حي القصبة العتيق
مثل حي القصبة العتيق في العاصمة الجزائرية مقر السلطة ومركز الحكم طيلة عقود طويلة، كما كان حصنًا منيعًا ضد أعداء الدولة العثمانية، بُني على الطراز العثماني، ورغم محاولات الاستعمار الفرنسي طمس معالمه، فإنه ما زال محافظًا على البصمة العثمانية.
في هذا التقرير الجديد لـ”نون بوست” ضمن ملف الجزائر العثمانية سنتطرق لأحد أبرز الآثار العثمانية في الجزائر، حي القصبة العتيق، ذلك الحصن الذي لا يزال إلى يومنا محافظًا على التراث العثماني الأصيل، كأنه متحف تاريخي أصيل قائم في الهواء الطلق.
وصف حي القصبة العتيق
بيوت عثمانية
صنفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) حي القصبة العتيق سنة 1992، ضمن التراث الإنساني العالمي، ووصفته بأنه من أجمل المواقع المطلة على المتوسط، لما يحتويه من آثار تأسر القلوب قبل العيون.
شيدت “عروس المتوسط” أو “لؤلؤة الجزائر”، على الجبل المطل على البحر الأبيض المتوسط بالعاصمة الجزائرية، وكانت عبارة عن حصن يغلق ليلًا وله عدة أبواب في جهاتها الأربعة أهمها باب الوادي من الغرب وباب الجديد في الجهة العليا وباب الجزيرة من جهة البحر وباب عزون من جهة الشرق.
يحمل حي القصبة العتيق في باطنه كنوزًا تاريخيةً وقصصًا عجيبةً، إذ يضم مئات المنازل العثمانية الأثرية، تعانق بوجهها العتيق البحر على علو يزيد على 118 مترًا، تُعيد الناظر إليها إلى زمان عظيم وزاهر مضى يتمنى المرء رجوعه، بيوت زادتها تلك الأزقة والأنهج الضيقة والمتشعبة جمالًا على جمالها الأخاذ الساحر.
من مميزات قصر مصطفى باشا أن جميع أبوابه كبيرة الحجم مصنوعة من الحطب، بها باب صغير يسمى “خوخة” يفتح دائمًا في فصل الصيف
لهذه البيوت معمار خاص بها فقد بُنيت وفق المعمار العثماني، الداخل إليها يُخيل إليه أنه في قصر صغير ربما بسيط في بنائه، لكن فيه نفس البهرجة والزليج البهيج والدرابيز الخشبية المتقنة الصنع والأعمدة الرخامية.
تتميز هذه البيوت بالتقارب الشديد بين بعضها البعض، حتى إنك تستطيع اجتياز القصبة كلها عبر سطوح المنازل، تتكون بيوت القصبة غالبًا من طابقين، علوي وسفلي، ويحتوي هذا الأخير على ساحة مربعة الشكل مكشوفة دون سقف في وسطها يعرف بصحن الدار، كما تحتوي على بئر ونافورة ماء من حولها مشيَّدة بشكل جميل تزيده رونقًا وبهاءً، وتدور البيوت نحو الداخل، أي نحو الفناء الذي يعتبر قلب الحياة.
كما تتميز بيوت الحي أيضًا بنوافذ صغيرة مزينة بقضبان حديدية تدعى “كبو” توفر الضوء للمنزل، وأبواب توفر تهوية أزقة الطوابق السفلى بالهواء النقي، فضلًا عن الأعمدة المزركشة وسيراميك الأرضيات العتيق والجدران المزينة والأقواس المدببة المنسجمة.
قصور حي القصبة العتيق
إلى جانب هذه البيوت الجميلة، يضم “حي القصبة العتيق” أيضًا عدة قصور أهمها قصر مصطفى باشا، وقصور “خداوج العمية” و”الرياس” و”دار عزيزة”، قصور تغري زوارها بحكاياتها المشوقة وتفاصيلها المثيرة.
يتميّز قصر مصطفى باشا بدرجة عالية من الجمال والجاذبية، خاصة هندستُها المعمارية البديعة، فقد بني على شكل قلعة ويحتوي على ثلاثة طوابق، ناهيك بالأرضي الذي خصص لضيوف الداي، أما الطابق الأول للداي وعائلته، والثاني للأقارب، والطابق الثالث والأخير فخصصه للعبيد والعاملات بالقصر.
عند مدخل القصر مباشرة، تجد “سقيفة” جدرانها مزخرفة بأنواع رائعة من الرخام الخالص وبلاط مزركش بأشكال هندسية جميلة، بها مجالس لانتظار أمر الدخول للقصر، تليها قاعة الاجتماعات لديوان الوزراء وخطبة الداي، مزخرفة بأشكال ورسومات مختلفة تعود للقرن الـ18.
من مميزات قصر مصطفى باشا أن جميع أبوابه كبيرة الحجم مصنوعة من الحطب، بها باب صغير يسمى “خوخة” يفتح دائمًا في فصل الصيف، أما في الداخل فتوجد غرف كثيرة، على أحد جدرانها الخارجية توجد ثلاث فتحات تسمى “الريحيات”، وثلاث فتحات أخرى قرب سقف الغرفة تسمى “الشمسيات”، تستعمل لتهوية الغرفة.
ما يميز القصر الذي بني سنة 1798، في القصبة السفلى بالقرب من البحر، احتواءه على أكثر من 500 ألف قطعة بلاط رفيعة تملأ كل مكان فيه، وهي ذات ألوان جذابة ومرتبة بذوق فني رفيع، إضافة إلى أعمدة من السيراميك الإسباني والتونسي والإيرلندي.
فضلًا عن قصر مصطفى باشا نجد قصر “خداوج العمية” الذي يقع أسفل حي القصبة، يعد هذا المكان تحفةً خالدةً وأسطورةً عثمانيةً حيةً وأحد الروائع المعمارية النادرة التي تتلألأ قبالة الواجهة البحرية الموروثة عن العهد العثماني.
مرور الزمن ومخلفات الاستعمار الفرنسي، لم تفقد هذا المعلم التاريخي رونقه الخاص، فجدرانه وأعمدته وأقواسه وفوانيسه ما زالت شامخة، ويتكون هذا القصر من ثلاث وحدات بنيت على ثلاثة طوابق، أولها أرضي يقودك إليه درب صغير موشى بجداريات من الرخام المزخرف، أما الطابقان الثاني والثالث، فتعثر فيهما على مشربية السلطان وطقم كامل من غرف النوم والاستراحة وكذا الحمامات، وتخضع غرف الطوابق العلوية لتصميم ثلاثي يتكون من فضاء أوسط عميق وآخرين جانبيين.
يؤدي المدخل الرئيسي للقصر إلى ممر يمكن من حجب داخل الدار عن الأنظار، يوصل الممر المتعرج إلى صحن صغير تحيط به غرف للإقامة، ويتوسط القصر، مثلما هو حال جميع قصور الحي وبيوته، صحن طويل بنسق فناء شاسع تزينه فصيلة من الأقواس الرخامية أبدعت الأنامل التركية في بسطها ورصّها، لتعانق نوافير يتسلل منها ماء زلال يشفي الظمآن.
إلى جانب هذه القصور، نجد أيضًا قصر رياس البحر أسفل القصبة وعلى واجهة البحر المتوسط، وهو قصر ذو جمال أخاذ لثقافات وحضارات ولّت، شيّد بأمر من رمضان باشا ليعبر بذلك عن الثقافة العثمانية وتاريخها، وتطلق عليه تسميات عدة على غرار برج طبانة والبرج الجديد والحصن 23 أو بيت الزوبية.
يمثل هذا القصر شاهدًا على تعاقب الحضارات والثقافات الإنسانية وقد صنف سنة 1990 كمعلم تاريخي، ويتربع قصر رياس البحر المكون من ثلاث بنايات متشابهة وهي حصن 17 و18 و13 على مساحة إجمالية قدرها 4000 متر، ويتميز بإطلالة جميلة على واجهة البحر، حاكيًا تاريخ التصدي للمستعمر الفرنسي من خلال المدافع التي ما زالت صامدة وتحكي لأبناء الجزائر نضالها وكفاحها من أجل الحرية.
شيد القصر بحجر المرمر الثمين وبزخرفة عثمانية ليحيي الثقافة العثمانية عبر العصور ويعزز دفاعات المدينة المنخفضة، ولقب سابقًا بقاع السور نظرًا لموقعه في أسفل مدينة الجزائر، وتشكل هذه القصور مجتمعة رياس البحر، إلى جانب ستة مساكن للبحارة متناسقة في تركيبتها العمرانية رغم بساطتها وقربها.
يجد المتجول بين أروقة القصر، سقيفة يدخل إليها من خلال مدخل منكسر كبقية القصور، ووسط القصر مكشوف لدخول الهواء، أما الحمام فينقسم إلى قاعتين واحدة للمياه الباردة وأخرى للساخنة، مرفقًا بآبار لصرف المياه، إلى جانبه المطبخ التقليدي بأفرانه القديمة.
نجد أيضًا قصر عزيزة أو دار عزيزة في القصبة السفلى، ويعتبر هذا القصر من أجمل قصور حي القصبة العتيق في العاصمة الجزائرية، يحتوي القصر على طابقين، الأول منه يحتوي على أربعة أروقة تؤدي إلى غرف تحتوي على تلبيسات خشبية دقيقة الصنع وتتشكل من نوافذ وأبواب وسقوف من الخشب المطلي.
تنتظم الغرف حول الصحن، وهو ما يعطي رحابةً وضوءًا إضافيًا في الباحة المتوجة بالأعمدة المزخرفة، كما يضم القصر عدة ملحقات مثل المطابخ والحمامات، ويتميز بجدرانه المزينة بالزخارف التي تحمل تأثيرات شرقية، تحبس الأنفاس لهندستها المعمارية الجميلة.
أما الطابق الثاني، فإن بنايته تتماثل بما بني في الطابق الأول، حيث نجده يتوفر على رواق مزدوج وقاعة شرف واسعة وجميلة زينت بنقوش جبسية متقنة، يعتبر القصر أحد المراجع الهندسية المهمة في قصبة الجزائر، رغم تقدم الوقت على تشييده.
مساجد وأضرحة حي القصبة العتيق
إلى جانب هذه البيوت والقصور، يتميز حي القصبة العتيق بمساجدها التي تحكي قصة حضارة كبيرة حكمت البلاد طيلة 3 قرون، وأبرز هذه المساجد على الإطلاق مسجد كتشاوة، الذي بقي محافظًا عبر مآذنه وصومعته وأعمدته المرمرية وفسيفسائه ونقوشه البديعة، على طابعه العمراني العثماني والإسلامي، رغم ما مر به في أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر.
أما في القصبة السفلى فنجد الجامع الجديد مطلًا على البحر، وقد مزج بين الطراز البيزنطي والعثماني وكان مسجدًا للمذهب الحنفي طوال الفترة العثمانية، وتم بناؤه بتمويل من مؤسسة سبل الخيرات التي تدير الصدقات التي تجمع لفائدة طائفة الأحناف العثمانيين.
يتميز الجامع الجديد بوفرة النقوش والفسيفساء ويضم مجموعة من التحف النادرة منها أربعة كراسي من الخشب يتربع عليها مشايخ العلماء في أثناء حلقات العلم وشمعدان مصنوع من النحاس الخالص، ويحتوي المسجد على منبرين أولهما منبر خشبي عتيق يتوسط قاعة الصلاة، أما المنبر الثاني فقد جيء به من ”مسجد سيدة” الذي أحرقته فرنسا بعد عامين من احتلالها الجزائر وهو مصنوع من الرخام، فضلًا عن محراب، وتوجد به نوافذ صغيرة مصنوعة من الرخام الأبيض تستعمل لإضاءة المكان.
يتزين الجامع بقبة مركزية بصلية الشكل تحملها دعائم ضخمة، وبزخارف جصية منقوشة ومخرمة تحمل موضوعات كتابية وهندسية ونباتية، فضلًا عن الرخام الأبيض المطعم بالحجارة الملونة، ولهذا الجامع الذي يتميز بمظهره الشرقي، مئذنة من النوع المغربي مربعة الشكل تتوجها الشرفات والجوسق، وتحلي واجهاتها أشكال إهليجية موضوعة داخل أطر مستطيلة.
حاول المستعمر الفرنسي طمس هذه المعالم، لكن كانت هذه المساجد والقصور والبيوت والأضرحة سدًا منيعًا في وجه حملات التنصير والتجهيل
في حي القصبة العتيق أيضًا، نجد “مصلى الرياس” بقصر رياس البحر، الذي يُعرف أيضًا باسم “مصلى قاع السور” وهو عبارة عن دويرة (تصغير لكلمة دار) من ضمن 6 دويرات موجودة بقصر رياس البحر المعروف بـ”حصن23″، ويعد هذا المصلى الشاهد الوحيد على امتداد القصبة نحو البحر المتوسط خلال الحقبة العثمانية.
تميز حي القصبة العتيق أيضًا بالأضرحة العديدة التي بناها العثمانيون، ذلك أن زيارة هذه الأماكن، يعد في تقدير العديد من الناس متنفسًا وخروجًا عن العالم المادي إلى العالم الروحي، ممثلًا في رمز الولي الصالح، ومحاولة للهروب من الحياة الدنيوية إلى الخيال المقدس، كما أنها ملجأ للغرباء وعابري السبيل.
أبرز أضرحة حي القصبة العتيق، ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي الذي احتل موقعًا رئيسيًا، حتى أصبح عنوانًا لمدينة الجزائر، وذكره لا يفارق السكان المحليين والسياح الوافدين على حي القصبة العتيق بالعاصمة، ويضم الضريح مسجدًا وقبةً وزاويةً، وبالقرب منه قبور لبعض أفراد الأسرة مثل ابنته عائشة، وكذا قبور عدد من الشخصيات العامة الأخرى كقدور باشا ويوسف باشا وعلي خوجة وأحمد باي وقبر الولي داده.
حاول المستعمر الفرنسي طمس معالم حي القصبة العتيق، لكن كانت هذه المساجد والقصور والبيوت والأضرحة سدًا منيعًا في وجه حملات التنصير والتجهيل والتغريب التي مارسها الاحتلال الفرنسي ضد الجزائريين، فقد كان لها دور مهم في ترسيخ المرجعية الدينية الإسلامية.