لطالما كانت سياسة الجيش المصري الميدانية في التعامل مع خصومه داخل شبه جزيرة سيناء موضوع نظر من المؤسسات الحقوقية، وبالأخص خلال الفترة التالية لأحداث 3 يوليو/تموز 2013، التي شهدت تزايدًا للعنف شرقي البلاد، بعد إطاحة الجيش بالرئيس الأسبق محمد مرسي.
اتخذت تلك الممارسات محل الجدل أشكالًا متعددةً، وفقًا لما وثقته منظمتا هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية خلال تلك الفترة، بين التهجير القسري والقصف المساحي بالقنابل العنقودية، وصولًا إلى الاستدلال على توسيع دائرة الاشتباه والاشتباك لكي تشمل كل من يتحرك في مناطق معينة دون تمحيص، من خلال تحليل المقاطع التي نشرها المتحدث العسكري المصري.
لكن الجديد هذه المرة، هو تسليط الضوء على سياسة المؤسسة العسكرية المصرية ميدانيًا على الحدود الغربية خلال فترة بينيَّة متقدمة بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي وصعود نظام السيسي في مصر وشيوع سردية الحرب الشاملة على الإرهاب.
اضطلع بالنشر هذه المرة مؤسسة استقصائية فرنسية مرموقة تحمل اسم “اكشف” (Disclose) التي تترجم أيضًا إلى معان مرتبطة برفع النقاب وإماطة اللثام عن الأسرار، وذلك من خلال تحليل مئات الوثائق السرية التي حصلت عليها من المؤسسات البيروقراطية الأمنية في باريس بخصوص تعاون ثنائي بين الجيشين الفرنسي والمصري في مجال مكافحة الإرهاب على الحدود الليبية، تغير مساره لاحقًا.
وفي الأساس، فإن تلك المؤسسة الاستقصائية عملت قبل ذلك خلال الأعوام السابقة على رصد مسارات التسليح الفرنسي إلى البيئات المتوترة في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك النظام المصري وقوات التحالف العربي التي تحارب في اليمن منذ عام 2015، فما الجديد الذي جاءت به الوثائق هذه المرة؟
تعاون أمني بطلب مصري
تبدأ فصول القصة بعد فترة وجيزة من صعود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الحكم ورغبته في تدشين علاقات أمنية متميزة مع أوروبا، بما في ذلك فرنسا، ضمن أكثر من زاوية، على رأسها الصفقات العسكرية والتعاون التقني الميداني في مجال مكافحة الإرهاب.
في عام 2015 وفي هذا السياق كما تقول التحقيقات، أبرم الجيش المصري صفقة عسكرية ضخمة معلنة مع نظيره الفرنسي لشراء طائرات “رافال” الفرنسية المتقدمة، التي كانت تعاني من ضعف الطلب الخارجي عليها في تلك الفترة، بالإضافة إلى قطعة بحرية متقدمة من فرقاطات “فريم” بقيمة أكثر من 5.5 مليار يورو.
خلال تلك الفترة، لم تكتف المؤسسة العسكرية المصرية وفقًا لما جاء في التحقيق بالتعاون مع نظيرتها الفرنسية في مجال الحصول على التقنية المتقدمة، لكنها طلبت من مسؤولين فرنسيين رفيعي المستوى خلال زيارتهم لمصر، على رأسهم وزير الجيوش چان إيڤ لورديان، دعمًا لوجيستيًا فرنسيًا في مجال مكافحة الإرهاب على الحدود مع ليبيا.
على الأرجح، جاء الطلب المصري بهذا الخصوص من باريس تحديدًا، مدعومًا، إلى جانب قوة تلك الصفقة، باهتمام الفرنسيين بمجال مكافحة التيارات المتشددة، التي شهدت صعودًا في تلك الفترة، ضمن دائرة النفوذ الفرنسي القديمة في إفريقيا، التي تعتبر ليبيا أحد أبرز مفاتيحها، بالنظر إلى التداخلات الچيوسياسية فيما يخص منطقة الساحل والصحراء.
إثر ذلك، وافق الفرنسيون على منح الدعم المطلوب لنظرائهم المصريين في تلك المنطقة، الذي تمثل في تقديم تقنيات متقدمة لمسح تلك المناطق الوعرة من الحدود المصرية الليبية الممتدة على نطاق 1200 كيلومتر، واعتراض الاتصالات التي تجري بين الجماعات الناشطة في تلك المنطقة.
العملية “سيرلي”
في ترجمة عملية لهذه الاستجابة، يسّرت السلطات المصرية دخول 10 من أبرز التقنيين العسكريين من فرنسا إلى الأراضي المصرية عبر تأشيرات سياحية، بالإضافة إلى استئجار طائرة متقدمة من شركة أوروبية على صلة بباريس لدعم هذه العملية التي أطلق عليها “سيرلي”.
وفقًا للتحقيق، فإن الجانبين اتفقا على تقاسم المهام الخاصة بهذه العملية، إذ يشرف الفرنسيون على عمليات الرصد، على أن يتولى الجانب المصري ممثلًا في سلاح الجو المرابط في إحدى القواعد شمال غرب البلاد التعامل الميداني مع هذه الأهداف المرصودة.
معظم القتلى كانوا من مهربي المخدرات والأسلحة والبضائع الأساسية ومستحضرات التجميل الناشطين على الحدود المصرية الليبية
على هذا النحو، بدأت العمليات المنسقة في الثلث الأول من عام 2016 كما يبرز التحقيق، يرصد الفرنسيون ويقصف المصريون، لكن بعد أقل من شهرين من بدء العمليات، أي بحلول أبريل/نيسان من نفس العام، كشف الجانب الفرنسي مفاجأة تخص تلك العمليات، وهي أن نظيره المصري لا يقصف جماعات متشددة ضمن الحرب على الإرهاب أصلًا.
معظم تلك الغارات، التي استمرت عامين على أقل تقدير، كانت موجهة إلى خارجين عن القانون، لكنها ليست موجهة إلى جماعات مسلحة متشددة كما طلب الجانب المصري في البداية، فمعظم القتلى كانوا من مهربي المخدرات والأسلحة والبضائع الأساسية ومستحضرات التجميل الناشطين على الحدود المصرية الليبية، شأنهم في ذلك شأن أي جماعات تستغل الطبيعة الوعرة لتلك المناطق.
أثار ذلك النهج استياء الخبراء الفرنسيين، بحسب التحقيق، وذلك لأن اللافتة الرسمية التي جاءت خلالها بعثتهم هي الحرب على الإرهاب، لا الحرب على جماعات التهريب الناشطة حدوديًا، كما أن معظم القتلى كانوا من الشباب الفقراء الذين تتراوح أعمارهم بين 19 إلى 30 عامًا تقريبًا.
وبناءً على ذلك، طالب الفريق الفرنسي من بلاده أن تعرض على الجانب المصري المشاركة التقنية في الحرب على الإرهاب التي كانت مشتعلة في تلك الفترة في شبه جزيرة سيناء، لكن ذلك الطلب قوبل بالرفض من السلطات المصرية، التي شنت ما لا يقل عن 19 غارة كبرى على هذه الجماعات الناشطة في التهريب خلال عامين استنادًا إلى التعاون مع فرنسا.
السردية الرسمية
يسلط التحقيق الضوء على تحليل لبيانات المتحدث العسكري المصري الصادرة عن تلك الفترة، التي تخلص إلى أن الجيش المصري نجح في تدمير نحو 10 آلاف عربة محملة بالأسلحة والذخائر على الحدود، وما يصل إلى 40 ألف عنصر مرتبطين بتلك الأنشطة.
بالرجوع إلى خلفية تلك التصريحات، سنجد أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نفسه كرر نفس مضمون ذلك التصريح نصًا خلال أكثر من مناسبة، على رأسها مداخلته الهاتفية مع الإعلامي عمرو أديب، في برنامج “الحكاية” على قناة “إم بي سي مصر”، عند حديثه عن أنشطة الجيش المصري على الحدود مع ليبيا.
كذلك، فقد أثنى الرئيس المصري خلال لقاءات إعلامية رسمية ذات طابع نقاشي مع مجموعات مختارة من الشباب المصري على نشاط الجيش المصري على الجانب المحلي من الحدود مع ليبيا بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي وانتشار الفراغ الأمني في تلك المنطقة.
في هذا السياق، فقد اشتهر تصريح رسمي للرئيس عبد الفتاح السيسي يقول خلاله أمام جمع من الإعلاميين والشباب، إن القوات الخاصة المصرية نجحت في الدخول إلى مناطق شديدة الوعورة، لم تكن تدخلها على الحدود المصرية الليبية، قبل الفوضى التي خلفها سقوط نظام القذافي، وهو ما أثار إعجاب كل حاضري هذه الفعالية.
شواهد عملية
يسلط التحقيق الفرنسي الضوء على حالة معبرة عن سياسة الاستهداف العشوائي والشره إلى القتل والهلع من كل ما هو متحرك على الحدود الغربية في تلك الفترة، وهو المهندس المدني المصري أحمد الفقي الذي قتل في قصف جوي خاطئ للجيش المصري يوليو/تموز 2017.
كان أحمد جزءًا من فريق مدني يقوم بمهام هندسية في منطقة الواحات البحرية، وقد طُلب في مهمة تقنية عاجلة لإصلاح الماكينة التي تضخ المياه إلى أحد المناجم في تلك المنطقة، وهرع أحمد مع زميلين وسائق إلى موقع العطل، لكنهم تعرضوا للقصف بمجرد وصولهم إلى المنطقة.
في هذه العملية، قُتل أحمد الذي كان أبًا لأسرة مكونة من 6 أفراد، من ضمنها 4 أبناء، ومعه زميلان، ولم ينجُ من ذلك القصف إلا شخص واحد، ظل شاهد عيان على هذا الخطأ العملياتي الفادح في إدارة العمليات العسكرية الميدانية شمال غرب البلاد.
خلال لقاءات صحافية سابقة، قال علي الفقي، شقيق الضحية وزميله في موقع العمل، إن السيارة تعرضت للقصف بعد نحو ثلث ساعة فقط من تحركهم من المنجم إلى موقع العطل لفحص المضخة المتوقفة عن العمل، وإنه رفع أشلاءهم بيديه تمهيدًا إلى نقلهم للقاهرة.
لكن في القاهرة، فوجئت أسرة الضحية، التي تجمعها صلة نسب بأعضاء سابقين في الحكومة المصرية، بوجود مكثف لرجال ملثمين تابعين للجيش في مشرحة “زينهم”، فيما فهم منه أنه رسالة للأسرة بحساسية الموقف وضرورة عدم الانسياق وراء التصريحات الإعلامية، وقد لوحظ بالفعل حينها حذف الأسرة منشورات على الإنترنت كانت تتناول الواقعة.
التعاون مستمر!
تزامنت تلك العملية “سيرلي” مع نهاية حقبة الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا أولاند وبداية حقبة الرئيس الفرنسي الجديد في حينها إيمانويل ماكرون، ومع ذلك، فإنها استمرت على نفس النسق الذي طلبه المصريون، رغم الاعتراضات التي أرسلها الفريق الفرنسي إلى الجهات العليا في باريس، وهو ما يضع ماكرون نفسه ضمن لائحة الاتهام بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، كما يقول التحقيق.
ليس ذلك وحسب، فقد توسع التعاون العسكري بين البلدين، رغم هذه المعلومات، ليشمل شراء الجانب المصري من باريس حاملتيّ مروحيات هجومية من طراز “ميسترال”، كانت فرنسا قد فشلت في بيعهم إلى روسيا، بالإضافة إلى زيادة أعداد طائرات “رافال” مايو/آيار الماضي، في صفقة كان موقع “Disclose” نفسه أول من أعلن عنها، استنادًا إلى وثائق رسمية حصل عليها من الجانب المصري.
أسرة الفقي تشعر بإجحاف من السلطات المصرية في تعاملها مع هذا الملف على هذا النحو، بالمقارنة مع تعاملها مع واقعة مشابهة، قتلت فيها سائحين من المكسيك بنفس الطريقة في تلك المنطقة قبل عامين من قتل الفقي
في ديسمبر/كانون الأول الماضي، استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره المصري عبد الفتاح السيسي في قصر الإليزيه، مانحًا إياه وسام چوقة الشرف، ومصرحًا أنه لا يمكنه أن يرهن استمرار تدفق مبيعات السلاح الفرنسية إلى النظام المصري بتحسن ملف حقوق الإنسان، لئلا يؤثر ذلك سلبًا على قدرات القاهرة في مكافحة الإرهاب.
إلى الآن، ترفض الرئاسة الفرنسية التعليق على النتائج الخطيرة لهذا التحقيق، فيما كان المتحدث العسكري المصري العميد محمد سمير قد حمّل وزارة الداخلية المصرية المسؤولية عن الإدلاء بأي تصريحات تخص الخطأ العملياتي الذي أودى بحياة المهندس أحمد الفقي منذ 4 أعوام.
ووفقا لتصريحات سابقة، فإن أسرة الفقي تشعر بإجحاف من السلطات المصرية في تعاملها مع هذا الملف على هذا النحو، بالمقارنة مع تعاملها مع واقعة مشابهة، قتلت فيها سائحين من المكسيك بنفس الطريقة في تلك المنطقة قبل عامين من قتل الفقي، لكن أسر السياح المكسيكيين حصلوا على تعويضات دولارية ضخمة واعتذار رسمي من السلطات المصرية، وهو ما لم يحدث قط مع أحمد الفقي وزملائه.