال الفلسطيني لا يقتصر على حزب معين.
أما المعيار الثاني فهو تعدد المناطق الفلسطينية التي نوثق منها، وهذه فكرة قامات بأنه أينما وجد الفلسطيني هناك تجربة نضالية، وثالث معيار يتمثل في تعدد الديانات بحكم أن أخوتنا المسيحيين والسامريين لهم دور كبير في النضال الفلسطيني، وهو ما يدحض رواية الاحتلال بأنه فقط صراع ديني بل هو سرقة أرض.
والمعيار الرابع هو وجود دورٍ للمرأة الفلسطينية باعتبارها شريكًا أساسيًا في هذا النضال، أما خامسًا فهو تعدد أشكال النضال والمقاومة، ويعني أن النضال العلمي والأدبي والثقافي يوازي في بعض الأحيان العسكري ونضال الأسرى والجرحى.
ما أهمية أنسنة الرسالة بالنسبة لـ”قامات”؟
بالتأكيد يهمنا في قامات أن نغطي الجوانب جميعها للشخصية النضالية التي نوثق تجاربها، ونتجه لأن نبرز في بداية المقاطع المصورة الأمور الإنسانية في هذه الشخصية النضالية، لأنه من المهم أن يعرف الناس أن كل مناضل هو إنسان في الأصل، ولديه مشاعر وأحاسيس وعائلة ووطن، وهذا الأمر يؤثر في آلية توجيه رؤية الفيلم والناس التي ستراها، فمثلًا لدينا أكثر من فيلم كانت أنسنة المناضل سببًا رئيسيًا لفوز هذا الفيلم في مسابقات وجوائز دولية، وانتشاره في دول أوروبية وترجمته.
ما المصاعب التي تمر بها المؤسسة اليوم؟
كنا نتوقع بعض المصاعب منذ أول يوم أسسنا فيه قامات، وهي التمويل، فإذا أردنا أن ننظر إلى المؤسسات الموجودة في البلاد، فإن أغلب المؤسسات تذهب باتجاه وضع الأهداف التي تتوافق مع الممول الخارجي لها، وهذه مشكلة لقامات، فمن الصعب الحصول على مؤسسات أجنبية تمول قامات التي توثق تجارب شهداء وأسرى وجرحى ومناضلين كان لهم دور في النضال الفلسطيني، وذلك انطلاقًا من وجود مساعٍ غربية في طمس الهوية الوطنية الفلسطينية مقابل ترسيخ الرواية الإسرائيلية، لذلك التمويل يشكل صعوبةً كبيرةً في عمل قامات الذي يحتاج إلى دعم وجهد ووقت.
بما أننا نتحدث عن المصاعب، هل حاول الاحتلال التضييق عليكم بطريقة أو بأخرى؟
بالطبع يحاول الاحتلال التنغيص على أي مبادرة تسعى إلى توثيق ودعم النضال الفلسطيني، لكننا نحاول تجنب هذه الضغوط قدر الإمكان، أملًا في استمرار المؤسسة وأنشطتها ونقل ثمارها لاحقًا إلى الأجيال القادمة التي سوف تشاركنا المسؤولية لاحقًا في توثيق سيرة المناضلين الفلسطينيين.
ما المخاطر من وجهة نظركم، التي تحيط بالرواية الفلسطينية؟
من نظرنا فإن من أهم المخاطر عدم وجود جهة مؤسساتية تكتب الرواية، بل تقتصر على مبادرات فردية قد تنتهي مع الزمن، وخاصة موضوع الأسرى، فهناك تشديد كثير على الأسرى من كل النواحي، بخصوص رواية الأسير نفسه التي أصلًا بحاجة لمؤسسات ترعاها، ويمكن أن هذا الجانب تبتعد عنه المؤسسات انطلاقًا من أن حياة الأسير ومعيشته أهم من روايته وقصته، لكن الرواية مهمة أيضًا ويجب توثيقها للزمن.
هل مدت لكم أيادٍ من مؤسسات رسمية لدعم قامات؟
هناك عدد من المؤسسات التي دعمت فكرة قامات، وهناك بعض مؤسسات التي كانت داعمة معنوية، مثلًا وزارة التربية والتعليم وقعنا معها مذكرة تفاهم لعرض إنتاجاتنا في المدارس، وهذه إحدى أهم مذكرات التفاهم، وقد تبرعت لنا كذلك وزارة الاتصالات بالموقع الإلكتروني الخاص بقامات.
أين ترون قامات مستقبلًا؟
نحن في قامات لا ندعي قدرتنا على تجميع كل متعلقات الرواية الفلسطينية، بل نجتهد في ذلك ونرغب في أن تكون مؤسسات أخرى يكون لها جهود في الموضوع، لكي نعمل لاحقًا على تجميع هذه الجهود في متحفٍ واحد يضم جميع أشكال الرواية الفلسطينية.
لذلك، فإننا نأمل مستقبلًا أن تكون قامات مرجعية كبيرة لكل التاريخ الفلسطيني، خاصة من خلال توثيق التجارب الفردية التي كان لها دور في النضال الفلسطيني، نحن نسعى لتجسيد متحف افتراضي للمؤسسة، وتعزيز كل برامج المؤسسة من خلال العروض التي ننتجها، ونتطلع إلى أن تكون قامات جزءًا أساسيًا ورئيسًا في المنظومة القادمة التي تحافظ على إرث الشهداء والجرحى والأسرى، الذين هم منارتنا التي نستضيء بها في طريقنا باتجاه التحرير والوصول للدولة الفلسطينية الكاملة.