لا تزال بؤر التأزم في تونس تشتعل كل يوم هنا وهناك، على جميع الأصعدة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ولا يزال التونسيون يترقبون بصيص الأمل الذي يخرج البلاد من حالة الخطر والانسداد إلى حالة الانفراج والعلاج.
فمنذ ركوب الراكبين ومن جاراهم موجة الانقلاب على البرلمان والحكومة ثم الدستور، أمل العديد من العوام والبسطاء وحتى النخبة، بمستقبل أفضل وبوادر خير وانفراج غير آبهين بالذين قالوا “لا” منذ أول يوم، رغم نبرة التحذيرات العالية للإجراءات الجديدة التي يمكن أن تزيد الأزمة حدةً واشتعالًا، وليس العكس كما اعتقد المتسرعون الذين خابت انتظاراتهم أخيرًا، فاستفاقوا على أوهام وأحلام، بوصف الرئيس، ووجدان مكسور.
خيبة أمل
أكثر من مئة يوم على غلق البرلمان وتجميده وحل الحكومة وتعيين حكومة جديدة بدأت عملها منذ أسابيع، وبعد “استعراضات” رئاسية وخطابات شعبوية كالعادة يهاجم فيها الرئيس سعيد ككل مرة الأعداء والخصوم والمعارضين الذين يسمون إجراءاته انقلابًا مثل مجموعة “مواطنون ضد الانقلاب” وغيرهم من الكتل والتحالفات والأحزاب، ووصفهم بأبشع الأوصاف والنعوت كـ”الشياطين” و”الحشرات” و”المخمورين” و”اللصوص”.
وبعد جمعه لأغلب السلطات بين يديه، لم ير الموعودون بالعهد الجديد غير السراب، ولم تزدد الأوضاع إلا تأزمًا على جميع القطاعات والمستويات، حتى شعر الذين سايروا الانقلاب بالخيبة والمرارة، كأنهم كانوا متعلقين بخيط دخان.
إلى جانب الظرف الاجتماعي، يبدو أن سعيد اصطدم منذ البداية بحجر عثرة يقف أمام تحقيق أهدافه بتصفية الخصوم السياسيين أو من يصفهم هو بالفاسدين والخونة، وهو القضاء الذي حاول الاستحواذ عليه، عندما أعلن في خطاب 25 يوليو/تموز أنه سيترأس النيابة العمومية في البلاد وهو ما رفضه القضاة وتحديدًا المجلس الأعلى للقضاء، الذي أكد استقلاليته وأنه بعيد عن التجاذبات السياسية كسلطة مستقلة بذاتها.
فقدان الثقة
بيد أن رياح القضاء جرت بما لا تشتهيه سفينة قيس سعيد، فعاد الرئيس من جديد يهاجم “القضاة الفاسدين” في كثير من الأحيان، مستدلًا ببعض الحالات من شبهات الفساد التي تعلقت بعدد من القضاة، إلا أن المجلس الأعلى للقضاء رد بقوة، لا سيما بعد إشارة الرئيس بأنه سوف يتولى تنظيم السلطة القضائية عبر مجموعة من المراسيم الرئاسية، حتى إن العديد من القضاة والجمعيات والمعارضين اعتبروها محاولة لوضع اليد على القضاء بعد عدم استطاعة الرئيس تطويعه لصالحه.
خطابات الرئيس وتحريضه المستمر على القضاء “الفاسد” جعل مؤيديه على مواقع التواصل الاجتماعي يشنون حملة سافرة على القضاء، مشهرين بعدد كبير من القضاة عبر عدد من الصفحات المشبوهة، ووصل بهم الأمر إلى التهديد بمهاجمة المحاكم وتطهير القضاء يوم 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل الذي يصادف ذكرى بداية اندلاع الثورة التونسية.
ليست هذه المرة الأولى التي يشن فيها أنصار الرئيس المتخفين وراء صفحات التواصل الاجتماعي ولوحات المفاتيح حملات سافرة وعنيفة على معارضيه أو منتقديه، فقد سبق أن شنوا حملات مشابهة ضد كل من ينتقد الرئيس أو يعارضه من سياسيين وإعلاميين وغيرهم، مستخدمين في تلك الحملات العديد من عبارات التحقير والشيطنة والتشويه إلى جانب الافتراءات والإشاعات.
بات من الواضح أن أنصار الرئيس وأعضاء حملته التفسيرية أو تنسيقياته الجهوية، أصبحوا قنوات رسمية لخطابات العنف والشعبوية والتشويه لكل من يخالفهم الرأي، مستعملين في ذلك سلطة الرئيس المعنوية، وهو ما جعل هذا الخطاب في كثير من الأحيان يُجابه بخطاب مشابه ولا يقل عنه عنفًا وشعبويةً.
وهنا لا بد أن ننوه بضرورة رفض هذه الإساءات من أي طرف كان، حتى لا نسير نحو مزيد من الاحتقان والتقسيم، في الوقت الذي بدأ فيه خطاب الوحدة والعقلانية يتراجع، ما شكل مخاوف حقيقية من استفحال حالة انقسام الشعب والمجتمع وتعزيز مخاوف تهديد السلم الاجتماعي، بعد فقدان الثقة في إجراءات 25 يوليو/تموز برمتها، من طرف الشباب الذين طالما عول عليهم الرئيس سواء في حملته للوصول إلى قصر قرطاج أم للحوار المنتظر التي وعد به.
فصحيح أن عقد الثورة ومسارها الديمقراطي لم يحقق طموحات كثير من الذين ثاروا على النظام السابق لكن ذلك لم يكن سيئًا برسم الذين عملوا على تشويه كل المكتسبات، من مؤسسات مستقلة متعددة سياسية وقضائية وإعلامية وحقوقية، وحريات متنوعة سياسية ودينية وثقافية بنقاش مجتمعي راق، نجحت إلى حد ما ماكينة الدولة العميقة، برموزها في ترذيل كل المشهد وخلق حسرة لدى كثيرين لتجميل صورة الاستبداد رغم رفض المجتمع الدولي لحالة التفريغ الداخلي للزخم الثوري، وحالة تخريب البيت بأيادي أهله.
صدمة المعطلين
بعد نحو أربعة أشهر من الإجراءات الاستثنائية المستمرة، لم تسر الأمور في تونس إلا إلى الأسوأ، على الصعيد السياسي والاقتصادي ومؤخرًا الاجتماعي، حيث بدأت مجموعة الشباب المعطلين عن العمل في التحرك للمطالبة بتفعيل القانون رقم 38 الذي ينص على انتداب من طالت بطالتهم في الوظيفة العمومية بشكل استثنائي.
ولطالما تحدث الرئيس سعيد عن الشباب في خطاباته السابقة قبل وبعد 25 يوليو/تموز، بل وأصر على أن الحوار الوطني الذي ينادي به الجميع اليوم في الداخل والخارج، لا يمكن أن يكون إلا مع الشباب.
لكن على ما يبدو فإن الشباب المعطلين عن العمل ليسوا ذات الشباب الذين يتحدث عنهم سعيد، فبعد أن استبشر عشرات الآلاف من المعطلين عن العمل ممن طالت فترة بطالتهم وتجاوزت العشر سنوات، بالقانون رقم 38 الصادر عن مجلس نواب الشعب قبل أشهر قليلة من الانقلاب، وينص على ضرورة انتداب هؤلاء الفئة من شباب البلاد في الوظيفة العمومية بصفة استثنائية، خرج الرئيس مؤخرًا ليصدم أولائك الذين عقدوا عليه الأمل، قبل أشهر قليلة، ويعلمهم أن هذا القانون غير قابل للتنفيذ، وأنه كان قانونًا وهميًا للاستهلاك الانتخابي لا غير، رغم أنه هو نفسه من ختمه ونشره في الرائد الرسمي للدولة، الجريدة الرسمية.
يأتي ذلك بعد أيام وليالٍ من اعتصام عدد من هؤلاء الشبان أمام القصر الرئاسي منادين بسرعة تطبيق القانون ووضع حد لمأساتهم، وهو ما أثار حالة من الصدمة والغضب لدى هؤلاء الذين كان قسم كبير منهم ممن أيدوه وساندوه في إجراءاته الاستثنائية، ودخلوا حاليًّا في اعتصامات مفتوحة داخل مقرات الولايات وهددوا بالتصعيد.
علاقة السلطة القائمة مع القضاة من ناحية والمعطلين عن العمل من ناحية أخرى، أزمة جديدة تضاف إلى العديد من الأزمات الأخرى التي باتت تعيش على وقعها تونس، إلى جانب العزلة الخارجية وحالة الغموض والترقب، قد تنذر بتوسيع رقعة الاحتقان والغضب والاحتجاجات للفترة المقبلة التي عادة ما تكون فترة احتجاجات وتحركات اجتماعية سنوية واسعة.
لكن هذه المرة الوضع فيها أصعب وأخطر بكثير، إذ تشير كل المعطيات والمؤشرات بدخول تونس مرحلة الخطر الفعلي اقتصاديًا، لا سيما بعد عجز يقارب 10 مليارات دولار في الميزانية التعديلية في انتظار الميزانية التكميلية، ومؤشرات تنذر بتضخم مالي وارتفاع حاد في الأسعار وتراجع قيمة الدينار وفقدان بعض المواد الأساسية للشهرين القادمين، فهل سيتمكن قيس سعيد الذي جمع السلطات بيده وتحمل المسؤولية وحده، من تجاوز كل هذه العقبات والأزمات أم أن الوضع أصعب بكثير من أن يُدار بإرادة فردية وسلطة الشخص الواحد؟