تطفو مشكلة الأكراد في سوريا إلى السطح بين الحين والآخر، مستندةً إلى عوامل ديمغرافية وثقافية، للتأثير على الواقع السياسي وتقلباته اليومية، فمنذ قيام الثورة السورية إلى اليوم، كان للأكراد دورٌ بارز في الأحداث السياسية والعسكرية، لا سيما في مناطق انتشارهم، إذ شغلوا فيها أدوارًا عدة بين متظاهرين ضد النظام، إلى ثوار يحملون السلاح إلى جانب فصائل الثورة، إلى مجتمع تحكمه مؤسسة عسكرية منهم، برضاهم أو سخطهم، تتأرجح في موقفها السياسي بين القوى المختلفة في سوريا، حفاظًا على مصالحها، وكذلك لم يخف أثر باقي العناصر الكردية، المتوزعة على دول الجوار، في الصعيد المحلي.
لكن مشكلة الأكراد تعتبر أعمق من ذلك، إذ تعود جذورها إلى بداية القرن العشرين وظهور الدول القومية في المنطقة، ومنذ ذلك الحين ما فتئت المشكلة الكردية تأخذ أبعادًا مختلفة، سواء في سوريا أم في باقي دول المنطقة.
كما أن مسألة الأكراد لا تنحصر في سوريا، فهي تلبس أثوابًا مختلفة في مناطق الجوار، وتواجه تحديات بدرجات مختلفة بدءًا بالحفاظ على الهوية إلى اكتساب الحقوق المشروعة وانتهاءً بحلم إنشاء الدولة.
من هم الأكراد عمومًا وأكراد سوريا خصوصًا؟ أين ينتشرون؟ وكيف بدأت مشكلتهم؟ وما شكل العلاقة فيما بينهم؟ وكيف كان موقفهم من الثورة السورية؟ وما مآلات حلمهم بدولة كردية على الأراضي السورية؟
سنحاول من خلال سلسلة مقالات الإجابة عن هذه الأسئلة، انطلاقًا من دراسة حالة أكراد سوريا، نستهلها بهذا التقرير.
الأكراد: التاريخ والديمغرافيا والتدين والثقافة الشعبية
قبل الشروع في الحديث عن أكراد سوريا، من الجيد إسقاط الضوء على الأكراد ككل، الأصول والديمغرافيا والثقافة، ليصبح بعدها الحديث عن أكراد سوريا أكثر غناءً وفهمًا لأبعاده التاريخية والاجتماعية والسياسية.
تختلف وجهات النظر كثيرًا عن أصل الأكراد، فالبعض يُرجع أصلهم إلى العرب، وتحديدًا إلى الفرع العدناني، أي عرب الشمال، كالمسعودي والمقريزي وأبي الفداء، ويدعم هذا القول إطلاق الرومان اسم بلاد العرب على الجنوب التركي.
وعلى خلاف المؤرخين العرب، يرى المؤرخون الغربيون والروس مثل مينورسكي ومار وكونيك، أن الأكراد أحفاد الميديين من الجنس الآري من العائلة الإيرانية التي هي فرع من العائلة الهندو-أوروبية، وهذا ما يؤيده المؤرخون الأكراد أنفسهم كالبدليسي وصامد الكردستاني ومحمد أمين زكي وجمال البدري، وتشير الدراسات إلى أن لغتهم كذلك تتفرع عن اللغات الهندو-أوروبية، ضمن لهجات مختلفة.
وعلى الرغم من الاختلاف بشأن أصول الأكراد، فإن المؤرخين يتفقون على قدم الوجود الكردي في المنطقة، بين قسم يقطن المنطقة منذ فجر التاريخ، وقسم هاجر من الشمال في القرن التاسع قبل الميلاد.
أما عن توزعهم الجغرافي، فيتوزعون – اليوم – في بقعة جغرافية متجانسة بطابعها الجبلي، على حدود العراق وتركيا وإيران وسوريا وأرمينيا وأذربيجان، ضمن ما يُعرف بـ”إقليم كردستان” الذي يتكون من أربعة أقسام: يُشكل القسم الأول المنطقة الجنوبية الشرقية من تركيا، ويُشكل القسم الثاني منطقتي غربي أرمينيا وإيران، ويُشكل القسم الثالث منطقة الشمال الشرقي من العراق، والقسم الرابع المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا – الذي سنتحدث عنه فيما بعد -، مع وجود لأقليات في لبنان وأذربيجان وروسيا، ومهاجرين يتوزعون في أوروبا وآسيا.
تشير التقارير أن أعداد الأكراد تصل إلى 5.2 مليون نسمة في العراق، ويقدرون – لغياب الإحصاءات الدقيقة – بـ15 مليون نسمة في تركيا، أي ما يُقارب 20% من سكان تركيا و52% من أكراد العالم، وفي إيران يتراوح عددهم بين 8 و10 ملايين نسمة، أي ما بين 10 و12% من سكان إيران.
وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن نسبتهم 8% في سوريا، أي 1.6 مليون نسمة، وحسب آخر إحصاء رسمي أُجري عام 2004 فإن نسبتهم 5.31%، أي ما يُقارب مليون شخص، مع الإشارة إلى تعذر إجراء إحصاء رسمي في ظل التغيرات الديمغرافية اليومية الحاصلة بسبب الفوضى العسكرية القائمة في المنطقة، وهم بذلك يُعتبرون رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط، وهي لا تملك أي دولة.
من الممارسات التي نلحظ وجودها اليوم أيضًا ولها بعد تاريخي، محبتهم للرقص والموسيقى، فالموسيقى وطرق الرقص الكردية لها طابعها الخاص اليوم، وبالأخص استخدامهم البزق وبدرجة أدنى المزمار والدف
أما عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية، فقد اعتنق الأكراد الإسلام على المذهب السني، بعد أن كانوا يدينون بالزرادشتية، واتبعوا المذهب الشافعي، فيما بعد، بشكل لافتٍ للنظر، ويشير المؤرخ الكردي محمد أمين زكي إلى عدم تمكن الإسلام في قلوب الأكراد إلا بعد فترة من الزمان بقوله: “هذا والشعب الكردي رغم اعتناقه الديانة الإسلامية بقي مدة من الزمن لا يستسيغها تمامًا، فكان يقاوم سلطتها ونفوذها حينًا بعد حين بتأثير وتشجيع المتعصبين من رجال الدين القدماء، لكن الإسلام رسخت قواعده أخيرًا في قلوب الأكراد، الذين أدركوا تمام الإدراك بساطة الدين الإسلامي وملاءمته لفطرتهم السليمة، فأخلصوا له أكثر من إخلاص شعوب إسلامية أخرى، حيث دافعوا عنه في مواقف كثيرة دفاع الأبطال والمتفانين في حبه”، وقد سبب لهم هذا الانتماء مشاكل كثيرة في إيران وأذربيجان الشيعيتين.
إلى جانب هذا يوجد قسم من الأكراد في تركيا وإيران على المذهب الشيعي الجعفري، وكذلك طوائف كردية يتبعون ديانات توفيقية من الإسلام وغيره من الديانات، وأشهرهم اليزيدية، التي ترجع أصولها إلى الزرادشتية أو المانوية حسب بعض المؤرخين، و”أهل الحق أو علي إلهي” الذين يؤلهون علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، كما هو واضحٌ من اسمهم، وينتشرون بأعداد متفاوتة على طول المناطق الكردية، كذلك يوجد قسم من الأكراد العلويين في تركيا تصل أعدادهم إلى مئات الآلاف حسب بعض التقديرات.
أما الحديث عن طبائع الشعب الكردي، فلم يعد من السائغ اليوم إطلاق الأحكام عن طبائع معينة تخص شعبًا أو إثنيةً دون أخرى، وذلك بسبب انفتاح المجتمعات المعاصرة على بعضها البعض والتبادل الثقافي الذي يحدث بينها، لكن في السابق ميز المؤرخون والمستشرقون عددًا من الجوانب التي تميز الحياة الاجتماعية الكردية عن غيرها من المجتمعات، من ذلك أن الأكراد يلتفون حول زعيم كائنًا من كان، وأنهم يطيعون هذا الزعيم طاعةً عمياء، وينقسمون إلى طبقات اجتماعية (زراع وأصحاب حرف).
كذلك وُصفوا بأوصاف قريبة إلى أوصاف العربي التقليدية كمتانة الأخلاق والغيرة وكرم الضيافة، ولعل ذلك نابع من طبيعة المنطقة الجبلية القاسية التي يسكنونها، فقد جاء في دائرة المعارف الإنجليزية: “والكردي بشوشٌ، طيب القلب، شديد الغيرة، محب للضيوف”.
وهناك أمر يسهل ملاحظته في المجتمعات الكردية القديمة والحديثة، وهو حضور المرأة بشكل ظاهر أكثر من المجتمعات المجاورة، وقد جاء بدائرة المعارف الإنجليزية أيضًا: “والمرأة الكردية تتمتع بقسط كبير من الحرية البريئة أكثر من نساء الترك والفرس”، وقد لاحظ بعض المستشرقين حضور المرأة في الحياة السياسية وتزعمها في بعض الأحيان، وهذا الأمر نستطيع ملاحظته إلى اليوم.
ومن الممارسات التي نلحظ وجودها اليوم أيضًا ولها بعد تاريخي، محبتهم للرقص والموسيقى، فالموسيقى وطرق الرقص الكردية لها طابعها الخاص اليوم، وبالأخص استخدامهم البزق وبدرجة أدنى المزمار والدف، وكذلك كانت في السابق حسب المستشرقين، وكذلك احتفالهم برأس السنة الكردية، ما يُعرف بـ”النيروز أو النوروز”، الذي ترجع بدايته إلى ما قبل الإسلام.
أكراد سوريا
بعد التأسيس لرؤية المشهد الكردي في المنطقة، نستطيع الآن الشروع بالحديث عن أكراد سوريا، الذين لهم صلات تاريخية واجتماعية وثقافية مع أكراد المنطقة كما رأينا، لمحاولة الربط بين الأحداث الداخلية والمجاورة وتأثير كل منهما على الآخر.
يقسم المؤرخون، عادةً، الوجود الكردي في سوريا بناءً على بُعدين: الأول: بُعد التاريخ، وتعود جذوره إلى القرن الحادي عشر الميلادي، أي إلى الأكراد الذين قدموا بصحبة حملة صلاح الدين الأيوبي إلى الشام، وانتشروا في المدن الساحلية الشامية، وهذا القسم ما لبث أن اندمج بالكامل مع سكان المنطقة وتعرب تعريبًا كاملًا، كحال جبل الأكراد في الساحل السوري، وحارة الأكراد في دمشق، وبعض مناطق حمص وحماة وريف إدلب.
الثاني: بُعد الهجرة، فقد شكلت الهجرة الكردية من تركيا إلى الجزيرة السورية وتحديدًا الحسكة، بسبب الاضطهاد التركي للقبائل الكردية بعد ثورة الشيخ سعيد بيران وما تلاها، في منتصف القرن العشرين عاملًا مهمًا في إعادة ظهور الوجود الكردي بشكل واضح في سوريا، وتوزع هذا القسم بين متبنٍ للنزعة القومية الكردية، الذي ساعد عليه الاتصال الثقافي مع أكراد الجوار والممارسات الحكومية القومية ضد الأكراد فيما بعد، ومتبنٍ للنزعة الوطنية السورية، التي كان من نماذجها إبراهيم هنانو وأديب الشيشكلي وفوزي سلو الذين صاروا جزءًا من المجتمع السوري بمعناه الوطني، وخاضوا العمل السياسي كسوريين فقط.
لكن الواقع أن هذا التقسيم فيه شيء من التعميم، فالأكراد كانوا جزءًا فاعلًا من مجتمعات المنطقة، ولم يكونوا شعبًا مغلقًا على نفسه تمامًا، لذلك كان يوجد الكثير من الأكراد في سوريا الطبيعية أي قبل ظهور الدولة السورية بمعناها القومي، كما كان يوجد عرب في الأناضول أو أتراك في سوريا، وما شابه، وهذا له امتداد ثقافي إلى اليوم عند مسني الأكراد، فذاكرتهم الجمعية بقيت محتفظة بتصنيفات قديمة، كوصفهم أكراد سوريا بـ”أكراد تحت الحد/الخط” وأكراد تركيا بـ”أكراد فوق الحد/الخط”، حسب ما أفاد به بعض الأصدقاء الأكراد.
يُعتبر غالبية أكراد سوريا من السنة، وقد كان للبعض منهم اهتمام خاص وبروز على مستوى التعليم الديني والطرق الصوفية، وقد تعرضت جهودهم في تطوير التعليم الديني في سوريا إلى الإغفال المتعمد
إذًا يُعتبر أكراد الحسكة القسم الأكبر من أكراد سوريا ويتركزون بشكل أكبر في ريف الحسكة، إلى جانب أكراد حلب، الذين ينتشر غالبيتهم في ريفها في منطقتي عفرين وعين العرب، فضلًا عن وجودهم في اثنين من أحياء مدينة حلب، وهما حي الأشرفية وحي الشيخ مقصود، وفي دمشق يتركز وجودهم في حي ركن الدين، المعروف بـ”حي الأكراد”، كذلك يوجد عدد ضئيل في الرقة، وذلك وفقًا للأعداد التي أشرنا لها سابقًا، ولهم وجود ضئيل في بعض المناطق الأخرى بحكم عوامل التنقل الداخلي.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه التقسيمات كذلك ترجع إلى مرحلة ما قبل الثورة، فبعد قيام الثورة، وظهور مناطق خاصة بالأكراد ظهرت بعض التغيرات الديمغرافية التي يصعب رصدها الآن.
أما عن خريطة التدين في سوريا فيُعتبر غالبية أكراد سوريا من السنة، وقد كان للبعض منهم اهتمام خاص وبروز على مستوى التعليم الديني والطرق الصوفية، وتعرضت جهودهم في تطوير التعليم الديني في سوريا إلى الإغفال المتعمد، وعلى الرغم من ذلك فقد برزت أعمالهم كبناء المساجد والتكايا والعمل على كسب حقوق الأكراد بوسائل مختلفة، واشتهر عدد من العلماء الكرد في دمشق خاصة، اختلفت مواقفهم السياسية، كأحمد الخزنوي وأولاده وحفيده معشوق، ومحمد كفتارو وابنه أحمد، ومحمد سعيد رمضان البوطي، وغيرهم.
هذا إلى جانب حضور ظاهر لليزيديين أو الإزيديين، الذين ينقسمون إلى مجموعتين رئيسيتين منفصلتين تقطن أحدهما منطقة الجزيرة الفراتية، والأخرى منطقة جبل الكرد (كرد داغ)، وتتراوح تقديرات أعدادهم بين العشرة آلاف والخمسين ألف نسمة، ويُذكر أن أغلبهم اختار الهجرة إلى خارج سوريا بسبب المضايقات الدينية.
هذه الجولة المتعددة الجوانب حول الأكراد في سوريا والمنطقة، ستفيدنا في خلق نظرة أكثر غناءً وشموليةً في فهم المشكلة الكردية في سوريا، وبداياتها في التاريخ الحديث ومآلاتها اليوم، في المقال القادم.