ترجمة وتحرير: نون بوست
سيساعد تسلسل الجينوم في فك شيفرة مرض السرطان لدى كل شخص وتصميم علاج دقيق خصيصا له، ويمكن أن تساعد هذه الأجوبة العلمية أيضًا في الكشف عن أسباب التهاب المفاصل والسكري وتصلب الشرايين والزهايمر. من شأن هذه التقنية أيضًا تشخيص أمراض الطفولة النادرة جدا التي يعجز الأطباء الآن عن اكتشافها في وقت مبكر، وعلى هذا النحو سيتمكن الأطفال المولودون بمشاكل جينية من تلقي العلاج الحيوي على الفور.
هل تريد المزيد؟ ستُمثّل هذه التقنية بداية مرحلة جديدة في الوقاية من الأمراض من خلال توفير تحذيرات شخصية عمّا يمكن أن تتسبب فيه عاداتنا اليومية غير الصحية من أمراض مستقبلا. والأكثر من ذلك، أنها ستمهّد الطريق لإبطاء الشيخوخة.
كلّ هذه الأمنيات أصبحت حقيقيةً وممكنة التحقق بفضل هيئة الخدمات الصحية الوطنية في إنجلترا وعملها الرائد في رسم خرائط التركيبات الجينية الشخصية. يعتبر الجينوم البشري المكون من ثلاثة مليارات حرف، فريدًا من نوعه لدى كل شخص ويتواجد في كل خلية من خلايا الجسم تقريبًا.
تمكن العلماء من تتبع تسلسل الجينوم البشري لأول مرة منذ 18 عاما، واستغرقت 13 عاما وكلفت 750 مليون جنيه إسترليني. الآن، يمكن لآلة واحد تتبع تسلسل 48 جينوم بشري خلال 48 ساعة بأقل من 500 جنيه إسترليني للجينوم الواحد، وهذا بفضل تقنية تسمى “تسلسل الجيل التالي” التي تجعل من عملية قراءة الشفرة الجينية أسرع بمليون مرة. وهي تقنية سريعة وغير مكلّفة وواعدة.
خلال الأسبوع الماضي، قدمت دراستان لمحة مسبقة عن التطورات التي تنتظرنا من خلال الكشف عن أسرار أمراض سرطان الأطفال والاضطرابات الخطيرة النادرة. تدور الدراسة الأولى حول خرائط التسلسل الجيني الكامل لعدد من الأطفال لمعرفة مسببات أمراض السرطان لديهم. وقد شمل البحث المقدم للمعهد الوطني لأبحاث السرطان عينة تعود لـ 36 طفلا من مستشفى أدينبروك بكامبريدج.
تمّ إرسال عينات من الورم والدم الخاصة بكل طفل إلى المختبر. وقد قارن العلماء عينات الدم (الجينوم الذي ولدوا به) وجينوم الورم، وقاموا بتحديد موطن تحوّره إلى جينات مارقة كانت السبب في ظهور السرطان. شمل هذا التحليل عدة أنواع من السرطان والعلاجات الأكثر فعالية لها. وبفضل هذا البحث تمكن الأطباء من تغيير تشخيص أربعة أطفال وعدّلوا تشخيصين آخرين مما ساعد على ضمان تلقي العلاج المستهدف بشكل فعّال.
يقوم تشيسلر وفريقه بتحليل المادة الجينية للخلايا السرطانية، حيث يوضّح أنهم يستخدمون “تقنيات سريعة ودقيقة للغاية لأن المرضى يحتاجون إلى علاج موجه في أسرع وقت ممكن
يقول الدكتور باتريك تاربي من مستشفيات جامعة كامبريدج، الذي أشرف على البحث، إنّ نتائج هذه الدراسة الصغيرة تتنبأ بما يمكن تحقيقه من خلال تعميم هذه التكنولوجيا في جميع أنحاء البلاد وإتاحتها لجميع الأطفال المصابين بالسرطان.
تعمل هيئة الخدمات الصحية الوطنية على مسح المادة الجينية لليافعين الذين عاد إليهم السرطان بعد العلاج. في هذه الحالات، من شأن العلاج السريع والموجه بدقة أن يساهم في إنقاذ الأرواح، على حد تعبير لويس تشيسلر أستاذ بيولوجيا سرطان الأطفال في معهد أبحاث السرطان بلندن، والمستشار الفخري في علم أورام الأطفال في مستشفى روايال مارسدن.
بدلا من تتبع تسلسل الجينوم الخاص بالأطفال بشكل كامل، يقوم تشيسلر وفريقه بتحليل المادة الجينية للخلايا السرطانية، حيث يوضّح أنهم يستخدمون “تقنيات سريعة ودقيقة للغاية لأن المرضى يحتاجون إلى علاج موجه في أسرع وقت ممكن”.
ويضيف الدكتور أن “الباحثين في مستشفى غريت أورموند ستريت بلندن يجرون فحوصات سريعة على الأطفال الذين يولدون بمشاكل وراثية، وهو ما يمكّن الأطباء من تشخيص حالاتهم وعلاجهم بسرعة. إن هذه التقنية تحدث ثورة في الطب”.
من جهتها، توضح البروفيسورة سيرينا نيك زينال، وهي عالمة إكلينيكية في أبحاث السرطان في المملكة المتحدة، أنّ مثل هذه الإنجازات العلمية لا تتحقق مع أمراض سرطان الأطفال فحسب، بل تشمل أيضا “عددا من الأورام” وأصبحت تقنية رائدة في دراسة سرطان الثدي والمبيض والقولون. وهي تعتقد أن تحديد الجينات المسببة للسرطان لدى المرضى لن يعزز فقط فرصهم في التعافي بل يساعد أيضًا الأطباء على جعل أدوية السرطان أكثر فاعلية.
تقول الدكتورة زينال إنه “في الماضي، كان كل مريض يحصل على نفس العلاج في حال إصابته بورم شائع. أما الآن، يمكننا تخصيص علاج لكل مريض، بغض النظر عن نوع الورم. وقد تبين أن بعض علاجات السرطان تكون أفضل بكثير مما كنا نعتقد سابقا في حال استهدفت بشكل صحيح الأنواع المناسبة من الأورام”.
كشفت دراسة أدينبروك أن سبعة من الأطفال المعنيين يجب أن يتلقوا علاجات كان الأطباء يعتقدون أنها غير مفيدة. وتأمل الدكتورة زينال أن تكون قادرة على تكييف علاج شخص ما منذ البداية، وعلى هذا النحو يتجنّب المرضى الحصول على علاجات غير ضرورية يمكن أن تتسبب لهم أضرارًا، وسيعودون بذلك إلى حياتهم الطبيعية بشكل أسرع.
وبعيدًا عن السرطان، كشف العلماء الأسبوع الماضي كيف أنّ تسلسل الجينوم مكّن مئات المرضى الذين يعانون من أمراض نادرة من الحصول على تشخيص لأول مرة. إن هذه الدراسة التي استمرت لمدة عامين تحت إشراف شركة “جينومكس إنغلاند” وجامعة كوين ماري في لندن، ضمت 4660 شخصًا من أكثر من 2100 عائلة. وقد مرّ هؤلاء المرضى بسنوات من الاختبارات دون تلقي تشخيص. وبفضل هذا المشروع، تلقى شخص واحد من أصل أربعة تشخيصًا مكّنه من علاج حالته.
قارنت الدراسة الجينوم المميز لكل مريض بجينوم قياسي “مرجعي”. ومن خلال هذه الخطوة، تمكنت من اكتشاف الملايين من الاختلافات الحميدة. لكن الدراسة، التي نُشرت في مجلة نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسين، استخدمت برمجيات لتحديد الاختلاف الجيني الذي يمكن أن يسبب المرض.
يموت واحد من كل ثلاثة أطفال مصابين بمرض نادر قبل بلوغهم سن الخامسة. ومن بين الذين عولجوا بنجاح في الدراسة الجديدة، فتاة تبلغ من العمر عشر سنوات تعاني من حالة نادرة وغير معروفة، حيث وقع إدخالها إلى وحدة العناية المركزة عدة مرات وخضعت لأكثر من 300 فحص طبي في المستشفى. وقد مكّنت المقارنة الجينية الأطباء من تشخيص مرضها. بعد ذلك، خضعت لعملية زرع نخاع عظمي غيرت حياتها.
عند إعلان النتائج، صرّح البروفيسور داميان سميدلي، من فريق كوين ماري البحثي، إن النهج الجديد “هو مفتاح قدرتنا على التغلب على التحدي الذي يشبه البحث عن “إبرة في كومة قش” لإيجاد سبب إصابة شخص بمرض نادر من بين ملايين المتغيرات في كل جينوم”.
كانت تكلفة تسلسل الجينوم في السابق من أكبر العقبات المواجهة
يستكشف علماء آخرون بالفعل تطبيقات أوسع بكثير لتسلسل الجينوم. في هذا السياق، يجري الدكتور إينيغو مارتنكورينا، رئيس المجموعة في معهد ويلكوم سانغر المتخصص في هذا المجال الجديد، أبحاثًا لاكتشاف كيف يمكن أن تؤدي الطفرات الجينية المبكرة في الخلايا إلى التسبب في أمراض خطيرة تحفز العوامل المسببة للشيخوخة.
يوضح مارتنكورينا “يمكننا في الوقت الحالي،معرفة تسلسل الخلايا الطبيعية لدى الأشخاص الأصحاء وعدد الطفرات التي لديهم. سيمكننا هذا من النظر في كيفية تأثير عوامل المتعلقة بأنماط الحياة المختلفة على مثل هذه الطفرات”. ومن خلال دراسة جينوم أعداد كبيرة من السكان يهدف فريق مارتن كورينا إلى اكتشاف كيف تتراكم الطفرات لتسبب المرض. وهو يؤكد أنه “بالإضافة إلى السرطان، شرعنا في دراسة التهاب المفاصل والسكري من النوع الثاني وتصلب الشرايين ومرض الزهايمر”.
قد يُمكّن هذا الأطباء في المستقبل من إجراء اختبارات وفحوصات روتينية للأشخاص الأصحاء وتحذيرهم عندما تصبح بعض العادات اليومية السيئة عاملًا مسببا لمرض خطير. ومن خلال دراسة الطفرات وتلف الخلايا التي تسببها، يأمل فريق مارتنكوينا أن يتمكنوا من إبطاء الشيخوخة.
لكن الطريق أمام العلماء لا يزال طويلًا، حيث يقول الدكتور مارتنكوينا “نحتاج أولاً إلى فهم أسباب الشيخوخة. هناك العديد من الفرضيات، وهناك أسباب وجيهة للاعتقاد بوجود العديد من العوامل التي تقف وراءها. ولكن السؤال المطروح: هل يمكننا التأثير عليها جميعًا بشكل كافٍ لإبطاء الشيخوخة؟”.
كل هذا ممكن في المستقبل. في البداية، إذا كان تسلسل الجينوم سيصبح من الإجراءات اليومية التي تتبعها هيئة الخدمات الصحية الوطنية وممارسة روتينية في الطب، فينبغي التغلب على الكثير من العقبات العملية. ينبغي أن تقوم الخدمة الصحية بتجنيد وتدريب عدد من المحللين الذين يمكنهم فك شفرة الكم الهائل من المعلومات التي ينتجها تسلسل الجينوم وتحويلها إلى معلومات سريرية مفيدة.
حيال هذا الشأن، تقول الدكتورة زينال: “كانت تكلفة تسلسل الجينوم في السابق من أكبر العقبات التي تواجهنا. لكن في الوقت الحالي سيكون التحدي الأكبر الذي يواجهنا هو تحليل الكمية الهائلة من البيانات القادمة”.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تثبت هذه التقنية الجديدة فعاليتها بالنظر إلى تكلفتها العالية. وتوضح زينال: “نحتاج إلى أن نثبت في التجارب السريرية أن دراسة تسلسل الجينوم أفضل من الأساليب التقليدية، ويساعد على ابتكار علاجات أكثر فعالية”. وأضافت الدكتورة “نحن بحاجة إلى النظر إلى هذه التطورات من جانب قدرتها على زيادة العمر الافتراضي، ولكن الأهم من ذلك تحسين جودة حياة المرضى – وإنقاذهم من العلاجات غير الفعالة التي تجعلهم يعانون من المرض لأشهر، وفهم حالتهم بشكل صحيح منذ البداية”.
في الختام، تؤكد زينال: “أنا على يقين من أنه سيأتي اليوم الذي تبرز فيه فعالية تسلسل الجينوم. في الأشهر الاثني عشر المقبلة، سنشهد نشر المزيد من الدراسات وسنرى المزيد من الأخبار السارة”.
المصدر: التايمز