طيلة الـ 10 سنوات التي تلت ثورة 17 فبراير/ شباط، عانت ليبيا التي تملك أكبر احتياطات نفطية في أفريقيا من الحرب والانقسام، جرّاء التنافس على السلطة والحكم بين جزئيها الغربي والشرقي وانتشار السلاح بين الميليشيات، فقد تحولت من بلد ينعم نسبيًّا بالوفرة والانتعاش إلى اقتصاد مفكَّك ومنهار، كما تحول أغلب سكانها إلى فقراء ولاجئين في دول العالم.
رغم أن تلك الأعوام كانت ثقيلة على مستوى التحولات السياسية والاجتماعية، إلا أنها كانت حمّالة للفرص الحقيقية لإرساء منوال تنموي اقتصادي يكون رافعة للنهوض بباقي القطاعات الحيوية، كالتعليم والصحة والتكنولوجيا، التي همّشها نظام القذافي لعقود طويلة مقابل اعتماده على عائدات الريع النفطي كمصدر أساسي لمالية الدولة.
ريع القذافي
حتى الإطاحة بالنظام الديكتاتوري لمعمر القذافي الذي حكم البلاد لـ 42 عامًا، كان الاقتصاد الليبي يرتكز على الإيرادات النفطية لتوفير مختلف الحاجيات الأساسية والسلع في السوق، وكذلك لدفع أجور وعلاوات مالية للمواطنين بشكل ضمن لهم آنذاك قوة شرائية من بين الأفضل على مستوى أفريقيا.
في تلك الفترة، عمل النظام السابق على توفير الخدمات العامة والمواد التموينية دون مقابل أو بأسعار مدعومة، ما جعل الليبيين ينعمون في عهده، رغم القمع وإسكات كل صوت معارض، بنوع من الاكتفاء الاقتصادي بسبب المداخيل النفطية، فخلال سنوات الألفين كان الناتج الداخلي الصافي الأعلى في القارة الأفريقية في ليبيا.
كما عمل العقيد على تأسيس صندوق الثروة السيادي الليبي عام 2006، الذي يملك أوراقًا ماليةً وأصولًا قُدِّرت بنحو 67 مليار دولار، من أجل استثمار الفوائض المالية في الخارج، وهي مبالغ ضخمة لتسيير أمور اقتصاد في بلد عدد سكّانه أقل من 6.5 مليون نسمة.
في مقابل ذلك، لم يكن الاقتصاد الليبي في عهد الجماهيرية بالصلابة التي من شأنها أن تؤسِّس لروافع تنموية متعددة وتمهِّد لنهضة بأشكالها المتنوعة، وبشكل عام لم تحصد البنى الاقتصادية من نظام القذافي إلا احتكار نخبة محدودة للثروة والسلطة تقوم بتدويرها فيما بينها، وحتى القطاع الخاص كان يعيش على العقود الحكومية، أي أنه قطاع غير خلّاق ومبتكر.
أولاد العقيد الـ 9 وزوجته يسيطرون على أغلبية قطاعات الاقتصاد، ومنها النفط الذي يشكّل الثروة الحقيقية للبلاد
فمنذ انقلاب القذافي عام 1969 وتركيزه اللجان الثورية وغيرها من الآليات السياسية الشكلية، كانت المؤسسات الحيوية في خدمة المصالح الشخصية الضيقة للعقيد وأبنائه والدوائر المقرَّبة منه، وبذلك ألحقت سياسته الاقتصادية التي تعتمد على الريع النفطي المفرط وتوزيعه على المناطق والقبائل بحسب درجة الولاء للسلطة، أضرارًا جسيمة بمقومات التنمية وببنى النسيج الاجتماعي للدولة.
تشديد آل القذافي قبضتهم على الاقتصاد الليبي والثروة قبل 17 فبراير/ شباط، لم يكن خافيًا على الداخل كما الخارج، حيث أكّد المحامي الليبي وعضو محكمة الجنايات الدولية بلاهاي، الهادي شلوف، أن “الدراسات الاقتصادية أثبتت أن حجم الأموال التي جنتها ليبيا من عائدات النفط منذ عام 1969 تقدَّر بـ 3 تريليونات دولار، وأن نصف هذا المبلغ ذهب إلى خزينة القذافي وأبنائه”، فيما كشفت تسريبات موقع “ويكيليكس” تعود إلى عام 2006، الحضور الكثيف والواسع لعائلة العقيد معمر القذافي في شرايين الاقتصاد الأساسية.
أكّد “ويكيليكس” أن البرقية الأمريكية الدبلوماسية كشفت أن أولاد العقيد الـ 9 وزوجته يسيطرون على أغلبية قطاعات الاقتصاد، ومنها النفط الذي يشكّل الثروة الحقيقية للبلاد، فسيف الإسلام القذافي الذي كان يُنظَر إليه كخليفة محتمَل لوالده في الحكم، يمتلك حصة من الثروة النفطية الليبية عبر الشركة الوطنية العامة التي تدير هذا القطاع الحيوي.
الساعدي القذافي وضع يدَيه على قطاع العقارات وأطلق عام 2006 مشروع بناء مدينة كاملة في منطقة تملك قيمة سياحية كبيرة، بينما يدير محمد القذافي قطاع الاتصالات وكان رئيسًا لمجلس إدارة الشركة العامة للبريد والاتصالات السلكية واللاسلكية، التي كانت تمتلك وتقوم بتشغيل اتصالات الهواتف المحمولة والأقمار الصناعية.
أمّا القطاعات التجارية الأخرى التي انتعشت، خاصة بعد عام 2003 تاريخ رفع الحصار، فكانت تسيطر على القسم الأكبر منها زوجة العقيد معمر القذافي صفية وابنتها عائشة.
محاولات النهوض
في 17 فبراير/ شباط 2011، انهار نظام العقيد القذافي وبدأ الليبيون بمحاولات رسم ملامح جديدة على المستويَين السياسي والاقتصادي من خلال إعادة إحياء مؤسسات الدولة والمشاريع المعطَّلة المقدَّرة قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات، بدعوة الشركات الأجنبية لاستئناف أنشطتها وإقامة أطر وآليات الحوكمة القادرة على تحقيق التنمية المستدامة.
لكن في السنوات الأولى للثورة، واجه الليبيون معضلات جمّة أهمها عجزهم عن استعادة الأموال المهرَّبة وحجم الدمار الذي لحقَ بالقطاعات الإنتاجية الكبرى في البلاد، والمنوال التنموي غير المجدي الذي ورثته عن النظام السابق والقائم على ريع النفط (ميزانية الدولة تعتمد على إيرادات النفط بنسبة 95%)، وعجز الحكومات المتتالية التي خلّفت وراءها تراكمات وتناقضات بسبب إجراءاتها الارتجالية وسياساتها الاقتصادية، على طرح بديل تنموي قادر على تحقيق النهضة والتحول.
هذه الوضعية تعمّقت أكثر بعد تغوُّل الميليشيات المسلحة في الغرب والشرق وسيطرتها على الموانئ والحقول النفطية، وتغلغلها في الشأن السياسي والاقتصادي للدولة بفرض التعيينات والإعفاءات وتحكُّمها في الصفقات، وبعد انتشار الإرهاب الذي ساهم بدوره في هروب الشركات الأجنبية والعمالة الوافدة وفي تعثُّر عملية الإصلاح والهيكلة.
أمام عجز القادة الجدد على إضفاء تغييرات جوهرية في الاقتصاد الليبي، لاعتبارات سياسية وأخرى راجعة إلى غياب الخبرة والتجارب، واصلت الحكومات المتعاقبة اعتماد مقاربة نظام القذافي في اعتماده على الريع النفطي، إذ إن 99% من ميزانية البلاد تذهب فقط للإنفاق الاستهلاكي، بينما لا تحظى التنمية والاستثمار إلا بـ 1%.
الانقسام ومعركة السلطة
أدّى صراع السلطتَين الساعيتَين إلى الحكم في ليبيا، إحداهما في الغرب (حكومة معترف بها دوليًّا) والثانية في الشرق بقيادة خليفة حفتر وحليفه رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح، إلى انقسام المؤسسات التنفيذية (السيادية) والعسكرية وإلى توقف تصدير النفط في أكثر من مناسبة، وارتفاع الدين العام الذي بلغ بحسب تقرير البنك الدولي نحو 207 مليارات دينار بسبب الإنفاق المزدوج خلال السنوات الماضية (انقسام البنك المركزي بين غرب وشرق عام 2014)، أي ما يعادل 450% من حجم الناتج المحلي الإجمالي.
تفاقمت الأزمة الاقتصادية بوجود مصرفَين مركزيَّين: مصرف ليبيا المركزي في طرابلس ومصرف آخر موازٍ له في الشرق، وهو أمر أعاق السيطرة على سياسة البلد النقدية
استمرار الصراعات الدموية والسياسية وارتفاع حجم الإنفاق العسكري وكتلة الأجور في القطاع العام، دفعت السلطات إلى استهلاك الاحتياطات المالية للبلاد، حيث تراجعَ المخزون بشكل دراماتيكي من نحو 108 مليارات دولار عام 2013 إلى أقل من 43 مليار دولار في غضون أقل من 3 سنوات.
تفاقمت الأزمة الاقتصادية بوجود مصرفَين مركزيَّين: مصرف ليبيا المركزي في طرابلس ومصرف آخر موازٍ له في الشرق، وهو أمر أعاق السيطرة على سياسة البلد النقدية، وفي وقت سابق كشف مسؤولون ليبيون عن قيام مصرف التجارة والتنمية، بمنح قرض بقيمة 6 مليارات دينار ليبي (4.4 مليار دولار بالسعر الرسمي)، مباشرةً لصالح ميليشيات حفتر، ليبلغ مجموع الأموال التي تحصّل عليها اللواء من 3 بنوك واقعة في الشرق 25.18 مليار دولار.
هذا التصريح أكّد الدور الذي لعبته بنوك شرق ليبيا في توفير السيولة المالية لحفتر، للقيام بهجومه على طرابلس ومختلف مناطق المنطقة الغربية، كما أقرَّ في موضع آخر بطباعة اللواء المتقاعد للأموال (15 مليار دولار) خارج قنواتها الرسمية (روسيا).
وكان المصرف المركزي الموازي أحدث “منظومة مصرفية ونظام مقاصة يدوي”، أدّى إلى ارتفاع أرصدة المصارف لديه، المخالفة للقانون، بحيث بلغت 43 مليار دينار ليبي (31.6 مليار دولار) تعجز المصارف عن استخدامها للوفاء بالتزامات زبائنها.
الحرب والانهيار
على الصعيد ذاته، لعب هجوم ميليشيات حفتر على طرابلس في 4 أبريل/ نيسان 2019، وغلق الحقول والموانئ النفطية، الدور الأساسي في وصول البلاد إلى حافة الإفلاس والانهيار، إذ غيّرت الحرب جميع المعطيات الاقتصادية والاجتماعية، وعاش الليبيون أزمة طويلة المدى بدأت بالانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي الناجم عن آلية طرح الأحمال، مرورًا بعجز الدولة على إصلاح البنى التحتية وكبح جماح ارتفاع البطالة والتضخُّم.
أدّى الصراع إلى انكماشٍ حادّ في الاقتصاد بعد أن انخفض الناتج المحلي الإجمالي وتراجعت معدلات الاستثمار، إضافة إلى تقلُّص الاستهلاك بسبب عودة العمّال الأجانب إلى بلدانهم الأصلية وتراجع دخل المواطنين الليبيين، وتباطؤ التجارة الخارجية نتيجة الانخفاض الكبير في صادرات بعض المنتجات الرئيسية كالنفط الذي اقتربت مداخيله عام 2020 من الصفر، في الوقت الذي سجّلت أكثر من 53 مليار دولار عام 2012.
هناك عوامل أخرى أدّت إلى تفاقم الخسائر الاقتصادية، مثل تدمير الأصول الرأسمالية في القطاعات الحيوية كالنفط والإنشاءات والزراعة والتصنيع، وتراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية، وتحويل الموارد المخصَّصة للرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم والبنية التحتية إلى الإنفاق العسكري.
في سياق متّصل، قدرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية (الإسكوا)، في تقرير نشرته في وقت سابق، الكلفةَ الإجمالية للصراع في ليبيا منذ اندلاعه عام 2011 حتى اليوم بمبلغ 783 مليار دينار ليبي، أي نحو 576 مليار دولار أمريكي وفقًا لسعر الصرف الرسمي.
حذّر التقرير أيضًا من أن كلفة الصراع سترتفع بشكلٍ حاد إذا لم يُوقَّع اتفاق سلام في السنوات المقبلة، فوفقًا لتقديرات “الإسكوا”، إذا استمرَّ الصراع حتى عام 2025 قد يضيف ما يساوي 462 مليار دولار أمريكي على الكلفة الاقتصادية، أي 80% من الكلفة في السنوات العشرة الماضية.
غلاء وتوقُّعات
الخطط والبرامج الاقتصادية التي طبّقتها الحكومات المتوالية كتغيير سعر الصرف، لم تغيِّر الكثير من أحوال المواطنين المعيشية، إذ لا يزال غلاء الأسعار مستمرًّا والمصارف خالية من السيولة النقدية، إلى جانب استمرار الفجوة في سعر صرف الدولار في السوق السوداء.
وبحسب مصادر رسمية، فإن غالبية الضروريات الأساسية ارتفعت أسعارها بأكثر من 50% عام 2020، ويُعزى الأمر إلى القيود التي فرضها المصرف المركزي في طرابلس، وكذلك الجائحة التي أدّت إلى تفاقم الأزمة، فيما يرجّح مراقبون أن خطوة زيادة المرتّبات دون إجراء إصلاحات هيكلية في المنظومة الاقتصادية سيعمِّق الأزمة ويطيلها.
على الجانب ذاته، توقّعت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) ارتفاعًا في معدلات التضخُّم من 11% إلى 15.4%، والانكماش بنسبة 3.8% وفاتورة الاستيراد ونسبة البطالة بين الليبيين كأعلى نسبة في المنطقة، بسبب تدهور أسعار النفط.
حلول مقترحة
بات من المؤكد أن العقبات التي تواجه الاقتصاد الليبي لا تقتصر على الحرب والتدخل الأجنبي الذي عمل على إطالة الأزمة لغايات جيواستراتيجية تخدم مصالحه، فليبيا ما بعد الثورة تعيش على وقع الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها من مجموعة المستفيدين من عمليات نهب المال العام بطرق غير مشروعة.
لكن عملية الإصلاح ليست بالمستحيلة، فليبيا بحاجة فقط إلى إجراءات عاجلة وملحّة لدعم الاقتصاد الذي يعاني من مشكلات عميقة ومعقّدة، ومن بينها، على المستوى السياسي إنجاح الاستحقاقَين الانتخابيَّين الرئاسي والتشريعي، وصعود سلطة موحَّدة قادرة على فرض القانون والأمن في كامل أرجاء البلاد من الغرب إلى الشرق، وإجراء مصالحة وطنية تهدف لوضع أُسُس السلم الاجتماعي وقواعد التعايش، ورفض التدخلات الأجنبية السلبية في شؤون ليبيا الداخلية.
إضافة إلى تجميع قطع السلاح المنتشرة في كامل البلاد وتفكيك الميليشيات والكتائب المسلحة، ورفع الغطاء القَبَلي عن التنظيمات الخارجة عن القانون، ووضع خطط وبرامج اقتصادية واجتماعية عاجلة ضمن جدول زمني على المدى القريب والمتوسط والبعيد، والقيام بإصلاحات هيكلية في صلب مؤسسات الدولة الحيوية، وتشجيع القطاع الخاص بسنّ القوانين والتشريعات اللازمة.
كما يعد دعم قطاعات السياحة والفلاحة والخدمات وتعزيز قدراتها التنافسية واحدة من أساسيات الإصلاح الاقتصادي، إلى جانب إرساء رافعات تنموية جديدة قادرة على تنويع مصادر الدخل والثروة، والتوجه تدريجيًّا إلى الطاقة البديلة، وتعزيز التجارة البينية مع دول الجوار بما أنها توفر تكاليف الشحن.
راهنًا، لا توجد أي خطة أو برنامج قادرَين على تحقيق النهضة والإقلاع الاقتصادي في ليبيا، فالاستقرار السياسي المرهون حاليًّا بنجاح العملية الانتخابية وصعود سلطة مستقرة، شرط أساسي وقاعدة رئيسية لأي محاولة بناء جديد لأطر التنمية المستدامة التي تقوم على توحيد المؤسسات الرسمية وإنهاء انقسامها، إضافة إلى توفير مناخ أمني لتشجيع الشركات والمستثمرين الأجانب على العودة لاستئناف أنشطتهم.