يولد جميع البشر أحرارًا ومتساوين، لكن هناك من يصر على جعل الواقع مختلفًا، وتاريخيًا كانت العنصرية وستظل من أسوأ ظواهر الإهانة والتهميش في المجتمع البشري، التي تؤثر على العدالة والإنسانية وتكافؤ الفرص في الحياة الاجتماعية والعمل والتعليم وكل شيء.
الغريب أن أكبر دول العالم مريضة بهذا الداء، فقد طافت حكايات بريونا تايلور وجورج فلويد وجاكوب بليك وغيرهم الكثيرين من الأمريكيين العالم، على إثر سقطوهم ضحايا لون بشرتهم المختلف على أيدي ضباط الشرطة البيض، ومثلهم في بريطانيا وفرنسا وألمانيا لأسباب مختلفة.
لهذا تجوب الاحتجاجات ضد العنصرية جميع أنحاء العالم دون استثناء، فتضغط للدعوة إلى مزيد من المساواة العرقية والعدالة الاجتماعية وإسقاط الذهنية الاستعلائية سواء المرتبطة بالماضي الطبقي أم الديني أم الاستعماري للبلد وأرشيف العبودية فيه.
لكن وسط هذه العتمة، هناك العديد من الدول التي قدمت إجراءات استثنائية خلال الـ5 سنوات الماضية، لوقف هذا الوباء عن الانتشار، وعملت على تسويق وجهات نظر إيجابية عن المساواة، فالواقع الإنساني والدراسات تؤكد أن الدولة تصبح أقوى عندما تكون أكثر تنوعًا على جميع المستويات.
عن العنصرية
اعتقاد شائع في تقسيم الناس لأجناس، بعضهم له الأفضلية على الآخر، بسبب إما السمات الجسدية الموروثة وإما الشخصية والفكر والأخلاق وإما غيرها من السمات الثقافية والسلوكية، وأصحاب هذه النظرة يعتقدون في تفوق هذه الأجناس بالفطرة على غيرها.
يُطبق المصطلح أيضًا على المؤسسات والأنظمة السياسية والاقتصادية والقانونية التي تشارك في التمييز، وتعزز من عدم المساواة في الثروة والدخل والتعليم والرعاية الصحية والحقوق المدنية، وأعلنت سياسات تعسفية لا تمنح ذات المكانة المنخفضة إلا الوظائف المتدنية، في الوقت الذي منحوا فيه أعضاء العرق المهيمن حق الوصول الحصري للسلطة السياسية والموارد الاقتصادية والوظائف رفيعة المستوى وغير المقيدة.
تبع ذلك تداعيات مخجلة، من عنف جسدي لإهانات يومية وتعبيرات لفظية شائعة تنم عن الازدراء وعدم الاحترام الجماعي، وكلها كان لها آثار عميقة على احترام الذات والعلاقات الاجتماعية، لهذا تحاول بعض دول العالم الانتصار لقيم الإنسانية بمواجهة هذه الآفة والاعتراف بها وسن سياسات تواجهها، خاصة بعد حسم مفهوم العرق واعتباره اختراعًا ثقافيًا دون أي أساس علمي يدعمه.
هولندا: حلم المدينة الفاضلة
في الوقت الذي تسارع فرنسا وبعض الدول الغربية خلال السنوات الأخيرة لاضطهاد المسلمين بدعوى المساواة في المجال العام والتفريق الصارم بين العام والخاص، تتجاوز هولندا هذه الفرضيات، فتعترف بمشكلاتها ولا تنكرها، تعرف جيدًا أن لديها ماضيًا استعماريًا قويًا وإرثًا من العبودية يُطلب من الهولنديين إلقاء نظرة أكثر حيادية على تاريخهم.
اعترفت هولندا على لسان ميريام دي بروين عالمة الأنثروبولوجيا الشهيرة بجامعة لندن أنها ما زالت أمة بيضاء للغاية، وإرثها الاستعماري مرئي كل يوم في شوارعها، ويكشف عن عنصرية متأصلة وقبول لعدم المساواة، والكل يعرف أن العنصرية تجتاح الجميع.
لكن هولندا خلال السنوات الماضية سابقت الجميع، وتصدرت كل المؤشرات المعنية بالمساواة إذ صنفتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) على أنها الأفضل بلا منازع في رفاهية الأطفال.
يستخدم المسح عينة عشوائية تمثيلية من سكان هولندا، بناءً على بيانات السجل الوطني من أجل تحقيق أحجام عينات كافية للمجموعات ذات الخلفية العرقية المحددة
وصلت هولندا لهذه المرتبة برغبة حقيقية من المجتمع ومؤسساته في تحقيق مؤشرات أفضل للحياة، عبر تعظيم الممارسة وتطبيقها بمعايير صارمة ومسح مستمر عن تجارب التمييز، وإلزام مجلس النواب للحكومة بإجراء استعراض دوري للبيانات المتعلقة بهذه التجارب، على سبيل المثال تنسق وزارة الشؤون الاجتماعية خطة العمل الوطنية لمكافحة التمييز، وتجري دراسات استقصائية لتقديم نظرة ثاقبة عن مدى تعرض المجموعات المختلفة في هولندا للتمييز وعلى أي أسس وفي أي مجالات من الحياة وكيف تتغير بمرور الوقت.
تركز الاستطلاعات المكثفة على التجارب الشخصية، فتجمع بيانات عن التمييز على أسس مختلفة: الجنس والعمر والخلفية العرقية ولون البشرة والدين والإعاقة والتوجه الجنسي، وفي مجالات مختلفة من الحياة: التعليم وسوق العمل والاتصال بالمؤسسات بما في ذلك الحكومة المحلية والمركزية والشرطة والخدمات الاجتماعية والمستشفيات وأوقات الفراغ والشوارع والحي.
يستخدم المسح عينة عشوائية تمثيلية من سكان هولندا، بناءً على بيانات السجل الوطني من أجل تحقيق أحجام عينات كافية للمجموعات ذات الخلفية العرقية المحددة، ولتسهيل مشاركتهم في الاستبيان يتاح بعدد من اللغات التي ينتمي إليها السكان المعنيون بالدراسة بما في ذلك الإنجليزية والبولندية والعربية بالإضافة إلى التركية.
تركز عينات البحث على استكشاف العواقب العاطفية والسلوكية للتمييز الذي يشعر به المستجيبون من خلال التساؤل عما إذا كانوا قد غيروا سلوكهم نتيجة لتجربة التمييز وإلى أي مدى، تشمل الأمثلة على العواقب المحتملة تجنب أماكن معينة أو تغيير تفضيلات التوظيف.
أضافت هذه الممارسات للحياة الهولندية طابعًا مختلفًا، فأصبح شائًعا رش التماثيل البرونزية للرموز الاستعمارية، واندلعت الاحتجاجات للإقرار بأهمية حياة السود والتحقيق في التحيز ضد المسلمين وما زالت هناك ضغوط وضغائن بالفعل، لكن الأصل في المواجهة المستمرة.
كندا: الشمول والتنوع
“التنوع والشمول هما حجر الزاوية في الهوية الكندية ومصدر القوة الاجتماعية والاقتصادية وشيء يمكن أن يفخر به جميع الكنديين، ومع ذلك في مجتمع مفتوح ومتنوع مثل مجتمعنا نعلم أنه لا تزال هناك تحديات حقيقية للغاية في قضية العنصرية”، بابلو رودريغيز وزير التراث الكندي والتعددية الثقافية.
في المجتمع المفتوح الحياة ليست كما نعرفها في المجتمعات الأبوية والشمولية، إذ يتطلب التغيير أولًا الاعتراف بوجود مشكلة تتطلب معالجتها لا محاولة طمسها وإنكارها، فلا يوجد مجتمع محصن ضد آثار خطاب الكراهية، سواء كانت العنصرية والتمييز ضد السكان الأصليين أم الإسلاموفوبيا أم معاداة السود وغيرها من صور التمييز، لكن المواجهة بأي طريقة تلك هي الإشكالية.
اعترفت حكومة كندا بكل هذه المنغصات، وأكدت أنها بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد لمكافحة العنصرية والتمييز بأشكاله المختلفة، إذ ما زالت الأبحاث تؤكد استبعاد مجموعات وأفراد وتعرضهم للأذى لأسباب عنصرية بحتة.
التزمت الحكومة ببناء أساس للتغيير عن طريق إزالة الحواجز والترويج لبلد يكون فيه كل شخص قادرًا على المشاركة الكاملة ولديه فرصة متساوية للنجاح وتحقيق هذه الرؤية ليس مجرد وسيلة لبناء دولة أفضل، لكنه يعالج أيضًا التكلفة البشرية للعنصرية والتمييز، فبناء مجتمع خالٍ من العنصرية يتطلب التزامًا مستمرًا.
منذ أكتوبر/تشرين الأول 2018 وحتى مارس/آذار 2019 عقدت الحكومة جلسات في جميع أنحاء البلاد لمن لديهم تجارب معيشية من العنصرية والتمييز من أجل المساعدة في تطوير إستراتيجية اتحادية جديدة لمكافحة العنصرية، وعقدت الجلسات بالشراكة مع مجموعات المجتمع المختلفة وأحضرت شرائح من السكان الأصليين وغيرهم من ذوي الخلفيات المختلفة، وتمت دعوة جميع الكنديين للمشاركة من خلال استطلاع رأي عبر الإنترنت.
استثمرت كندا في بناء مؤسسة للتغيير تحت اسم إستراتيجية كندا لمكافحة العنصرية وخصصت لها 45 مليون دولار، لاتخاذ خطوات فورية في مكافحة العنصرية والتمييز بناءً على ما تم سماعه في أثناء عملية المشاركة للقضاء على عدم المساواة من خلال التركيز على ثلاثة مبادئ توجيهية: إظهار القيادة الفيدرالية وتمكين المجتمعات وبناء الوعي وتغيير المواقف.
تقر الآن حكومة كندا بأنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به للقضاء على العنصرية والتمييز من خلال هذه الإستراتيجية، فالمجتمع بكل أبنائه سواء من المهاجرين أم السكان الأصليين يمكنهم العمل معًا من أجل بناء بلد أكثر شمولًا وإنصافًا لجميع الكنديين.
السويد: القانون هو الحل
في مايو/أيار 2018، كانت لجنة القضاء على التمييز العنصري في السويد تختم أعمالها للتقريرين الدوريين الثاني والعشرين والثالث والعشرين بشأن تنفيذ البلاد لأحكام الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وعبرت الدولة عن قلقها من استمرار جرائم الكراهية والتمييز.
اتبعت السويد جهودًا شاقةً لمكافحة العنصرية، واعتبرتها عملية مستمرة لن تنتهي، خاصة بعد توفير الحيز الذي يسمح بذلك بأساليب ملتوية عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومنتديات الإنترنت، ما يمنح مرتكب الجريمة التخفي اللازم للإفلات من العقاب.
جرى تدريب القضاة والمسؤولين عن إنفاذ القانون، وطلب الخبراء مزيدًا من المعلومات عن الهجمات ضد المسلمين والمساجد وضد المنحدرين من أصل إفريقي
تاريخيًا كانت العنصرية ممنهجة في السويد تقرها سياسة الدولة، لهذا لن يتم القضاء عليها إلا بسياسات مؤسسية أيضًا وهو ما يحدث منذ سنوات، فقد اعتمدت البلاد خطة وطنية لمكافحة العنصرية وأشكال العداء المماثلة وجرائم الكراهية بداية منذ عام 2016.
حددت الخطة هيكلًا للتنسيق والمتابعة يوطن الأساس للعمل الإستراتيجي طويل الأجل، خاصة في مجالات تحسين التنسيق والرصد والمعرفة والتعليم والبحث والدعم والحوار مع المجتمع المدني وتعزيز التدابير الوقائية عبر الإنترنت، وخلق نظام قانوني أكثر نشاطًا.
كان أحد المقاربات المهمة للخطة الوطنية هو توضيح الأشكال المختلفة من العنصرية بدقة حتى يتم تسليط الضوء عليها والاعتراف بها، وتم تكليف وكالة حكومية بتنسيق ومراقبة العمل لتحقيق الأهداف المرجوة وبدأت بمراقبة عمل الشرطة السويدية وكيفية تصديها لجرائم الكراهية.
الشرطة من جانبها قررت إنشاء نقطة اتصال وطنية ووحدات خاصة بجرائم الكراهية ركزت بشكل خاص على كراهية الأفارقة والإسلام ومعاداة السامية، ولفتت الشرطة الانتباه إلى إغفال جرائم العرق في التشريع السويدي وعدم تجريم الجماعات المتطرفة التي تروج للعنصرية وخطاب الكراهية.
جرى تدريب القضاة والمسؤولين عن إنفاذ القانون، وطلب الخبراء مزيدًا من المعلومات عن الهجمات ضد المسلمين والمساجد، وضد المنحدرين من أصل إفريقي، وطالبوا بتطبيق قانون مكافحة الإرهاب، ومواجهة التطرف اليميني بحسم والتعامل معه على أنه إرهاب.
هذه الإجراءات رفعت مستوى السويد، وأصبحت بنظر الكثير من الخبراء من أحسن بلدان العالم لمواجهة هذه الظاهرة، فمن يسلط الضوء في العلن على مسألة العنصرية بخطابه السياسي والاجتماعي، هو الأكثر أريحية في التعامل، والإفلات الفعلي من العقاب لكن يكون أمرًا مقبولًا، خاصة أن السويد من البلدان الناشطة عالميًا في مجالات حقوق الإنسان، ولن يكون مستساغًا مطالبة الآخر بحقوق الإنسان والداخل مدمر أو به الكثير من الشوائب التي ترتقي لمستوى الإدانة دوليًا.